عشر ذي الحجة
عناصر الخطبة:
فضل عشر ذي الحجة، والحث على الطاعة فيها.
بعض أحكام الأضحية.
(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)
يعيش الإنسان في هذه الحياة الدنيا سائرا إلى الله سبحانه.. سائرا سيرًا حثيثا إلى أجله ونهايته، وإن العاقل الموفق هو الذي يعمر هذه الفترة القصيرة التي يعيشها في الدنيا، ويجعلها ساعات للطاعة، تكون سببا لينال مغفرة الله جل وعلا، ويفوز برضوانه وبجنات النعيم.
وإن من منة الله تعالى على هذه الأمة أنه لما جعل أعمارها قصيرة محدودة، أبدلها عن ذلك بمواسم وأيامٍ فاضلة مباركة، يُنزِلُ فيها كرمَه، ويُعَمِّمُ فيها نعمَه.. يرفع بها الدرجات، ويفتح أبواب الخيرات.. أيام يدعو الله تعالى فيها المؤمنين إلى الجد والتشمير، إلى المسارعة إلى فضله ورضوانه.
وإن من أهم تلك المواسم المباركة وأعظمها خيرا وفضلا: الأيامَ العشر الأولى من شهر ذي الحجة الحرام.. إنها أيام عظمت نصوص الشرع قدرَها وأعظمت من مكانتَها.. شهد النبي صلى الله عليه وسلم بأنها خير أيام الدنيا..
وكيف لا تكون خير الأيام وفيها تحج القلوب والأبدان إلى مهبط الوحي والتنزيل، وكيف لا تكون كذلك وقد أقسم الله سبحانه بها فقال: (والفجر وليال عشر)، وكيف لا تكون كذلك وقد اجتمع فيها من الطاعات ما لم يجتمع في غيرها، أيام فيها الصلاة والصيام وقراءة القرآن والصدقة والحج والأضاحي، أيام فيها يوم عرفة، أيام فيها يوم النحر، يوم عيد الأضحى، الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: «أعظم الأيام عند الله يوم النحر».
يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عنها وعن فضلها فيقول: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام». قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء».. يخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن العبادات والأعمال الصالحة في هذه الأيام كالصلاة والصيام والصدقة والصلة والإحسان.. يخبر أنها أحب الأعمال إلى الله تعالى، وأن أجرها في هذه الأيام أعظم وأكبر من غيرها من العبادات الفاضلة، وفي هذا حث عظيم وكبير للأمة على المبادرة إلى اغتنام هذه الأيام في الأعمال الصالحة.. ولما كان الصحابة قد تربوا على أن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، وأنه من أحب الأعمال إلى الله تعالى، سألوا النبي صلى الله عليه وسلم سؤال المستفهم المتعلم، تساءلوا: هل العبادات في هذه الأيام خير من الجهاد في سبيل الله، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنها أفضل من الجهاد، ثم استثنى من ذلك حالة واحدة لا يساويها عمل صالح من نوافل العبادات.. إذا خرج المسلم مجاهدا في سبيل الله ومعه سلاحه ومركبه، ثم قتل في المعركة فجاد بروحه، وأخذ سلاحه، وأفضى إلى الله سبحانه فقيرا إلا من رضوانه، معدما إلا من رحمته، فهذا والله لا مماثل له في العبادات.
إنها أيام إعلان العبودية لله تعالى، أيام الثناء والتمجيد له سبحانه، يجهر المسلمون فيها بالتكبير، ويكثرون من الذكر والتسبيح والتهليل، كما قال سبحانه: (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام). وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أيام أعظم عند الله ولا أحبُّ إليه العملُ فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد». وقال البخاري: كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرها. وقال: وكان عمر يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً. وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه، وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعاً.
يغفل كثير من الناس عن هذه الأيام، ويظنون أنها أيام كغيرها من أيام العام، وقد تبين من خلال الآيات والأحاديث التي ذكرناها أنها أيام عظيمة، فضلها لا يقل عن فضل العشر الأواخر من رمضان، فيستحب فيها الإقبال على العبادات بشكل عام، كل بحسب قدرته، فالصلاة والصيام والصدقة والقرآن، والصلة والبر والإحسان وغيرها كلها ميادينُ يتسابق فيها المؤمنون إلى رضوان الله تعالى.
ومن المهم أن يستقبل العبد هذه الأيام بتوبة نصوح، وعودة إلى الطاعة، وترك للمعاصي كلها، فهذا هو عنوان الفلاح، فإن الله يوفق العبد الطائع المقبل عليه لطاعات أخرى، ويعاقب العاصي المعرض عنه بالحرمان منها.. فشدوا الهمم وتنسموا عليل الطاعة، لعل الله تعالى أن يفيض علينا من رحماته، ويسبغ علينا فضله، ويصلح دنيانا وأخرانا، (فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين).
فإن من أفضل الأعمال في هذا الموسم أن يذبح المسلم أضحية، يريق دمها تقربا إلى الله تعالى، والنحر وذبح الأضاحي من أجل العبادات التي تدل على محبة العبد لربه، حتى إن الله تعالى خصها بالذكر مع الصلاة، فقال: (فصل لربك وانحر) وقال: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين)، فيسن لمن وجد سعة من مال أن يضحي بأضحية عن نفسه وأهل بيته، توسعة على نفسه وعلى الفقراء والمحتاجين.
ومن الأحكام المتعلقة بذلك: أنه يلزم من أراد أن يضحي أن يمسك عن قص شعره وأظفاره ابتداء من أول يوم من أيام ذي الحجة إلى أن يذبح أضحيته، لقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعر وأظفاره» وهذا الحكم خاص بمن يريد أن يضحي، ولا يشمل غيره من أهل بيته، ثم إنه ليس المقصود أن يحرم إحرما كاملا، بل المراد عدم قص الشعر والأظفار فقط، ولا شيء غير ذلك، ومن فعل ذلك ناسيا أو جاهلا فلا شيء عليه وأضحيته صحيحة، ومن نوى أن يذبح بعد دخول أيام من شهر ذي الحجة، فإن يمسك من وقت نيته، ولا شيء عليه فيما سبق من الأيام.
ويبدأ وقت ذبح الأضحية من بعد صلاة العيد، وينتهي مع غروب آخر يوم من أيام التشريق، وهو يوم الثالث عشر من ذي الحجة.
وبعد عباد الله! هذه الأيام قد أقبلت حاملة معها الخيرات، فأقبلوا على الطاعة، وارغبوا فيما عند الله سبحانه..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق