الاثنين، 26 ديسمبر 2016

مقال مختصر حول بعض الشبه فيما يتعلق بتكفير اليهود والنصارى


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد
فإنه ومع احتفال النصارى بما يسمونه عيد ميلاد الرب كل عام، تثور عبر وسائل التواصل بعض الاعتراضات على تحريم مشاركة النصارى في هذه المناسبة؛ وفي سياق مدافعة من يحب الاحتفال بهذه المناسبة من المسلمين تظهر شبهة تقول إن اليهود والنصارى ليسوا بكفار، وإنهم من أهل الكتاب، ويذكرون في ذلك بعض الشبه، والتي ما كانت تخطر على بال المسلمين سابقا لوضوح أمرها؛ ولكن بسبب تأثر كثير من المسلمين بسلطة ثقافة العدو الغالب، صرت ترى من يحاول أن يجد مخرجا من هذا الحكم الصعب على بعض النفوس المهزومة… هذا الحكم الذي هو من أصول الإسلام، والذي لم يخالف فيه مسلم على مر العصور.
فأحببت أن أذكر بعض أدلة الكتاب والسنة التي دلت صراحة على كفر اليهود رالنصارى، ثم تعرضت لبعض الشبه التي يثيرها بعض الناس في هذا السياق.
سائلا المولى سبحانه أن ينفع بها.

أدلة تكفير اليهود والنصارى
  • قال تعالى: ( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة). 
  • وقال: ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم).
  • وقال: ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة)
  • وقال: ( لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان دَاوُدَ وعيسى ابن مريم)
  • قال صلى الله عليه وسلم : " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ" رواه مسلم (١/ ١٣٤) (١٥٣)
  • وقال تعالى -مبينا كفر من ليس مسلما- : (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين).
  • وقال تعالى: ( إن الدين عند الله الإسلام). 
  • وقال: (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق).
وقد أجمع علماء المسلمين على ذلك.

شبه حول تكفير اليهود والنصارى 

- كيف تكفرون اليهور والنصارى وقد سماهم الله أهل كتاب؟
الجواب: أن تسميتهم أهل كتاب لا تعني أنهم ليسوا كفارا، فالله سماهم أهل كتاب لأنه أنزل عليهم كتبا من عنده، فأنزل التوراة على موسى لليهود، وأنزل الإنجيل على عيسى للنصارى، ولكنهم حرفوها وما استقاموا عليها؛ فكان في تسميتهم أهل كتاب مع اختلافهم وتفرقهم وانحرافهم بيانا لذمهم، فإنهم لم يستقيموا مع أن الله أنزل إليهم كتبا، كما قال تعالى عنهم: (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم)، (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة).


- كيف تكفرون اليهود والنصارى وقد أباح الله لنا الزواج منهم، وأباح أكل ذبائحهم؟
الجواب: إباحة الأكل من ذبائحهم والزواج منهم لا تعني أنهم ليسوا كفارا، فالله تعالى هو الذي كفّرهم في كتابه، وهو الذي أباح لنا الزواج منهم، استثناء لهم من عموم الكفار في هذه المسألة فقط، وليس في الحكم بكفرهم.

- عمر رضي الله عنه عاهد نصارى القدس فيما يعرف بالعهدة العمرية، وسمح لهم بممارسة شعائرهم، وهذا يدل على عدم كفرهم.
الجواب: أن هذا لا يدل على عدم كفرهم، وأما ما يتعلق بالعهدة العمرية فإنه كان فيها فرض الجزية على النصارى، كما قال تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)، فهل تقولون بهذا؟!
وقد منعهم عمر من رفع صلبانهم على الكنائس ومن دق نواقيسهم، ومن إظهار شعائرهم الدينية الشركية، وفرق بين السماح بممارسة العبادة الشركية داخل الكنيسة، وبين السماح بإظهاراها.

- أهل الكتاب من اليهود والنصارى مشركون وليسوا كفارا.
الجواب: الشرك نوع من أنواع الكفر، ويكون باتخاذ معبود مع الله سبحانه، تصرف له العبادة بأي صورة من صورها.
والنصارى قد زعموا أن عيسى هو ابن الله، فوصفوه بصفات الألوهية والربويية وعبدوه من دون الله، وصرفوا العبادات كذلك لرهبانهم.
والله تعالى حكم بكفرهم لأجل هذا فقال: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة)، وقال عنهم: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون).

- قال تعالى: (إن الذين آمنوا والذن هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، فالله تعالى ذكر احتمال نجاة من آمن بالله واليوم الآخر من اليهود والنصارى، فكيف تكفرونهم؟!
الجواب: قد دلت الأدلة المحكمة الصريحة الواضحة على كفر اليهود والنصارى كما في قوله: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم)، (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) وغيرها كما تقدم… أما هذه الآية فإنها تتحدث عن من بقي على التوحيد ولم يقع في تحريف الدين من اليهود والنصارى قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما بعد بعثته فلا يقبل عند الله تعالى إلا اتباعه عليه الصلاة والسلام، لأن الله وصف القرآن بأنه مهيمن على الكتب السابقة (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه)، وقال عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلا كان من أهل النار».

- اليهود والنصارى يقرّون بوجود الله فهم ليسوا كفارا إذا.
الجواب: أن الكفر ليس منحصرا في إنكارا وجود الله تعالى، بل إن من أنكر وجود الله تعالى عبر التاريخ كانوا قلة، وغالب كفر الأمم المكذبة للرسل كان بالشرك، كما قال تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كان أكثرهم مشركين).
وهل كان كفر كفار قريش إلا شركا بالله سبحانه… لقد كانوا يقرون بوجود الله تعالى، كما قال تعالى: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله)، ولكنهم كانوا يتخذون آلهة تقربهم إلى الله تعالى وتشفع لهم عنده، كما قال تعالى عنهم: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى).
وهذا هو سبب كفرهم.

- أنتم أيها الوهابيون السلفيون تكفرون اليهود والنصارى لأنكم متشددون، وأنتم شاذون عن الأمة الإسلامية في ذلك.
والجواب: أن تكفير اليهود والنصارى ليس قول السلفيين فقط، بل هو قول الفرق الإسلامية كلها، من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية والصوفية وغيرهم، لم يخالف في ذلك مسلم على مر العصور… وما ظهر هذا القول إلا بعد تغلب النصارى على المسلمين في هذا الزمان، وبسطوا ونشروا ثقافتهم بين المسلمين.

- تكفير النصارى يؤدي إلى ظهور العمليات الإرهابية التي تقتلهم، وقد عصم الله دماءهم.
الجواب: أن التكفير شيء، واستحلال الدماء والقتل شيء آخر، فالشريعة التي حكمت بكفرهم، قد أمرتنا بحفظ دماء أهل الذمة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة».
وقد عاش النصارى عبر العصور تحت ظل دولة المسلمين بأمن وأمان، ولم يتعرض لهم أحد، مع أن المسلمين جميعا كانوا يعتقدون كفرهم.

- الله تعالى أمر ببرهم والإحسان إليهم، كما قال: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم).
والجواب: البر والمعاملة الحسنة ليس لها علاقة بالعقيدة، فالمعاملة الحسنة الظاهرة بهدف تحبيبهم في الدين شيء مطلوب، لكن ليس له علاقة بعقيدتك فيهم، وانظر كيف فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الأمرين لما زار جاره اليهودي ودعاه إلى الإسلام، فأسلم اليهودي ثم مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي أنقذه بي من النار»، فقوله: «الذي أنقذه بي من النار» يدل على أن ذلك اليهودي كافر وأنه كان سيدخل النار لو أنه مات على كفره، وهذا لم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم من زيارته ودعوته إلى الإسلام.
وهذا هو التسامح الذي يدعوا إليه الإسلام.


الجمعة، 11 نوفمبر 2016

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

عناصر الخطبة:
بنو إسرائيل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
خطورة السكوت عن المنكرات في ضوء نصوص شريعة الإسلام.
من الآثار السيئة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون) 
هذه الآية الكريمة هي آية من سورة الأعراف، جاءت ضمن آيات كثيرة تتحدث عن عتوّ بني إسرائيل واستكبارهم على أوامر الله تعالى، وهي من الصفات المتجذّرة فيهم، ولقد حكَت لنا هذه الآيات قصة من تلك القصص، قصة تلك القرية التي مُسخ كثير من أهلها إلى قردة وخنازير… إن الله تعالى شدد على بني إسرائيل في شريعتهم، ووضع عليهم آصارا وأغلالا بسبب عتوهم وتمردهم وعدم استجابتهم لأوامر الله؛ ومن ذلك: أنه حرم صيد الأسماك على أهل تلك القرية يوم السبت عقوبةً لهم، وقد زِيدَ عليهم البلاء بأن جعل الله الأسماكَ تأتيهم يوم السبت بشكل كبير، ولا تأتي في الأيام الأخرى، حتى تمرد بعضهم واحتالوا على أمر الله تعالى بِحِيل، منها: أنهم حفروا الأخاديد على الشاطئ يوم الجمعة، وأخذوا الأسماك يوم الأحد، ثم قالوا: لم نصطد يوم السبت! وقد استوجبوا بهذا الفعل عقوبة الله وغضبه. وأما بقية أهل القرية فكانوا قسمين: قِسم اعتزل، فلم يَعْصِ ولم يتمرد، لكنه سكت ولم ينكر، وقِسم أنكر على أولئك الجناة، ووعظوهم وحذروهم من التمرد على أوامر الله تعالى… وقبل أن يقع العذاب وجه أولئك الساكتون سؤالا إلى المنكرين فقالوا: (لم تعظون قوما الله مهلكم أو معذبهم عذابا شديدا)، لماذا تعظونهم، وتأمرونهم بالمعروف، وهم قد استوجبوا العقوبة، وقد غضب الله عليهم، فأجابهم الفريق المنكر (قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون)، أي ننكر عليهم حتى نُعذَر عند الله تعالى أولا، فإن نزل العذاب فلا يكون شاملا للجميع، ثم إن هناك احتمالا -ولو كان ضعيفا -لاستجابتهم، فلعلهم يتقون ويتركوا ذلك العصيان… فلما لم يستجب أولئك العصاة عوقبوا ومُسخوا قردة وخنازير، ونجا المنكرون، وسكتت الآيات عن ذكر مصير الساكتين المعتزلين، فلسنا ندري يقينا ما حل بهم (فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون).
وهذه قصة فيها عبر وعظات عظيمة، لكن الذين نريده منها في هذا المقام، هو أن نأخذ منها أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن نستفيد منها أنه ليس من شرط العقوبة العامة التي تعم المجتمع= أن يعصي كل أفراد المجتمع، بل يكفي وقوع المنكرات الظاهرة في المجتمع من قبل مجموعة معينة من الناس، من دون نكير من الصالحين… لقد جاءت نصوص الشرع الكثيرة مؤكدة لهذا المعنى، ومبينة أن هذه هي سنة الله في خلقه… 
ما حدث في تلك القرية من إنكار للمنكر كان قليلا في بني إسرائيل، وقد أثنى الله على تلك الطائفة القليلة في أكثر من موضع، منها قوله تعالى: (من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون. يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين). 
وأما الحالة الغالبة على بني إسرائيل فكانت بخلاف ذلك، لم يكونوا ينكرون المعاصي بينهم، وإن أنكروها فهو إنكار شكلي غير حقيقي، لذلك استحقوا لعنة الله تعالى عليهم حيث قال: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يعلمون)، كانوا لا ينهى بعضهم بعضا عن ارتكاب الكفر والتمرد على أوامر الله تعالى، وإن أنكروا فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم عنهم: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم) إلى قوله: (فاسقون) ثم قال: «كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا - أو تقصرنه على الحق قصرا».
ومصداقا لذلك فقد حذرنا الله من مخالطة العصاة حال عصيانهم مع عدم الإنكار عليهم فقال: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم).
عباد الله! إن هذا المعنى وهذه السنة الربانية تؤكد لنا أن سلامة المجتمع من الآفات والبلايا والمعاصي هي مسؤولية المجتمع كله، فإذا كان الأمر يتعلق بالكفر والإلحاد والكبائر والمعاصي الظاهرة المعلنة فلا مكان للحديث عن الحرية الشخصية، وعدم التدخل في شؤون الآخرين، بل إن الذي يأكل الربا يؤثر علينا جميعا، والتي تتبرج تؤثر علينا جميعا، والذي لا يحكم الشريعة يؤثر علينا جميعا، والذي يدعو إلى الإلحاد أو العلمانية يؤثر علينا جميعا… قال عليه الصلاة والسلام: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعا». 
شبه النبي صلى الله عليه وسلم المجتمع في هذا الحديث بالسفينة، وفي أعلاها أناس وفي أسفلها أناس، فقال الذين في أسفلها: نريد أن نحدث فتحة في "نصيبنا" لأجل الماء، فإن تركوهم ليفعلوا ذلك غرقت السفينة وهلكوا جميعا، وإن نهوهم ولم يسمحوا لهم نجوا جميعا. وقال صلى الله عليه وسلم يقول : «إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه، فلا ينكرونه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة».

الثانية
فإن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له آثار سلبية كثيرة على المجتمع، فمنها: أنه سبب لعدم استجابة الدعاء بعد نزول البلاء، قال عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم».
ومن هذه الآثار السيئة: "أنه يجريء العصاة والفسقة على الإكثار من المعاصي إذا لم يردعوا عنها، فيزداد الشر وتعظم المصيبة الدينية والدنيونية، ويكون لهم الشوكة والظهور، ثم بعد ذلك يضعف أهل الخير عن مقاومة أهل الشر، حتى لا يقدرون على ما كانوا يقدرون عليه أولا".
وقد رأينا بأعيننا ونرى جرأة بعض الناس في هذه البلاد على المنكرات، وما ذلك إلا بسبب ضعف الإنكار وقلته، فما نراه من عبث بالمناهج، ومن تغريب تتعرض له المدارس، ومن مهرجانات غنائية هابطة هنا هناك، ومن دعوات إفساد المرأة وغير هذا من المنكرات = فإن ضعف الإنكار من عوامل تقوية شوكة المبطلين.
"ومنها: أن في ترك إنكار المنكر اندراسَ العلمِ وكثرة الجهل، فإن المعصية مع تكررها وصدورها من كثير من الأشخاص وعدمِ إنكار أهل الدين والعلم لها يُظن أنها ليست معصية، وربما ظن الجاهل أنها عبادة مستحسنة، وأي مفسدة أعظم من اعتقاد ماحرم الله حلالا وانقلاب الحقائق على النفوس ورؤية الباطل حقا؟!.
ومنها: أن السكوت على معصية العاصين ربما يزين المعصية في صدور الناس، ويقتدي بعضهم ببعض، فالإنسان مولع بالاقتداء بأضرابه وبني جنسه"…
(ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز. الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور).




الخميس، 20 أكتوبر 2016

من معالم الشكر

عناصر الخطبة:
أحوال الناس بالنسبة لشكر النعمة.
الانقياد للطاعة من أهم معالم الشكر.
صور من تسليم الصالحين.
كيف نشكر النعمة؟

(وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذاب لشديد) 
آية عظيمة من كتاب الله تعالى، يحكي الله تعالى فيها خطاب ووعظَ نبيِّ الله موسى عليه الصلاة والسلام لبني إسرائيل… فبعد أن ذكّرهم بنعمة الله تعالى عليهم لما نجاهم من فرعون  وقومه وذلك في قوله: (وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم)، بعد أن ذكرهم بهذه النعمة العظيمة -وما أكثر النعم التي أنعمها الله على بني إسرائيل- بيّن لهم موسى عليه الصلاة والسلام أن النعم بلاء من الله تعالى، بلاء من جهة أن الناس ينقسمون إلى قسمين عندما يمن الله عليهم بالنعم: فالصنف الأول يشكر الله تعالى على نعمته، ويقابلها بالمحبة وبمزيد من الذل والخضوع والتواضع لله سبحانه، والصنف الثاني من الناس يكفر النعمة ولا يشكرها، فلا يرى للنعمة قيمة كبيرة، ولا تترك تلك النعمة في نفسه إلا مزيدا من التمرد على أوامر الله، والاجتراء على نواهيه، ولذلك قال لهم بعد ذلك: (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد)، وهي قاعدة عامة تشمل جميع الناس ولا تختص ببني إسرائيل… 
عباد الله! إن التسليم لأوامر الله والانقياد لها، والتواضع لله، من أهم ما يدخل في شكر الله تعالى على نعمه، فهل كان هذا حال بني إسرائيل؟… لنتأمل قليلا في حالهم فإن الله تعالى قد قص علينا خبرهم في سور عدة، لنتعظ ونحذر مما وقعوا فيه… لقد بلغت نعم الله تعالى على بني إسرائيل مبلغا عظيما كبيرا، ولم يُعطِ اللهُ أحدا كالنعم التي أعطاها لبني إسرائيل في زمانهم، كما قال: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين)، وقال: (وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين)، وإن الله تعالى ليعلم مدى عتوهم وطغيانهم، لكنه سبحانه إذا أراد أن يجعل الظالم نكالا وعبرة للناس أمده بنعمه وأمهله ثم أخذه وعاقبه… لقد نجّى اللهُ تعالى بني إسرائيل من فرعون وقومه وشق لهم البحر يبسا، ومشوا فيه حتى نجوا، وتمَّمَ عليهم هذه النعمة فأغرق فرعون أمام أعينهم ليكون ذلك أشفى لصدورهم، فما كان منهم إلا أن عبدوا العجل… أنزل على موسى التوراة لتكون لهم هدى، فقالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، ثم حرفوها وبدلوا أوامر الله، واستحلوا الحرام، وحرموا الحلال… لقد أمرهم بدخول بيت المقدس مع موسى ووعدهم بالنصر الأكيد، فقالوا لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولما ضرب الله عليهم التيه عقوبة لهم، كان بهم رحيما فبعث الغمام ليظللهم، وأنزل عليهم المن والسلوى فقالوا نريد البقل والقثاء والبصل، ثم لما انتهى التيه وأرادوا دخول بيت المقدس، يسر لهم القتال وحبس لهم الشمس، وأمرهم أن يدخلوها خاضعين لله، شاكرين له على نعمائه، طالبين منه المغفرة والرحمة كما قال: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين)، فما كان منهم إلا أن حرفوا أمر الله تعالى كبرا واستهزاء فقالوا: حنطة، ودخلوا يزحفون على أدبارهم… كثيرة هي مواقفهم، وكثير هو طغيانهم… نفوس شيطانية متمردة عاتية، لا تحفظ نعمة ولا تشكر معروفا، فعاقبهم الله تعالى بعقوبات كثيرة، فضُربت عليهم الذلة والمسكنة، وسَلّط عليهم من يسومهم سوء العذاب، وشدد عليهم في شريعتهم، وقسّى قلوبهم، واستحقّوا سخط الله وغضبه إلى يوم الدين.
عباد الله! إن الله تعالى قد قصّ علينا قصة بني إسرائيل في مواضع كثيرة من كتابه وذلك لأنهم نموذج من الطغيان يتكرر في كل حين، لقد حذرنا الله تعالى من سلوك طريقتهم، فقال بعد أن ذكر قسما طويلا من قصصهم: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل)، وقال: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم)، وبين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ووضحه أحسن بيان فقال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه». قالوا: آليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!
هذا التحذير النبوي يحذرنا من سلوك تلك الطريق بمختلف تفاصيلها، يحذرنا من مقابلة نعمة الله تعالى بالاستخفاف والكبر، يحذرنا من التمرد والعتو على أوامر الله، يحذرنا من عدم التسليم والانقياد للشريعة، يحذرنا من تحريف الدين واستحلال الحرام… لا ديانة لمن لا تسليم ولا انقياد عنده للشرع.
عباد الله! بعد أن رأينا حال ذلك الجيل الشيطاني، فلنقارن ذلك الحال بحال المتقين الصالحين… هذا إمام المتقين عليه الصلاة والسلام في فتح مكة، يدخلها متخشعا متواضعا لله تعالى، قد طأطأ رأسه حتى كادت لحيته أن تمس الرحل الذي على ناقته، وكان أول ما فعل من شكر الله على هذه النعمة العظيمة أن حطم الأصنام والأوثان، مُعَلّما لنا التعامل الصحيح مع معالم الشرك والوثنية… حقها أن تحطم لا أن تُنْصَب وتُرَمَّم، ثم إنه عليه الصلاة والسلام عفا عمن أساء، ولم يعاقب من كانوا يؤذونه ويؤذون أصحابه.
أما الصحابة الكرام فقد كان التسليم من أهم معالم حياتهم الإيمانية، ها هو أبو بكر رضي الله عنه، في قصة الإسراء والمعراج يضع منهجا للتسليم لأمر الله تعالى، يسير عليه المتقون، قالوا له: إن صاحبك يقول إنه قد ذهب إلى بيت المقدس ورجع في الليلة نفسها، فقال: إن كان قال ذلك فقد صدق… انتهى الأمر! أأصدقه أنه يأتي بالخبر من السماء ولا أصدقه في مثل هذا. ولقد كانت هذه الصفة هي صفة الصحابة في كل الأمور، حُرِّمت عليهم الخمر، فألقوها في سكك المدينة حتى جرت فيها، بعد أن كانت محبوبة لهم… نزلت آية الحجاب فما برحت نساء الأنصار حتى شققن أستر ما عندهم من أقمشة وخرجن وكأن على رؤوسهن الغربان، نهاهم عن لحوم الحمر الأهلية فأكفؤوا القدور، حتى إنهم خلعوا نعالهم لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم قد خلع نعله في الصلاة، حتى بين لهم أنه ما خلعه إلا لأذى كان فيه.
إنه الجيل الصالح الذي أمرنا باتباعه، إنه طريق الهدى والنجاة عند الله سبحانه…

الخطبة الثانية
فإن شكر الله تعالى على نعمه له صور عدة، وأول ما ينبغي للمؤمن أن يحرص عليه عند حصول النعمة: أن يستشعر أن هذه النعمة قد حصلت من الله تعالى وحده، وأنه العبد ضعيف مربوب لا يملك من أمره شيئا، وهذا يورثه تواضعا وذلا ومحبة لصاحب النعمة سبحانه، فإذا استقر هذا المعنى في القلب ظهر ذلك على اللسان، بشكر الله تعالى وذكره والثناء عليه والتحدث بنعمة الله من غير استعلاء على الناس، فلا ينسب النعمة لقوته ولا لذكائه ومهارته وخبرته في الحياة ناسيا ومتجاهلا فضل الله عليه، لأن ذلك من شيم الطغاة كما قال تعالى عن هامان (قال إنما أوتيته على علم عندي). وشكر الناس على ما يسدونه من معروف هو من شكر الله تعالى، فإنهم أسباب يسخرهم الله، فيشكرهم العبد مع اعتقاد أنهم مجرد أسباب وأن الله تعالى هو مسدي النعمة حقيقة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «من لا يشكر الناس لا يشكر الله».

 ثم إن على العبد أن يشكر الله تعالى بجوارحه، وذلك يكون بحسب النعمة، فإن كانت النعمة قوة في البدن سخر تلك الأعضاء في طاعة الله تعالى ومساعدة الضعفاء والحنو عليهم والتواضع لهم، وإن كانت النعمة مالا استعمله في الحلال ولم يستعمله في الحرام، ويتصدق على الفقراء والمساكين، وإن كانت النعمة علما علّم الناس ولم يَسْتَعْلِ عليهم ويحتقرْهم، وإن كانت النعمة جاها ومكانة سخَّرها في مساعدة الناس والشفاعة لهم وأصلح بين الناس… وهكذا يشكر الله في كل نعمة بما يناسبها، مع وجود أصل الخضوع والذل لله تعالى، فإذا فعل العبد ذلك منّ الله تعالى عليه وزاده من نعيمه، كما قال: (لئن شكرتم لأزيدنكم).

الجمعة، 14 أكتوبر 2016

أهمية تحكيم الشريعة
عناصر الخطبة
الأمر بالتمسك بالشريعة، والنهي عن اتباع الهوى.
ذكر بعض محاسن الشريعة.
لا إيمان بدون التسليم لأمر الله.
تخبط الغرب في تشريعاتهم.


(ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون. إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين)
آية عظية من كتاب الله تعالى، يأمر فيها سبحانه نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يتمسك بالشريعة التي أوحى الله تعالى بها إليه، وينهاه في الوقت ذاته ويحذره من اتباع أهواء الجاهلين الذين يحاولون صرفه عليه الصلاة والسلام عن التمسك بالشريعة منهجا للحكم والحياة… يحذره تحذيرا شديدا (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا)… فترك التحاكم إلى الشريعة موجب للعذاب في الآخرة… وما كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يحيد عن التمسك بالشريعة ولكنه خطاب للأمة حتى تتعظ وتعلم أن هذا الأمر لا مجال فيه للتلاعب، حتى إن أكرم خلقه عليه لو حاد عنه لتعرض للعذاب.
جاءت هذه الآية من سورة الجاثية تأمر بالتمسك بالشريعة بعد أن ذكرت آياتٌ قبلها حال بني إسرائيل بالنسبة لهذه المسألة الخطيرة، (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْـحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ. وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) يخبرنا الله تعالى أنه أعطى بني إسرائيل شريعة تصلح دينهم ودنياهم… لقد كانت هذه الشريعة بينة واضحة.. لقد أعطاهم علما يميزون به بين الهدى والضلال، ومع ذلك اختلفوا في أمر شريعتهم مع وجود العلم… فإذا كانت الشريعة بينة واضحة، وكان عندهم علم وعلماء، فلماذا اختلفوا إذن؟!
لم يكن اختلافهم إلا بسبب المكابرة والعناد، لم يكن إلا بسبب الرغبة في تقديم المصالح الدنيوية الفانية… لعلهم قالوا كما يقول العلمانيون في هذا الزمان: كيف نحكّم شريعة ربنا وقد اختلف الناس فيها، فلسنا ندري ما هي الشريعة التي أمرنا الله أن نحكم بها… كلام يقولونه ليتهربوا من تنفيد أمر الله تعالى، أيأمرنا الله تعالى بأمر ثم يجعل علينا من المستحيل أن ننفذه؟! إنه عبث يتنزه الله تعالى عنه، لكنها أنفاس يهودية قديمة تبحث عن كل مخرج لتلتف على أوامر الله تعالى وتتملص من أدائها (وما الله بغافل عما يعملون).
ولذلك كله جاء الأمر المحتم في تلك الآية، بعدم اتباع أهل الكتاب في تركهم للشريعة… جاءت ناهية للنبي صلى الله عليه وسلم عن طاعة أهواء أصحاب المصالح في عدم تحكيم الشريعة، بل شددت الآية في النهي وذكرت من الوعيد ما ذكرت، وجاء هذا الأمر في آيات أخرى منها قوله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق)، وقال تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك).
عباد الله! لقد أمر الله تعالى بتحكيم شريعته لأنه هو الذي خلق الخلق وهو أعلم بما يصلح أحوالهم في كل زمان، إنه سبحانه عليم بحال البشرية منذ أول نشأتها، عليم بدواخل نفوسهم وما تُكِنّه ضمائرهم، عليم بضعفهم، عليم بغلبة الهوى وسطوة الشهوة عليهم، وهو سبحانه منزّه عن اتباع الهوى، لا يكون حكمه إلا عدلا، ولا يكون كلامه إلا صدقا… لقد أنزل تشريعات تضمن للبشر العيش السعيد، لقد حفظت هذه التشريعات الدين فأمرت بالتصدي لشبهات المنافقين وأعداء الدين، وشرعت حد الردة في سبيل ذلك، وحفظت النفس فنهت عن قتلها بغير حق وشرعت حد القصاص، وحفظت المال فأمرت باكتسابه بالطرق الحلال، التي لا تضر المجتمع، ونهت عن الربا، والقمار والسرقة والغش، وحفظت العرض فأمرت بالزواج، ونهت عن التبرج والسفور والزنا، وحفظت العقل فأمرت بإعماله في التفكر والتأمل، ونهت عن المسكرات والمخدرات والسحر… إن هذه التشريعات تضمن العيش السعيد للبشر في الدنيا، وتوصلهم إلى جنان النعيم في الآخرة، ما زاغ أحد عن هدى الله تعالى إلا عاش معيشة ضنكا… هو وعد الله تعالى للبشرية منذ أنزل أباهم إلى هذه الأرض (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا. ونحشره يوم القيامة أعمى).
وفوق ذلك، فقد جعل الله تعالى الرضى بشريعته والتسليم لحكمه شرطا في صحة الإيمان، فلا مجال لوجهات النظر في تحليل الحرام وتحريم الحلال، فإن هذا الأمر حق محض من حقوق مقام الربوبية، قال تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّـمُوا تَسْلِيمًا)، قال ابن كثير: «يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكِّم الرسول في جميع الأمور، فما حكم به هو الحق الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهراً».
ولقد وصف الله تعالى المعرضين عن شرعه، الرافضين الانقياد له بأنهم منافقون، وأن إيمانهم مجرد زعم كاذب، قال سبحانه: (أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا. وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا. فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا)، وقال سبحانه: (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْـمُؤْمِنِينَ. وَإذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ. وَإن يَكُن لَّهُمُ الْـحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِينَ. أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِـمُونَ. إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون).

الثانية

لقد ظن الكفار بربهم أن باستطاعتهم أن يضعوا تشريعات تقودهم إلى بر الأمان في هذه الحياة، بعيدا عن الوحي الإلهي، والأمر الرباني، فوقعوا في متاهة أفسدت الفطرة البشرية، وغيرت نظام الحياة، وسارت بالبشر مسرعة نحو الهاوية… لقد بدؤوا فنحوا الدين عن الحياة، وأحلوا مكانه الإلحاد والنظرة المادية للدنيا، ثم شرعوا التشريعات، واستحلوا الحرام، نشروا الربا والنظام المالي الفاسد، القائم على مراعاة مصالح الأغنياء فقط، فجعلوا الناس ما بين غني غنى فاحشا، وما بين فقير فقرا مدقعا… غيروا النظرة الصحيحة للمرأة وجعلوها وسيلة للإعلام والتسلية العامة، فنشروا التبرج والسفور وكشف العورات، ودعوا إلى الفواحش وشرعنوها بدعوى المحبة والعلاقات العاطفية المشروعة… وتركوا المخدرات والمسكرات تتسلط على العقول البشرية، فأفسدتها وصرفتها عما ينفعها، تركوا القاتل، وأكرموا الفاسد، وحنوا على السارق، وحادّوا الله تعالى ونازعوه في ربوبيته… وإن الناظر البصير في حال أولئك الناس ليرى التفكك والانهيار القادم إليهم لا محالة… إنهم مهما علوا في الأرض فسنة الله تعالى لا تتخلف في الكون (… فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبسلون. فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين).

الخميس، 22 سبتمبر 2016

خطر الإعراض عن ذكر الله

عناصر الخطبة:
- قصة آدم ونزوله إلى الأرض.
- الطريق الحقيقي للسعادة.
- حضارة الغرب.
- أهمية تحصين المجتمع المسلم من الأفكار الهدامة.


(ومن أعرض عن ذكري فإن له معشية ضنكا. ونحشره يوم القيامة أعمى)
هذه الآية الكريمة هي جزء من قصة تخص كل إنسان على هذه الأرض، إنها قصة نزول آدم عليه السلام من الجنة إلى هذه الأرض.. بعدما خلق الله تعالى آدم -فسواه وأحسن خلقه وفضّله وعلّمه- أمره ألا يقرب شجرة معينة في الجنة، ابتلاء له وامتحانا، فما كان من الشيطان إلا أن وسوس لآدم، فأغراه بالوعود الكاذبة، ومَنَّاه بالأماني إذا هو أكل من تلك الشجرة، كما قال تعالى حاكيا لنا كلام الشيطان لآدم: (وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين)، إنها طريقة الشيطان في إغواء ابن آدم، والتي استمر حدوثها فيما بعد.. ولما كان من طبيعة البشر النسيان والغفلة أطاع آدم الشيطان راغبا في الخير الذي وعده به إبليس، فأكل من الشجرة، وعصى ربه وغوى، ثم تاب الله عليه وهداه، ولكن أمره بأن ينزل إلى الأرض، أمره بأن يفارق دار النعيم المقيم إلى حين، أنزله إلى الأرض ويسر أمور العيش فيها، وجعلها ممهدة مستقرة صالحة للعيش.. لكن الله سبحانه كان رحيما رؤوفا بعباده، فإنه لما قضى بأن يسكنوا هذه الأرض إلى حين لم يتركهم هملا، بل أرسل إليهم رسلا وأنزل إليهم كتبا، تدلهم على الطريق القويم، وتهديهم إلى الصراط المستقيم، لأن الله تعالى يعلم أن النفس البشرية قد طبعت على الغفلة والنسيان والظلم -إلا من زكى نفسه-، ولأن الله تعالى يعلم أن الشيطان لم يفتر عن الوسوسة ومحاولة إضلال ابن آدم… لقد جعل الله تعالى هذه الدار مكانا للتكليف والامتحان والاختبار، فمن لزم أمر الله تعالى وتمسك بالهدى الذي نزلت به الكتب وأرسلت به الرسل، كان سعيدا في حياته على هذه الأرض، فائزا رابحا في الآخرة، وأما من عصى واتبع الشيطان وخالف الرسل، فقد توعّده الله تعالى بعقوبتين: أحدهما: أن تكون معشيته على هذه الأرض ضنكا، لا طمأنينة فيها ولا انشراح صدر، صدره ضيق ولو تنعم، ولو أكل وشرب وعمّر الدور وجمع الأموال، يضيق بنفسه وتضيق به نفسه حتى لا يجد لذلك مخرجا، وأما العقوبة الثانية: فهي العذاب في الآخرة، يحشر هذا المعرض أعمى يوم القيامة، جزاء لتعاميه عن الحق والهدى في الدنيا… لقد جمعت الآيات كل هذه المعاني بأوجز عبارة، وأبلغ إشارة حيث قال الله تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فإن له معشية ضنكا. ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى. وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى).
عباد الله! إن أبرز خطر على الإنسان في هذه الدنيا إذا أعرض عن العمل بالإسلام والتزام أوامر الله: هو أنه سيحيى حياة تعسية ضيقة، ولو توفرت له كل متع الدنيا وشهواتها، وهذا كتاب الله ناطق بذلك، والواقع يشهد، فكم من الناس لا تنفعه كل أمواله لتوفر له استقرارا وراحةً نفسية، كم من الأغنياء بنتحرون في الغرب، ألم توفر لهم المراكب الوثيرة والمباني العالية الجميلة، والخضرة اليانعة، والمياه الجارية، ألم توفر لهم تلك السعادة التي يجدها ذلك الفقير المسلم الذي يجلس بين عياله على قوت قليل.. إنه معنى لا يفهمه إلا من فهم الآيات السابقة.
عباد الله! إن الطريق الصحيحة التي تجلب السعادة في الدنيا لا تكون إلا بالاستقامة على أمر الله سبحانه، ثم بالأخذ بالأسباب الدنيوية الموصلة إلى ما ينفع الناس، وذلك بتعلم العلوم الدنيوية، والإتقان في العمل، والصبر حتى نبلغ الغاية.. ولقد أخذ المسلمون بذلك دهرا من الزمن فدانت لهم الدنيا، وبلغوا تقدما علميا كبيرا.
وفي هذا العصر، وبسبب الهزيمة النفسية التي لحقت بكثير من المسلمين، ينبهر كثير من الناس بما عند الغرب من تقدم علمي… نعم نحن لا  نشكك في ذلك التقدم، لكن ينبغي على المسلم إذا رأى ذلك التقدم العلمي أن يضع في اعتباره أمرين: أن ينظر إلى النواحي السلبية الأخرى عندهم وهي كثيرة، وأن يعلم أن مجرد التقدم العلمي ليس ممدوحا إذا كان قائما على الكفر بالله سبحانه.. إن الأمم الغابرة التي حدثنا القرآن عنها كانت أمما عظيمة في مقاييس الدنيا، بنت المدن وأعلت الأسوار وطافت البلاد.. لقد نحتت ثمود بيوتها في الجبال، وطافت عاد البلاد، وطغى فرعون وكون قوة عسكرية قوية… فهل نفعهم ذلك مع كفرهم… ما كان تقدمهم إلا سببا في زوالهم.
أما صور النقص والتقصير عند الغرب فكثيرة، سببها وأساسها أنهم ظنوا أن بإمكانهم أن يقودوا البشرية إلى السعادة دون الحاجة إلى الوحي المنزل من عند الله، فراحوا يسنون القوانين والتشريعات بما يناسب عقولهم بكل ما فيها من كبر وغرور وشهوات، فأفرز ذلك شيئا من التقدم الدنيوي الذي يغر بريقه بعض الناس… لكن تحت ذلك البريق عوامل وأسباب كفيلة بأن تدمر أي مجتمع ولو بعد حين، فانتشار الربا وأكل مال الناس بالباطل من أعظم صور الظلم، والظلم وجوده كفيل بأن يدمر أي أمة ولو كانت قوية، وانتشار الزنا والانشغال بالشهوات كفيل بتدمير النفوس وتشويهها، وانتشارُ التبرج وعدم ستر النساء قادهم إلى ظلم المرأة وجعلِها أداة للترويج للسلع، ووسيلة للتسلية والترفيه… نسب اغتصاب لا يمكن حصرها، مع عجز ظاهر عن معالجة هذه المشكلة.. إنهم يكتفون برفع شعار حقوق المرأة… وأما ما عندهم من تفكك اجتماعي فلا تسل عنه، لا الوالد يعرف ابنه، ولا الابن يعرف أباه… لقد حاولوا أن يصلوا إلى السعادة فأعلوا المباني، وجملوا الحدائق، فما ازدادت نفوسهم إلا ضيقا وتعاسة، فزادت نسب الانتحار عندهم كثيرا… لا تتعجب.. فعندما تفتن النفس بحب الدنيا وتخلو من الديانة ومراقبة الله تعالى فإنها سوف تتبع هواها، وبناء على هواها سوف تقرر ما تتبناه من عقيدة وفكر، ثم تشد ذلك البنيان وتقويه وكأنه فكر ناضج نافع للبشرية، وهذا هو الضلال بعينه، فتنظيم أمور الحياة بكل تفاصيلها يحتاج إلى علم تام، يحتاج إلى تجرد عن الرغبات الشخصية، وأنى لابن آدم أن يتجرد عن هواه! ومن أين له العلم التام بالتفاصيل، وبالحاضر والمستقبل!
(أفحكم الجاهلية يبغون. ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون)

الثانية
في هذه الدنيا.. ما أكثر من يحاول الإصلاح فيفسد أكثر مما يصلح، يحاول التقدم بتقليد غيره، لكنه لا يحسن التقليد، ولا يريد أن يبقى على ما كان عليه، فلا هو بلغ التقدم الحضاري، ولا هو بقي على ما كان عليه، وهذا هو حال العلمانيين العرب، إنهم لم يفهموا من حضارة الغرب إلا أن الغربيين تركوا دينهم، وجعلوا النساء تتبرج، لم يفهموا من حضارة الغرب إلا أنهم شربوا الخمور وأنشاؤوا بيوت الدعارة، ونسوا الأمور التي تتعلق بالعلم لأنها أمور صعبة وتحتاج إلى وقت، وكان هذا هو ملخص رؤيتهم للسعادة، فتركوا الدين وحرفوه، ودعوا إلى تحرير المرأة من الحجاب والدين، وباعوا الخمور ونشروا الرذيلة، ثم أجاعوا الناس وظلموهم ودمروا البلاد الإسلامية، ثم وقفوا وقالوا: هذه هي الحضارة، وهذا هو التقدم، فلم يفلحوا في الدنيا، ولم يسلم لهم دينهم… وهذا كله أثر من آثار الهزيمة النفسية والجهل الذي يعشيه أولئك الناس… والخلاص والنجاة مما نحن فيه عباد الله! أن نعتصم بدين الله وأن نتمسك به في ظل الهجمات الشرسة التي يتعرض لها الإسلام، وبخاصة الحروب الثقافية والفكرية التي تهدف إلى تغيير وتحريف مفاهيم الإسلام الأساسية لتوافق حضارة الغرب، وعلينا أن ننتبه إلى أبنائنا بشكل خاص، فإنهم هم أمل هذه الأمة في المستقبل، فلنربهم على أصول هذا الدين الصحيح، فلنربهم على العزة والكرامة.. على الاعتزاز بتاريخ أمة الإسلام.. عرفوهم -بأنفسكم- على أبطال الإسلام المجاهدين، وعلى الصحابة الفاتحين، بثوا فيهم الثقة بدينهم.. حصنوهم ضد الأفكار الهدامة.. لعل الله يكتب النصر على أيدهم.

الأحد، 11 سبتمبر 2016

خطبة عيد الأضحى ١٤٣٧

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، توجهت له القلوب حبا وإقبالا، وخضعت له الرقاب عبودية وإجلالا، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، وإمام الحنفاء الموحدين، وعلى آله وأصحابه المجاهدين الفاتحين.
أما بعد فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى..
الله أكبر..
نحمده سبحانه حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه أن بلغنا هذا اليوم العظيم، يوم الحج الأكبر، يوم النحر، يوم الطاعات والقُربات، يوم إعلان ذكر الله تعالى وشعائره.. 
لقد من الله علينا بشهود أول هذا الشهر الفضيل، وشهدنا بالأمس يوم عرفات، يوم المغفرة والرحمة والعتق من النيران، وها نحن اليوم نشهد عيد الأضحى خير أيام العام، يومٌ يقوم فيه حجاج بيت الله الحرام بأكثر أفعال الحج، يحمدون الله ويكبرونه على نعمائه، ويفرح فيه المسلمون بعامة بفضل الله ورحمته، يتسامحون ويتحابون ويتواصلون، فالحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه.
الله أكبر..
لقد أنزل الله تعالى آدم إلى هذه الأرض، وجعل له ذرية يتكاثرون فيها، لكنه لم يتركهم هملا، ولم يدعهم فيها يظلم بعضهم بعضا بغير يوم يرجعون فيه إلى الحَكَم العدل، أرسل إليهم رسله تترى، بعث في كل أمة رسولا يأمر بطاعة الله وتوحيده والخضوع لجلاله، يحذرهم من عواقب إسخاطه في الدنيا والآخرة، فلا زالت الأنبياء تُبعث إلى البشرية، فمصدق ناصر للأنبياء، ومكذب هالك في الدنيا والآخرة، إلى أن جاءت فترة خلت من الرسل، فيها بقايا قليلة من الهدى، مع بقايا كثيرة محرفة من كتب أهل الكتاب، أشرك الناس بربهم، وتحاكموا إلى غير شريعته.. بغى بعضهم على بعض، وظلم بعضهم بعضا.. حتى بعث الله لهم بآخر أنبيائه ورسله، أيده بالمعجزات، وأرسله بالحجج والبراهين والبينات، ففتح الله به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا.
الله أكبر..
لقد ترك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هذه الأمة على المحجة البيضاء الواضحة، والملة المستقيمة الناصحة، بين الحلال والحرام، ولم يمت عليه الصلاة والسلام إلا وقد بين كل كبيرة وصغيرة في دين الله سبحانه.
الله أكبر..
لقد قدر الله سبحانه -لحكم كثيرة-  وجود المفسدين والمجرمين الذين يحاولون دائما تحريف دين الله تعالى، كل بحسب رغبته وشهوته، كل يزعم أنه مغترف من معين الدين، وفي واقع الأمر ما هو إلا مغترف من مستنقع هواه، ووحل شهوته وطغواه، إلا أن الله تعالى قد تكفل الله سبحانه بحفظ هذا الدين، فيسر له من يدافع عنه في كل مكان وحين، يردون عنه عبث العابثين، ولهو المبطلين.
الله أكبر..
لقد حاول أعداء الدين هزيمة دين الإسلام عن طريق القتل والتضييق والسجن والحصار، فما نالوا من عزيمة، وما خلخلوا عقيدة، وما رأوا إلا أجسادا تحن إلى الدماء، ونفوسا تشتاق للقاء باريها.. حتى راحوا يبثون فينا من بني جلدتنا من يعادي هذا الدين ويكيد له تحت شعارات براقة، يرفعون شعار الخوف عن الدين من التحريف، مقتدين بإمام الطغاة فرعون لما قال عن موسى: (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد).. فتسلحوا عباد الله بهذا الدين، وتمسكوا بثوابته، ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
واعلموا أن هذا الدين منصور رغم أنوف المجرمين، وظاهر ولو كره الكافرون، منصور بنا أو بغيرنا ولو بعد حين.
(ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون) 
الثانية
هذا اليوم يوم عظيم مبارك، فاغتنموا من بركاته، وتسابقوا إلـ خيراته، وإن التسامح بين المسلمين، وعفو بعضهم عن بعض، وإزالة الأحقاد والضغائن من أهم ما يجلب للمسلم الأجور والحسنات، فتراحموا عباد الله فإن التراحم من صفات عباد الله الصالحين كما قال تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم)، وقال عليه الصلاة والسلام: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»، وقال:«لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلام بينكم». وعن عبد الله بن عمرو قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: «كل مخموم القلب، صدوق اللسان» قالوا: فما مخموم القلب؟ قال: «هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد».
الله أكبر..
عليكم ببر الوالدين وصلة الأرحام، والإحسان إلى الأيتام، وذلك عمل يعجِّل الله ثوابه في الدنيا مع ما يدخر الله لصاحبه في الآخرة من حسن الثواب، كما أن العقوق والقطيعة ومنع الخير مما يعجل الله عقوبته في الدنيا، مع ما يؤجل لصاحبه في الآخرة من أليم العقاب.
وإياكم ومعصية الله سبحانه، امنعوا نساءكم وبناتكم من  التبرج والتساهل في الحجاب في هذه الأيام، ذكروهن وعظوهن فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على ذلك.
اللهم أعنا على ذكرك….. اللهم انصر الإسلام والمسلمين وأذل…..
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا…..وارقنا شفاعة نبيك ومرافقته في الجنان

الجمعة، 2 سبتمبر 2016

عشر ذي الحجة

عناصر الخطبة:
فضل عشر ذي الحجة، والحث على الطاعة فيها.
بعض أحكام الأضحية.

(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)
يعيش الإنسان في هذه الحياة الدنيا سائرا إلى الله سبحانه.. سائرا سيرًا حثيثا إلى أجله ونهايته، وإن العاقل الموفق هو الذي يعمر هذه الفترة القصيرة التي يعيشها في الدنيا، ويجعلها ساعات للطاعة، تكون سببا لينال مغفرة الله جل وعلا، ويفوز برضوانه وبجنات النعيم.
وإن من منة الله تعالى على هذه الأمة أنه لما جعل أعمارها قصيرة محدودة، أبدلها عن ذلك بمواسم وأيامٍ فاضلة مباركة، يُنزِلُ فيها كرمَه، ويُعَمِّمُ فيها نعمَه.. يرفع بها الدرجات، ويفتح أبواب الخيرات.. أيام يدعو الله تعالى فيها المؤمنين إلى الجد والتشمير، إلى المسارعة إلى فضله ورضوانه.
وإن من أهم تلك المواسم المباركة وأعظمها خيرا وفضلا: الأيامَ العشر الأولى من شهر ذي الحجة الحرام.. إنها أيام عظمت نصوص الشرع قدرَها وأعظمت من مكانتَها.. شهد النبي صلى الله عليه وسلم بأنها خير أيام الدنيا..
وكيف لا تكون خير الأيام وفيها تحج القلوب والأبدان إلى مهبط الوحي والتنزيل، وكيف لا تكون كذلك وقد أقسم الله سبحانه بها فقال: (والفجر وليال عشر)، وكيف لا تكون كذلك وقد اجتمع فيها من الطاعات ما لم يجتمع في غيرها، أيام فيها الصلاة والصيام وقراءة القرآن والصدقة والحج والأضاحي، أيام فيها يوم عرفة، أيام فيها يوم النحر، يوم عيد الأضحى، الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: «أعظم الأيام عند الله يوم النحر».
يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عنها وعن فضلها فيقول: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام». قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء».. يخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن العبادات والأعمال الصالحة في هذه الأيام كالصلاة والصيام والصدقة والصلة والإحسان.. يخبر أنها أحب الأعمال إلى الله تعالى، وأن أجرها في هذه الأيام أعظم وأكبر من غيرها من العبادات الفاضلة، وفي هذا حث عظيم وكبير للأمة على المبادرة إلى اغتنام هذه الأيام في الأعمال الصالحة.. ولما كان الصحابة قد تربوا على أن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، وأنه من أحب الأعمال إلى الله تعالى،  سألوا النبي صلى الله عليه وسلم سؤال المستفهم المتعلم، تساءلوا: هل العبادات في هذه الأيام خير من الجهاد في سبيل الله، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنها أفضل من الجهاد، ثم استثنى من ذلك حالة واحدة لا يساويها عمل صالح من نوافل العبادات.. إذا خرج المسلم مجاهدا في سبيل الله ومعه سلاحه ومركبه، ثم قتل في المعركة فجاد بروحه، وأخذ سلاحه، وأفضى إلى الله سبحانه فقيرا إلا من رضوانه، معدما إلا من رحمته، فهذا والله لا مماثل له في العبادات.
إنها أيام إعلان العبودية لله تعالى، أيام الثناء والتمجيد له سبحانه، يجهر المسلمون فيها بالتكبير، ويكثرون من الذكر والتسبيح والتهليل، كما قال سبحانه: (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام). وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أيام أعظم عند الله ولا أحبُّ إليه العملُ فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد». وقال البخاري: كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرها. وقال: وكان عمر يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً. وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه، وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعاً.
يغفل كثير من الناس عن هذه الأيام، ويظنون أنها أيام كغيرها من أيام العام، وقد تبين من خلال الآيات والأحاديث التي ذكرناها أنها أيام عظيمة، فضلها لا يقل عن فضل العشر الأواخر من رمضان، فيستحب فيها الإقبال على العبادات بشكل عام، كل بحسب قدرته، فالصلاة والصيام والصدقة والقرآن، والصلة والبر والإحسان وغيرها كلها ميادينُ يتسابق فيها المؤمنون إلى رضوان الله تعالى.
ومن المهم أن يستقبل العبد هذه الأيام بتوبة نصوح، وعودة إلى الطاعة، وترك للمعاصي كلها، فهذا هو عنوان الفلاح، فإن الله يوفق العبد الطائع المقبل عليه لطاعات أخرى، ويعاقب العاصي المعرض عنه بالحرمان منها.. فشدوا الهمم وتنسموا عليل الطاعة، لعل الله تعالى أن يفيض علينا من رحماته، ويسبغ علينا فضله، ويصلح دنيانا وأخرانا، (فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين).

فإن من أفضل الأعمال في هذا الموسم أن يذبح المسلم أضحية، يريق دمها تقربا إلى الله تعالى، والنحر وذبح الأضاحي من أجل العبادات التي تدل على محبة العبد لربه، حتى إن الله تعالى خصها بالذكر مع الصلاة، فقال: (فصل لربك وانحر) وقال: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين)، فيسن لمن وجد سعة من مال أن يضحي بأضحية عن نفسه وأهل بيته، توسعة على نفسه وعلى الفقراء والمحتاجين.
ومن الأحكام المتعلقة بذلك: أنه يلزم من أراد أن يضحي أن يمسك عن قص شعره وأظفاره ابتداء من أول يوم من أيام ذي الحجة إلى أن يذبح أضحيته، لقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعر وأظفاره» وهذا الحكم خاص بمن يريد أن يضحي، ولا يشمل  غيره من أهل بيته، ثم إنه ليس المقصود أن يحرم إحرما كاملا، بل المراد عدم قص الشعر والأظفار فقط، ولا شيء غير ذلك، ومن فعل ذلك ناسيا أو جاهلا فلا شيء عليه وأضحيته صحيحة، ومن نوى أن يذبح بعد دخول أيام من شهر ذي الحجة، فإن يمسك من وقت نيته، ولا شيء عليه فيما سبق من الأيام.
ويبدأ وقت ذبح الأضحية من بعد صلاة العيد، وينتهي مع غروب آخر يوم من أيام التشريق، وهو يوم الثالث عشر من ذي الحجة.

وبعد عباد الله! هذه الأيام قد أقبلت حاملة معها الخيرات، فأقبلوا على الطاعة، وارغبوا فيما عند الله سبحانه..

الأربعاء، 31 أغسطس 2016

خطورة تحريف الدين

عناصر الخطبة:
العلم بين الإحسان والإساءة.
انحراف بني إسرائيل.
اتباع بعض هذه الأمة لبني إسرائيل في التحريف.

(قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب) لقد كثرت نصوص الكتاب والسنة التي تحض على طلب علم الشريعة والتبصر فيه، لما للدين من أهمية في صلاح دنيا  الناس وآخرتهم، ولقد رفع الله تعالى شأن العلماء المخلصين عندما قرنهم في الشهادة على  أعظم مشهود، وهي شهادة لا إله إلا الله،  فقال تعالى : (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وإلى العلم قائما بالقسط ) فياله من شرف ما أعظمه، حيث أقام الله تعالى حجته  على خلقه بأنه تعالى شهد ألا إله إلا هو، وشهدت الملائكة بذلك، وشهد العلماء كذلك، فأنعم به من شرف وأكرم بها من فضيلة.
والعلم في الدين عباد الله!  نعمة عظيمة، وهو كغيره من النعم، إذا أحسن الإنسان استعمالها كانت له خيرا وثوابا، وإن أساء إليها كانت عليه شرا ووبالا، لذلك فقد عظمت عند الله عقوبة العالم الذي لا يعمل يعلمه، لأن العالم إذا فسد فسدت معه أمم، وإن صلح صلحت معه أمم، والناظر في أحوال الأمم الغابرة، وفي الواقع يرى هذا جليا أمام عينيه...أمم وأقوام لم يرعوا حق العلم الذي من الله عليهم به، أساؤوا إليه ولم يصونوه فكانت العاقبة خسرا
وهذه حكاية أمة من تلك الأمم ... قد قصها الله علينا في كتابه، وأعادها وكررها في مواضع كثيرة لعل الأمة تعتبر، إنها قصة أهل الكتاب... قصة فيها من العبر الكثير، وفيها من المواعظ ما يزلزل القلوب... لعل سؤالا قد جال في خاطر كل واحد منا وهو يقرأ القرآن... ما الحكمة من ذكر قصة أهل الكتاب بالتفصيل في سورة البقرة والمائدة والأعراف وغيرها من السور،  وما الحكمة من كون قصة نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام مع بني إسرائيل هي أكثر قصص القرآن طولا وتكرارا... والإجابة تأتينا من سيد الأنبياء عليه الصلاة والسلام حيث يقول "لتتبعن سنن من كان قبلكم حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " ولأن الصحابة قد فهموا كتاب الله حق الفهم بادروا بالسؤال : آليهود والنصارى؟  قال: "فمن".  إن الله تعالى يعلم أن كل خلل في دين هذه الأمة إنما هو من متابعة اليهود والنصارى في الكفر والضلال.
عباد الله! لقد ذم الله سبحانه أهل الكتاب ذما شديدا لأنهم اختلفوا في دينهم بعدما جاءهم العلم وبعدما جاءهم وحي السماء، لأن العلم والوحي سبب اجتماع لا افتراق، سبب ائتلاف لا اختلاف،  لكنه يكون كذلك إذا ورد على نفوس طيبة وقلوب سليمة، أما إذا ورد على قلوب مريضة بالشهوات والملهيات، ونفوس مستعبدة للدينار والدرهم والسلطة والجاه كان سببا للفرقة، لأنه حينئذ كل سيحاول تغيير وتكييف الدين على حسب مبتغاه، وهذا كان حال أهل الكتاب، وقد ذكر الله تعالى تفرقهم هذا فقال: ( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
ومن أعظم الأمور التي ذم الله تعالى أهل الكتاب بسببها أنهم حرفوا ذلك العلم الذي أنزل إليهم،  وغيروا دين التوحيد الذي أنزله الله على موسى وعيسى وسائر أنبيائهم، حرفوه إلى الشرك واتخاذ الأنداد المعبودين مع الله تعالى. ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ عبدوا رهبانهم فصرفوا لهم أنواع الطاعات والقربات، وعبدوا أحبارهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال وتغيير وتبديل أحكام الدين طبقا لشهواتهم ورغبات ساداتهم وزعمائهم.
ولقد سار كثير من المسلمين قديما وحديثا في هذا السبيل الممقوت، فغيروا وبدلوا أصولا راسخة في دين الله تعالى، بحجة عدم وضوح أو صراحة النص، مع أن الدين الذي مات عليه النبي صلى الله عليه وسلم وترك عليه أصحابه واضح بين فيما يتعلق بأصول الدين ومسلماته، مما يزيل ما في النصوص من الغموض المزعوم، قال عليه الصلاة والسلام: "تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك".
ومن أجلى صور تحريف للدين ما نراه في هذا الزمان، جرأة على أصول الدين ومسلماته بحجة أنها مجرد اجتهادات لعلماء قضوا وغبروا، حتى صار دين الإسلام عند كثير من المنحرفين دين لا معالم له ولا ملامح، لا يعدو أن يكون كلمة تكتب في الهوية... يوم أن كان الدين يكتب فيها
فكيف لمحب للدين أن يرضى بهذا وهو يرى معالم الدين تغير أمام عينيه، وأصول الدين تنقض أمام ناظريه.
كأني بذلك الليبرالي العلماني قد لبس ثوب الواعظين، وتقمص قميص الحريص على الدين من أيدي العابثين، يقوم فيقول للناس إن دين الإسلام دين سماحة لا يكفر أهل الأديان المحرفة ولا يأمر بجهاد، حتى بلغت سماحة الإسلام عندهم أن يسمع شتيمة  نبيه عليه الصلاة والسلام فيعرض عن ذلك، ويقولَ - بكل بلادة - : هذه حرية تعبير.... كأني به يدعو إلى تنحية الشريعة عن الحكم بل عن الحياة، لأنها عنده لا تصلح للحكم، وقد يتلطف بالعبارة فيقول يجب أن ننزه الإسلام عن قذارة السياسة والحكم، مع أنه لا ينزه العلمانية عن ذلك القذر
يمشي العلماني في الطريق فإذا رآى امرأة مسلمة قد ازدانت بثياب العفاف والحياء ضاق صدره، وانشغل فكره، كيف أنزع ذلك الجلباب وأجعلها متبرجة سافرة، كيف أجردها من حيائها، كيف أجعلها تختلط بالرجال، كيف أخرجها من بيتها، فينادي بأعلا صوته ...حقوق المرأة، حقها في التبرج، حقها في ألا يكون عليها ولي مسؤول عنها، حقها في أن تكون في مواقع اتخاذ القرار، حقها في أن تصاحب الشباب وتخرج معهم...  

يتبعون في سبيل الوصول إلى ذلك أخبث الأساليب، يغدقون  الأموال، يعقدون الدورات التعليمية، ينفذون البرامج الصحية،   يقيمون المخيمات الصيفية، يستغلون حاجة العاطلين عن العمل،  هم مستعدون للتازل عن بعض الأمور في البداية حتى يصلوا بالتدرج والنفس الطويل إلى ما يريدون.... (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها...)
الحجاب، تحرير المرأة

عناصر الخطبة:
سد الشريعة للأبواب الموصلة إلى الزنا.
أدلة فرض الحجاب.
التحايل على الحجاب.
مدرسة تحرير المرأة.

(يأيها النبي قل لأزواجك وبَنَاتِك ونساء المؤمنين يُدْنِين عليهم من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما)... إن حفظ العرض من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية، وإن من سمات الشريعة الغراء أنه كلما كانت المعصية عظيمة وكبيرة وذات خطر على المجتمع كلما زادت الشريعة من الحواجز المانعة من الوصول إليها، وهذا من كمال وحسن هذا الدين العظيم... وإن الزنا ذنب عظيم من أكبر الكبائر، حتى إن الله تعالى قرنه بالذكر مع الشرك والقتل في قوله: ( وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا)، ولقد نهى الله سبحانه عن مجرد الاقتراب منه بقوله: (ولا تقربوا الزنا) فكيف بالوقوع به... 
ومن باب تحريم الوسائل الموصلة إلى هذا الذنب العظيم فقد حرمت الشريعة أمورا هي طريق لخدش العفاف، فحرمت على الرجال النظر إلى النساء، وأمرت المرأة بالستر الكامل، وحرمت عليها إبداء مفاتنها، في تشريع من حكيم خبير، عليمٍ بالفطرة الإنسانية، والميل الغريزي لكلا الجنسين... 
ولا مكان هنا لتلك الدعوات التي يرددها العلمانيون التي تنادي بفتح باب الشهوات وكشف العورات، لأن ذلك يؤدي بزعمهم لأن يعتاد الناس رؤية العورات، فينطفؤ ما في النفوس من الكبت الجنسي، فعندها إذا رأى الشاب امرأة في كامل زينتها فكأنه رآى رجلا قبيح المنظر... وهذا الكلام عباد الله! لا يعدو أن يكون مغالطة ومكابرة للفطرة التي فطر الله عليها البشر؛ هاهو الرجل يتزوج المرأة السنوات الطويلة فتبقى نفسه تميل إليها.. ولو كان هذا الكلام صحيحا فما تفسير النِّسَب الخيالية من الاغتصاب والتحرش في بلاد الغرب مع أنها بلاد التبرج والسفور...!  
عباد الله! لقد فرض الله الحجاب على المرأة من فوق سبع سماوات في آيات بينات واضحات، لا تضيق بها إلا نفوس المنافقين الداعين إلى الفواحش. فمن هذه الأدلة قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ}. قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: رحم الله تعالى نساء الأنصار، لما نزلت: ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك... ) شَقَقن مُرُوطهن، فاعتجرن بها، فصَلَّين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما على رؤوسهن الغربان. وقال تعالى: (وقل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتهن....). فقوله تعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) نص صريح واضح في وجوب الحجاب، حيث أمر الله تعالى المؤمناتِ بتغطية الجيب - وهو مدخل الرأس في الثوب- بالخمار وهو غطاء الرأس، ونهى نهيا واضحا عن إبداء مواضع الزينة لغير المحارم المذكورين في الآية... وهذه النصوص الشرعية تفيد وجوب الحجاب على المرأة المسلمة، وهي نصوص واضحة صريحة لا تحتمل تفسيرا آخر. 
عباد الله! إن وجوب الحجاب هو من الأحكام الشرعية القطعية التي أجمع عليها المسلمون عبر العصور على اختلاف مذاهبهم الفقهية ومشاربهم الفكرية، ولم يشذ عن ذلك أحد من علماء المسلمين سلفًا ولا خلفًا، والقول بأن الحجاب ليس بفريضة أو أنه حرية شخصية هو كلام مخالف لِمَا عُلِم بالضرورة من دين المسلمين، وهو قولٌ مبتدَعٌ منحرف لم يُسبَقْ صاحبُه إليه، ولا يجوز نسبة هذا القول الباطل للإسلام بحال من الأحوال. 
أيها المسلمون! إن شياطين الإنس والجن لا يألون جهدا في إيقاع الناس في المعاصي، ولما علموا تمسك الناس بالحجاب لجؤوا إلى طرق فيها الالتفاف والتحايل على الحجاب، وذلك بالتلاعب بالحجاب والجلباب الشرعي بحيث يفرغ من مضمونه وغايته ويصيرُ مجردَ مظهر، فتصير المرأة متبرجة من حيث لا تشعر، ولقد انتشرت في هذه البلاد وغيرها صور كثيرة للتلاعب بالحجاب، ومن ذلك لبس البنطال - سواء كان ضيقا أو واسعا- فهو أمر مناف لحقيقة الحجاب لأنه يتنافى مع الستر... وَمِمَّا عم به البلاء كذلك تلك الجلابيب والعباءات الضيقة التي تفصل معالم الجسم، وبعضها يكون مفتوحا من الأسفل، والعباءات الرقيقة كذلك مخالفة لأنها تَصِف معالم الجسم... وهذا كله ليس لباسا شرعيا. فإن من شروط الجلباب أن يكون واسعا فضفاضا لا يُقسّم ولا يصف معالم الجسم. عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: كَسَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبْطِيَّةً كَثِيفَةً مِمَّا أَهْدَاهَا لَهُ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ، فَكَسَوْتُهَا امْرَأَتِي فَقَالَ: «مَا لَكَ لَمْ تَلْبَسِ الْقُبْطِيَّةَ؟» قُلْتُ: كَسَوْتُهَا امْرَأَتِي. فَقَالَ: «مُرْهَا فَلْتَجْعَلْ تَحْتَهَا غِلَالَةً، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تَصِفَ عِظَامَهَا». وإن من الأمور المخالفة كذلك ما يعرف بمريول المدرسة الخاص بالبنات في المدراس، ولا يخفى ما فيه من المخالفة الكبيرة للحجاب، وإن مما يدمي القلب أن تربى الفتاة في مقتبل عمرها على لبس لباس لا يسترها، وإن فرض هذا اللباس على البنات هو من إشاعة التبرج بين المسلمين... لا يجوز لبس هذا اللباس للفتاة البالغة أو التي قاربت البلوغ.. وإن من المؤسف أن بعض المدارس تجبر البنات على لبس مريول المدرسة، ولا تسمح لهن بالدخول إلى المدرسة إلا به، بحجة أنه اللباس الرسمي المقرر من التربية... تصرفات وقرارات لا يمكن فهمها إلا أنها محاربة للحجاب الشرعي، فليذهب لباسهم الرسمي المقرر إلى الجحيم... أتترك المسلمة اللباس الذي أمرها الله به من فوق سبع سماوات، وتطيع عبيدا لا يفهمون من الحضارة والتطور إلا التبرج ونشر الاختلاط... فبئس ما يشترون... انظروا عباد الله كيف جعل النبي صلى الله عليه وسلم التي تلبس لباسا لا يسترها، جعلها وكأنها لم تلبس شيئا، لأن النتيجة واحدة، بل لربما فتنت تلك المحجبة بحجاب الموضة ربما فتنت أكثر مما تفتن المتبرجة التي تكشف شعرها ولا تلبس الملابس الضيقة، قال صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: رجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة، و لا يجدن ريحها، و إن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا". وتأملوا كيف قرن الله أولئك النسوة بالظلمة الذين يضربون ظهور الناس بالسياط، وذلك لعظم خطرهن على المجتمع... إن المرأة إذا لم تلبس الزِّي الشرعي فإنها لا ترتكب معصية شخصية فقط، بل إن أذاها وفتنتها تصيب كل من يراها ويفتتن بها.. عباد الله! كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، ألا فلنتق الله في بناتنا وزوجاتنا، ألا إننا سنسأل عنهن، ولن تنفعنا طاعة غير الله تبارك وتعالى. (يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون).

الثانية

إن المرأة لها أهمية كبيرة في بناء المجتمعات المتينة، كيف لا؟ وهي أساس بيوت المسلمين، ولطالما رضع الأبطال في هذه الأمة منهن لبان العزة والكرامة، ويكفي في بيان أهمية دورها قوله عليه الصلاة والسلام: "والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها"... لكنها في المقابل قد يكون لها أثر عكسي تماما، وذلك إذا خرجت عن الدور العظيم الذي أعطاه الله إياه... ولما علم المنافقون خطورة دور المرأة في بناء المجتمع أو هدمه ركزوا عليها جهودهم، وكرسوا لها خططهم، حتى أنتجوا لنا مدرسة تسمى بمدرسة تحرير المرأة، هذه المدرسة التي نشأت في أحضان الاستعمار قد اتخذت اسما براقا جميلا، هو تحرير المرأة... يزعم دعاة تحرير المرأة أن هدفهم السامي هو رفع الظلم الاجتماعي الواقع على المرأة... نعم هناك صور تتعرض فيها المرأة للظلم كما يتعرض الرجل تماما، لكن أهذا كل ما يدعون إليه؟ ولماذا لا نرى نشاطهم المحموم إلا في بلاد المسلمين؟ إذا نظرت يا عبد الله إلى الأصل الاستعماري لنشأة هذه المدرسة انجلت لك الصورة الحقيقة، وزال عنك العشى... إن من فطنة المسلم وحكمته ألا يتلقى الشعارات الرنانة، والكلام المزخرف من غير أن يعرف مقصد صاحبها منها... وإذا رجعت إلى مؤسسي هذه المدرسة وحاملي لوائها فإنك لن ترى فيها إلا أنها معول لهدم الإسلام ... فالحجاب عندهم صورة من صور التمييز ضد المرأة، وولاية الزوج على زوجته عندهم من صور ظلم المرأة، الاختلاط عندهم من أهم حقوق المرأة، وإعطاء المرأة نصف الذكر في الميراث عندهم ظلم للمرأة، لا بأس عندهم أن تكون المرأة رئيسة دولة أو قاضية أو مأذونة شرعية، لا سلطان للرجل على المرأة أبدا حتى لو كان زوجا أو أبا، من أراد أن يرى بعينه فليطالع اتفاقية سيداو.. فلتخرج ولتتبرج كما شاءت، ولتصاحب من الشباب من شاءت، فإن تحرك شيء من الغيرة في نفس الزوج أو الأب فمنعها أو ضربها فالسجن مصيره.. أتسبعدون هذا... هذا هو الهدف الذي يهدفون إليه، وأول الطريق خطوة، ولقد ساروا بِنَا خطى فكونوا على حذر..إنهم يعملون في المدراس، ويدسون في المناهج..نشاطات ودورات..مهرجانات ومسابقات..قد وصلوا إلى أفكار كثير من البنات فلوثوها، وإلى غيرة كثير من الشباب فقتلوها.(إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون)