الأمانة
عناصر الخطبة:
الأمر بالأمانة.
الأمانة صفة الأنبياء.
مفهوم الأمانة، وثقلها.
نموذج مشرق في الأمانة.
تضييع الأمانة من علامات الساعة.
(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بَصِيرا)
آية عظيمة، جمعت في كلمات يسيرة أصول الدين ومبادئه، ذكرت خير الدنيا والآخرة والسعادة فيهما، لقد أمرت بأمرين لطالما أحبتهما النفوس السوية المستقيمة.. أداء الأمانة والحكم بالعدل، عليهما تستقيم أي نفس تريد النجاة عند الله سبحانه، عليهما يقوم أي مجتمع يريد النجاح والسعادة، بل عليهما تقوم الدنيا بأسرها، فإذا اختلا ضاعت الحياة ولم تستقم على حال.. وإن هذه الآية العظيمة قد أمرت بالأمانة والعدل، وجاءت بهما في أجمل ثوب وأعظم قالب، فابتدأت بقوله: (إن الله يأمركم) فصرحت بالاسم الكريم إيذانا وتنبيها أن ما سيذكر بعدها هو من الأمور العظيمة الجليلة، فلما تهيأت النفس لتلقي الأمر العظيم السامي أمر بالأمانة والعدل، ولم يكتف بذلك حتى أعاد التنويه بشأن هذين الأمرين، فعاد وصرح بالاسم الكريم، وقال: (إن الله نعما يعظكم به).. ألا يكفي أن أعلمنا في بداية الآية أن هذا أمر الله لكم حتى نعلم أنه خير وصلاح لنا.. لكنه عاد وأخبرنا بأن أوامره كلّها خير، ومنها أمره بالأمانة والعدل، فأي تنويه وأي احتفاء هذا بهاتين القيمتين العظيمتين؟! ألهما كل تلك المنزلة في الشريعة.. نعم إن الله تعالى قد أقام نظام هذا الكون على العدل، وبعث الرسل وأنزل الكتب لإقامة العدل (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)، وأول ما دعت إليه الرسل هو التوحيد، وهو رأس العدل وأساسه، إذ فيه صرف العبادة لمستحقها.. ولما كان العدل لا يقوم في موازين البشر إلا على أيدي رجال أمناء يحفظون حدوده، وينشرون خيراته، جعل الله تعالى صفة الأمانة أهم صفة اتصف بها أنبياؤه ورسله. إن النبي صلى الله عليه وسلم كان معروفا قبل بعثته بالأمانة، بل كانت من صفاته التي ما تجرأ الكفار على الطعن فيها حتى بعدما كفر بدينهم وعاب آلهتهم، لقد كان أمينا وبقي أمينا.. وفي يوم فتح مكة، في يوم تجلى فيه نصر الله لعباده الموحدين، أبى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يرسخ هذا المفهوم في نفوس ذلك المجتمع الذي دخل تحت حكم الإسلام حديثا.. لقد ملك النبي صلى الله عليه وسلم زمام الأمور في مكة، وخضع له أهلها.. وبعدما حطم أصنامها ودمر أوثانها -إيذانا بإزالة معالم الشرك على مر العصور- أراد أن يدخل إلى داخل الكعبة ليصلي وليزيل ما بقي فيها من أوثان، فأخذ المفتاح من عثمان بن طلحة الشيبي -وكانت حجابة الكعبة في قومه- فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم قام إليه العباس، وطلب منه أن يجعل مفتاح الكعبة في عهدته، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ودعا عثمان بن طلحة، وأعطاه المفتاح وقال له: خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم. وقرأ قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها)... فصلوات الله وسلامته على معلم الناس الأمانة...
وكما كانت هذه صفة النبي صلى الله عليه وسلم فإنها كذلك صفة الأنبياء قبله، فما انفكت الصِّلة بين النبوة والأمانة يوما، فهاهم أنبياء الله نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم الصلاة والسلام كلهم يقولون لأقوامهم: ( إني لكم رسول أمين)، وها هو نبي الله موسى يتحلى بهذه الصفة في أحلك ظروف الكرب والشدة، بعدما هرب من بطش فرعون وتوجه تلقاء مدين، وساعد بنتي ذلك الرجل الصالح، فما وجدت أحداهما -وهي صاحبة فراسة- ما تقول في وصف حاله إلا أن وصفته بالقوي الأمين.. وما كانت قوته؟ وكيف كانت أمانته؟ .. قال غير واحد من الصحابة والمفسرين: إن ابنة شعيب لما قالت: (إن خير من استأجرت القوي الأمين) قال لها أبوها: وما علمك بذلك؟ قالت: إنه رفع الصخرة التي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال، وإنه لما جئت معه تقدمت أمامه، فقال لي: كوني من ورائي، فإذا اجتنبت الطريق فاحذفي لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق لأهتدى إليه... وهذه صورة عزيزة من صور الأمانة، فليسمع مروجو العهر والفجور مدعو الحضارة والتقدم كيف تكون الأمانة.. العفة أحد أعظم مكوناتها.. لكن مفهوم الأمانة واسع كبير يشمل كل معالم الدين، فالأمانة تشمل استقامة المسلم في نفسه بأداء الفرائض والواجبات، والبعد عن الكبائر والمحرمات، وتشمل استقامته في التعامل مع غيره، فلا يكذب، ولا يغش، ولا يخون، ولا يسرق من المال العام ولا من المال الخاص، يؤدي الأمانة ولا يكتمها، يؤدي دينه ولا يماطل، إنها معنى يستشعر المسلم من خلاله أن مسؤول عما يفعل، محاسب عليه بين يدي الله.. والأمانة تشمل الحاكم والمحكوم، الغني والفقير، القوي والضعيف، فلا مكان لخائن في دائرة الاستقامة... عمر قال: لا تغرُّني صلاة امرئ ولا صومه، مَن شاء صام، ومَن شاء صلى، لا دين لمن لا أمانة له.
لما كان مفهوم الأمانة عظيما وكبيرا، ناءت السماوات والأرض بحملها.. لقد عرض الله تعالى - عرض تخيير لا تحتيم- حمل الأمانة على تلك المخلوقات العظيمة فأبت وخافت (إنَّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) نعم إنها حمل كبير ثقيل، لقد حمل الإنسان الأمانة، وإنه لخاسر إلا إذا حملها بحقها، ولا يحملها بحقها إلا إذا تخلص من تلكم الصفتين المذكورتين في الآية وهما الظلم والجهل، فيرفع الظلم عن نفسه فيزكيها ويذكرها أن هناك يوما سيحاسب فيه على أفعاله، ويرفع الجهل عن نفسه فيتعلم حدود الله وشرائعه، فإذا اختل أحد هذين الأمرين أو كلاهما خسر وخاب ابن آدم..
ولقد حدثتنا الأيام عن قوم زكوا أنفسهم وعلموها، وسموا بنفوسهم وطهروها، حتى عانقوا النجوم نقاء ووفاء، وزلزلوا الجبال قوة وإباء.. إنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وتلاميذه النجباء، تعلموا منه الأمانة.. وها هي حادثة من تلك الحوادث تعطينا صورة عن مدى عظم تلك النفوس.. عن ابن أبي نجيح قال: لما أُتِي عمر بتاج كسرى وسواريه جعل يقلبه بعود في يده ويقول: والله إنَّ الذي أدَّى إلينا هذا [يقصد الصحابة الذين حطموا ملك كسرى] لأمين. فقال رجل: يا أمير المؤمنين أنت أمين الله يؤدُّون إليك ما أدَّيت إلى الله، فإذا رتعت رتعوا. قال: صدقت.
الخطبة الثانية
لقد حظيت هذه الأمة قديما بنصيب كبير من الأمانة، وعاشت في ظل عدالة الشريعة، فكانت مثالا يسكت كل منتقص للشريعة إلى يوم الدين.. وإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أصحابه بزوال الأمانة واضمحلالها في آخر الزمان، إيذانا بتصرم أيام هذه الدنيا وانقضائها وزوالها، وكيف يستمر حالها وقد ضاعت الأمانة، وحلت مكانها السرقة والخيانة، وكيف تنضبط أحوالها وقد أُكلت شريعتها، وأحل الطغاة أقوامَهم دار البوار.. لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن تضييع الأمانة من علامات الساعة، فعن أبي هُريرة رضي الله عنه قال: بينما النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدِّث القوم، جاء أعرابيٌّ فقال: متى السَّاعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدِّث. فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى إذا قضى حديثه قال: أين أُراه السَّائل عن السَّاعة؟ قال: ها أنا يا رسول الله. قال: فإذا ضُيِّعت الأمَانَة فانتظر السَّاعة. قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر السَّاعة.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم حُذيفة بن اليمان رضي الله عنه بصورة الأمانة يومئذ، وأنها ستكون في قلوب أكثر الناس كالذكرى، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: حدَّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدَّثنا أنَّ الأمَانَة نزلت في جذر قلوب الرِّجال، ثمَّ علموا مِن القرآن ثمَّ علموا مِن السُّنَّة. وحدَّثنا عن رفعها. قال: ينام الرَّجل النَّومة فتقبض الأمَانَة مِن قلبه فيظلُّ أثرها مثل أثر الوَكْت. ثمَّ ينام النَّومة فتُقْبض فيبقى فيها أثرها مثل أثر المجْل [التنفط]، كجمر دحرجته على رجلك فنَفِط فتراه منتبرًا [مرتفعًا] وليس فيه شيء، ويصبح النَّاس يتبايعون، فلا يكاد أحد يؤدِّي الأمَانَة، فيقال: إنَّ في بني فلان رجلًا أمينًا. ويقال للرَّجل: ما أعقله، وما أظرفه! وما أجلده! وما في قلبه مثقال حبَّة خردل مِن إيمان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق