حرمة الدماء في الإسلام
عناصر الخطبة:
بداية القتل في تاريخ البشرية.
تحريم الإسلام للقتل بغير حق.
القصاص والحكمة منه.
الدماء المعصومة.
متى يحل دم المسلم؟
قصة معبرة، وحادثة مؤثرة، وقعت أحاداثها مع أول أقدام بشرية مشت على هذه الأرض.. في تلك الأيام الخالية وبعد أن هبط آدم من الجنة إلى هذه الدار إلى وقت محدود وأجل معلوم، وبعد أن رزقه الله ذرية من بينين وبنات، كانت تلك الفاجعة، التي تركت أثرا في بني آدم إلى يومنا هذا.. إنها أول حالة قتل بين بني آدم.. وقد قص الله تعالى علينا قصة هابيل وقابيل في القرآن، محذرا لنا من ذلك السلوك الخطير، ومبينا لنا بعض أسباب بغي بني آدم على بعضهم.. (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر) اثنان من أبناء آدم عليه الصلاة والسلام أحدهما تقي، والآخر ليس تقيا، قرب أحدهما قربانا لله سبحانه، فتقبل الله منه، بسبب تقواه وصلاحه، ولم يتقبل من الآخر بسبب سوء نيته، فثار الحقد والحسد في نفس قابيل وتوعد أخاه بالقتل، فما كان من هابيل إلا أن وعظه وبين له أن الله تعالى إنما يتقبل من المتقين، فإن كنت تقيا تقبل الله منك، ثم حدثه عن الأخوة والرابطة الدينية التي بينهما، وأنها رابطة رحمة لا انتقام فقال: (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين)، ثم بين له عاقبة وعقوبة سفك الدم الحرام فقال: (إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين)… ومع كل تلك المواعظ والبينات أبى قابيل إلا أن ينقاد لوساوس نفسه وشهوته وهواه، فقتل أخاه.. قصة حدثنا ربنا عنها في كتابه، إنه الحدث الجلل، إنه ما خافت منه ملائكة الرحمن، لما أعلمهم الله أنه سيستخلف بني آدم في الأرض، وهو أعلم وأحكم، (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون).. هو سبحانه الحكيم العليم الخبير بخلقه.. لقد باء قابيل بإثم أخيه، بل باء بإثم كل قاتل من بعده، لأنه هو أول من فعل هذا الفعل، وسن هذه السنة السيئة، قال عليه الصلاة والسلام: «لا تقتل نفسٌ ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفلٌ من دمها؛ لأنه أول من سنَّ القتل» ق.
بل إن الله تعالى بين بعد ذكر هذه القصة أن من قتل نفسا واحدة بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا، لعظم هذه الجريمة وخطرها، (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا). قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: من استحل دم مسلم فكأنما استحل دماء الناس جميعًا، ومن حرَّم دم مسلم فكأنما حرَّم دماء الناس جميعًا.
لقد توعد الله سبحانه من قتل مؤمنا بالعذاب في نار جهنم فقال: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا).
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل القتل أعظم الذنوب بعد الشرك فقال: «أكبر الكبائر: الإشراك بالله، وقتل النفس، وعُقوق الوالدين، وقول الزور، أو قال: وشهادة الزور».
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم سفك الدم الحرام من الأمور التي تضيق على العبد سبل التوبة، فقال: «لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً». وأخبرنا أن الدماء هي أول ما يقضى به بين الناس يوم القيامة، فقال: «أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء». وقال: «أن المقتول يجيء متعلقًا بالقاتل تشخب أوداجه دمًا فيقول: أي رب، سل هذا فيم قتلني؟». وبين عظم حرمة دم المسلم فقال: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم» وقال: «لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار».
عباد الله! لم تكتف الشريعة الإسلامية بهذه النصوص التي فيها الوعيد يوم القيامة، بل جاءت بالتشريعات التي تقطع دابر هذه الجريمة بين الناس، فالناس أصناف: منهم من تردعه المواعظ ونصوص الوعيد، ومنهم من لا يردعه إلا بريق السيف، لذلك، ولأجل إشاعة الأمن والأمان بين الناس جاءت الشريعة بالقصاص، وهو قتل القاتل.. ولنتأمل في قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب)، القصاص فيه قتل للقاتل، فكيف جعله الله تعالى حياة؟ نعم جعله حياة لأن إقامة حد واحد أمام الناس كفيل بأن يجتث النوايا الشريرة من نفوس كثير من الناس، هو قتل للقاتل، لكنه حياة لنا، هو شدة على المجرم لكنه رحمة بنا.. هذه هي حكمة الشريعة.. لأنها شريعة ربانية، من العليم الخبير بخلقه، ليست اجتهادات بشرية متخبطة.. ومن رحمتها وتخفيفها أنها خيرت أهل القتيل بين طلب تنفيذ القصاص من الإمام، ولا يجوز لهم أن يأخذوا القصاص بأيديهم، لأن ذلك يؤدي إلى الفوضى، وإلى مزيد من القتل بغير حق.. وإن أراد أهل القتيل أخذ الدية أخذوها وتركوا القاتل، وإن شاؤوا عفوا من غير مقابل.
عباد الله! تساهلت التشريعات الوضعية الكفرية في إيقاع العقوبة على القاتل، بل صاروا يطالبون منذ سنوات بإلغاء عقوبة الإعدام من أصلها، وهو ما استجابت له بعض الدول إما بتشريع تشريعات تبطل هذه العقوبة، وإما بتعطيل تنفيذها، إرضاء لدول الغرب، ورضوخا تحت ضغوطها..
وإن الناظر في حال دول الغرب ليرى فشلهم الذريع في معالجة هذه المشكلة، بدليل معدلات الجريمة الخيالية فيها.. وها نحن بدأنا نكتوي بهذه النار، فصرنا نشهد حوادث القتل التي لا رادع لأصحابها، وكيف لا تكون هذه الحال في ظل عدم وجود تطبيق لأحكام الشريعة؟! لقد عاش المسلمون الأمن والأمان في ظل الحكم بالشريعة، بل عاشوا العزة والكرامة، والعجب كل العجب ممن يستبدل الذي هو أدنى هو خير (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بَصِيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى).
٢ لقد جاءت نصوص الوعيد الشديد في الإسلام تتوعد من قتل نفسا معصومة الدم بغير حق بالعذاب الشديد في الآخرة.. والنفوس معصومة الدم هي نفوس المسلمين، ونفوس أهل ذمتهم، ونفوس المعاهدين إذا التزموا بعهدهم.
قال عليه الصلاة والسلام: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله». وبيّن إثم قتل المعاهد الملتزم بعهده من غير المسلمين فقال: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة».
وأما دم المسلم فلم تبحه الشريعة إلا في حالات ارتكابه للجرائم الفظيعة التي لا تتحق المصلحة العامة، ولا تستقيم أمور الناس إلا بقتل أصحابها، كما جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسُول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه، المفارق للجماعة».
فالقتل عمدا، والزنا بعد الزواج، والرِّدة عن الإسلام من الأسباب المبيحة للدم، فهذه جرائم تخل بنسيج المجتمع، فاستحقت تلك العقوبة الرادعة، لكن الشريعة لم تجعل الأمر فوضى، ولم تجعله تابعا للهوى والظلم، والأخذ بمجرد التهمة والظِّنَّة، بل قيدت ذلك بالقيود والضوابط، وأحكام القتل والجنايات كثيرة في الشريعة الإسلامية، أحكام معتدلة، ليس فيها إفراط ولا تفريط، ليس فيها تساهل ولا تشدد، تضبط المجتمع، وتأخذ على يد الجاني.
عباد الله! في ظل جو الهزيمة النفسية التي يعيشها كثير من المسلمين، وفي ظل جهل كثير منهم بأحكام الشريعة ومحاسنها وحكمها، وفي ظل بعض الأفعال الإجرامية التي تنسب كذبا للإسلام، بات بعض أعداء الإسلام يتهمون أحكام الشريعة بأنها أحكام تدعو إلى القتل، وأن الفقه الإسلامي وتراث المسلمين فيه ما يحرض على سفك الدماء... وقد كذبوا وخسؤوا.. بل فيه العزة والكرامة، فيه الأمن والأمان.. هو وحي من حكيم خبير.. إن الكفار في الوقت الذي يقتلون فيه المسلمين في كل ناحية من نواحي الأرض، في الوقت الذي يسومون فيه المسلمين سوء العذاب، سجنا وتجويعا، واغتصابا للنساء، يخرج علينا بعض بني جلدتنا ليتغنوا بإنسانية الغرب المزعومة، وليصبوا حقدهم على الشريعة الإسلامية، ولو أن ذلك العلماني أجال طرفه في الواقع حوله، وعاد بذهنه إلى التاريخ، لعلم من هو السفّاح، ولانقلب إليه طرفه خاسئا.. إنهم عندما يأتون ليحاكموا ديننا يلبسون ثوب الحمل الوديع، ويدَّعون مثالية كاذبة وهمية، لا تؤدي إلا إلى الفوضى، وأما إذا أرادوا مصلحتهم نسوا ما كانوا يدعون إليه، فعاثوا فسادا وقتلا وتخريبا.. لكن المصيبة الأكبر هي فيمن يغتر بهم من أبناء جلدتنا، وينسى تاريخه المشرق.. نعم هو مشرق مشرق وإن رغمت أنوف المنافقين...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق