الأربعاء، 31 أغسطس 2016

الإسراء والمعراج

عناصر الخطبة:
أحداث الإسراء والمعراج.
أهمية التسليم لنصوص الشرع.

(سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آيَاتِنَا إنه هو السميع البصير) .. حدث عظيم من أحداث سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومحطة مهمة جدا في تاريخ الأمة الإسلامية.. إنها معجزة الإسراء والمعراج.. إنه الحدث العظيم الذي تجلت فيه قدرة الله سبحانه وتعالى وعظمته، حدثٌ فيه من العبر الكثيرُ الكثير، وفيه من الدروس والمواعظ ما يرشد الأمة إلى عزها ومجدها.. 
في تلك الليلة من ليالي مكة.. التي كانت تعج بالأذى للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بسبب دعوتهم إلى دين التوحيد وكفرهم بكل دين سواه، وبعدما غيب الموت أبا طالب عمَّ النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كان بمثابة الدرع الحامي له من كثير من مكائد المشركين.. وبعدما غيب الموت خديجة أمَّ المؤمنين، تلك المرأة المؤمنة الصالحة التي كانت أول من صدق النبي صلى الله عليه وسلم على الإطلاق.. تلك المرأة التي واست النبي صلى الله عليه وسلم بنفسها ومالها وحملت معه همومه... وبعدما ذهب عليه الصلاة والسلام إلى الطائف داعيا إلى الله تعالى، طالبا النصر لهذا الدين، ولكنهم قابلوه بالتكذيب والأذى الشديد... بعد كل تلك الهموم التي تدك الجبال الرواسي.. جاءت المواساة من فوق سبع سماوات، وجاء الفرج بعد الشدة لمن دعا إلى الحق، جاء التثبيت من قبل رب الناس جميعا، في رحلة التقى فيها النبي صلى الله عليه وسلم بإخوانه الأنبياء الذين أوذوا وكذبوا كما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن العاقبة كانت لهم، والنصرَ كان موعدهم (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين)... 
في تلك الليلة انفرج سقف بيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، ونزل جِبْرِيل وانطلق بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى زمزم وشق صدره وغسله بماء زمزم وملأه حكمة وإيمانا، كما حصل تماما معه عليه الصلاة والسلام وهو طفل صغير، ولكن هذه المرة يهيَّؤ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأمر عظيم، وهو رحلة الإسراء والمعراج.. انطلق جِبْرِيل والنبي صلى الله عليه وسلم وهو على البراق، انطلقا إلى مكان لم تصله بعد دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد، لكنه ومنذ فجر التاريخ لم يزل على ارتباط وثيق بهذه الدعوة، ولم يزل على ارتباط وثيق برسالة رب العالمين إلى البشر، إنه المكان الطاهر المبارك.. إنه المسجد الأقصى.. صلى به النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين وخلفه الأنبياء.. وكيف لا يصلي بهم وهو إمامهم، وكيف لا يصلون معه ودينهم واحد، هو دين الإسلام، هو دين التوحيد، الذي أرسل رب العالمين رسله لأجل الدعوة إليه، ولأجل إقامته في الأرض، ولأجل أن يخرج به الناس من الظلمات إلى النور.. (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) (ولقد بعثنا في كل أمة نبيا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين).. هذه هي دعوة الأنبياء جميعا، لم يدع الأنبياء أقوامهم إلى عبادة الصلبان والأحبار والرهبان والأصنام، إنما دعوا إلى التوحيد، إلى هذا دعا موسى، ولكن اليهود حرفوا دينه من بعده، وإليه دعا عيسى ولكن النصارى حرفوا دينه وكتابه، وأدخلوا فيه التثليث، وطاعةَ الأحبار في تحريم الحلال وتحليل الحرام، فكفروا واستحقوا اللعنة والغضب (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان دَاوُدَ وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون )
صلى عليه الصلاة والسلام بالأنبياء ثم كان موعده مع العروج إلى السماء.. حان الوقت لنسيان أذى صناديد الكفر، حان الوقت لمغادرة هذه الأرض التي طالما عُصي الله فيها، حان الوقت للعروج إلى مكان الطهر، الذي يطاع فيه أمر الله ولا يعصى.. صعد جِبْرِيل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء الدنيا فاستفتح بابا من أبوابها، فقال خازن السماء: من هذا؟ قال: جِبْرِيل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به وأهلا به، فنعم المجيء جاء، ولا زال عليه الصلاة والسلام يصعد، وترحب به الملائكة، يرحب به الأنبياء، يستقبلونه بالمحبة والمودة والترحيب..... إذا طردك أهل الأرض يا محمد فأهل السماء يرحبون بك، إذا آذاك أهل الأرض فأهل السماء يفرحون بك.. وهكذا ينبغي أن يكون تفكير كل من دعا إلى الله ثم أوذي بسبب دعوته، إذا أغلقت أبواب الأرض فثمة أبواب مشرعة مفتوحة.. 
صعد به جِبْرِيل إلى السماء السابعة، وبلغ به سدرة المنتهى، ورأى الجنة وما فيها من نعيم، ورأى النار وجحيمها.. لقد رأى بعض الناس ممن حطوا رحالهم في الجنة بعدما عانوا في سبيل الثبات على الحق في وجه الطغاة.. هناك في الجنة مرَّ عليه الصلاة والسلام برائحةٍ طيبةٍ فقال: ما هذه الرائحةُ يا جبريل؟ قال: هذه رائحةُ ماشطةِ بنتِ فرعونَ وأولادِها، قال: وماشأنها؟ قال: بينا هي تمشط ابنةَ فرعونَ إذ سقطتْ المدري من يديها. فقالت: باسم الله. قالت لها بنتُ فرعونَ: أبي؟ قالت :لا. ولكن ربي وربُّك وربُّ أبيك. قالت: أَوَ لكِ ربٌّ غيرُ أبي؟ قالت: نعم، ربي وربك وربُّ أبيك الله. قالت: أقول له إذاً؟ قالت: قولي له. فدعاها فقال لها: يا فلانة.. أو لك رب غيري؟ قالت: نعم ربي وربك الله الذي في السماء. فأمر ببقرةٍ من نحاسٍ فأحميتْ ثم أمر بها لتلقى هي وأولادها فيها. فقالت: إن لي إليكَ حاجة. قال: وما هي؟ قالت : أن تجمعَ عظامي وعظامَ ولدي في ثوبٍ واحدٍ وتدفننا. قال: ذلك لكِ علينا لما لكِ علينا من الحق. فأمرَ بأولادِها فأُلقوا في البقرة بين يديها واحداً واحداً، إلى أن انتهى ذلك إلى صبيٍّ لها رضيع، وكأنها تقاعَسَتْ من أجله. فقال: يا أمَّهْ! قَعِي ولا تقاعسي، اصبري فإنك على الحق، اقتحمي فإن عذابَ الدنيا أهونُ من عذابِ الآخرة. ثم ألقيت مع ولدها. فكان هذا من الأربعة الذين تكلموا وهم صبيان.
يا لها من امرأة عظيمة.. قالت كلمة حق، ثم ثبتت عليها وتحملت تبعاتها، حتى ألقت بأولادها إلى الموت واحدا بعد الآخر، فرعون.. اسم ترتعد له القلوب إذا ذكر، قسوة قلب ووحشية وقتل وتعذيب، لكن هذا الاسم لم يرهب ذلك القلب الذي عمر بالإيمان، وكذلك الفراعنة الطغاة في كل زمان لا يرهبون قلوب المؤمنين.. ما أعظمها من مواساة للنبي صلى الله عليه وسلم، وما أجلها من موعظة لنا... 
اطّلع النبي صلى الله عليه وسلم كذلك إلى النار ورأى بعض أهلها، فكان مما رأى: أن رأى أناسا يأكلون الجِيَفَ فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحومَ الناس. وفي رواية أنه رأى قوما لهم أظفارٌ من نحاس يخمشون وجوهَهم وصدورَهم، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحومَ الناس ويقعون في أعراضهم... الغيبة عباد الله كبيرة من الكبائر، الغيبة التي صارت فاكهة المجالس عند كثير من الناس، تفسد العلاقات، وتشحن القلوب وتنشر البغضاء بين المسلمين، لا جرم أن تكون هذه هي العقوبة...
لقد صعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى، ثم صعد حتى بلغ مبلغا لم يبلغه مخلوق قط... لقد وقف جِبْرِيل كالحلس البالي، خوفا وخشية لله تعالى.. وصعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، لقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم نور الله تعالى.. وفي هذا الموقف الجليل بين يدي الله، هناك فوق السماوات السبع فرضت الصلاة على هذه الأمة.. كل الفرائض نزل بها جِبْرِيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أما الصلاة فقد صعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء لتفرض عليه.. أفَيُضيُّعها ويتهاون في أدائها من في قلبه تعظيم لرب العزة والجلال، إنها العهد الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر".. لقد فرضت خمسين صلاة ثم خففت إلى خمس، ولها أجر الخمسين، فضلا من الله ونعمة وتخفيفا ورحمة بهذه الأمة... فالحمد لله على نعمائه...

الثانية
بعد هذه الرحلة العظيمة، عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة.. لقد كان في الليل في القدس، ثم عرج إلى السماء، وأصبح في مكة، إنه يعلم أن كثيرا من كفار قريش سيكذبونه ويستهزؤون به إذا أخبرهم، لكنه كان على يقين.. لم يتطرق الشك إلى قلبه.. لقد حُمِّل أمانة ولا بد من أدائها، إنها أمانة عظيمة، وحمل ثقيل.. هكذا نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسراء والمعراج، إنه ليس مناسبة ليقيم فيها الاحتفالات والمهرجانات ثم ينبذَ كتاب الله وراءه ظهريا كما يفعله بعض الناس... أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الناسَ بما حدث، فاستهزأ به أناس، وراحوا يذيعون ذلك، لقد ظنوها فرصة لا تعوَّض لينالوا من هذا النبي ودعوته.. لم يكونوا يعلمون أن مثل هذا الحدث لا يزيد المؤمنين إلا إيمانا وثباتا.. لقد جاؤوا إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ظنوا أنهم قد أتوه بباقعة تزلزل إيمانه ويقينه، قالوا له إن صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس. قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلةَ إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوةٍ أو روحةٍ.. معادلة بسيطة سهلة.. إذا كنتُ أصدقه بأنه يأتيه الوحي من السماء، فلماذا لا أصدقه في هذه المسافة القصيرة.. أين أولئك الذين يزعمون العقلانية ويتسابقون إلى رد أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بأدنى شبهة تظهر لهم.. يحرفون الدين، ويطوعونه ليوافق حضارة العدو الغالب، ثم يزعمون أنهم يحمون الإسلام من سطوة المتخلفين، ووالله إن المتخلف حقا هو الذي يتخلف عن أمر الله ويكذّبه أو يحرفه... 

هذه بعض أحداث الإسراء والمعراج.. وهذا شيء قليل من فوائدها وعبرها.. نفعنا الله بها... وبصرنا بديننا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق