الجمعة، 1 ديسمبر 2017

المولد النبوي الشريف
عناصر الخطبة:
  • ذكر ولادته ﷺ وبعثته.
  • كيف نحب النبي ﷺ.
  • التنبيه على عدم مشروعية الاحتفال بيوم مولده الشريف.
(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم).
إن لله تعالى نعما على خلقه لا نحصرها بعد، ولا نحدها بحد، وأعظم هذه النعم  هي نعمة الهداية إلى الإيمان، فالله تعالى أرسل إلينا رسلا يهدوننا إلى الصراط المستقيم ويدلوننا على الطريق القويم.. بعث في كل أمة رسولا منهم، (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)
ثم عاشت البشرية في ظلمات لما خالفوا أوامر أنبيائهم، فأشركوا بربهم، وعصوا خالقهم، وظلم بعضهم بعضا، واستبد قويهم بضعيفهم، "ونظر الله تعالى إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب".. ولما كان الله تعالى بخلقه رحيما، لا يعذب أحدا بدون إقامة حجة، أذن الله تعالى بولادة آخر هؤلاء الأنبياء وأكرمهم عليه، وأكثرهم خيرا على البشرية.. دعا لبعثته أبوه إبراهيم، وبشر به عيسى، ورأت أمه حين حملت به أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام.. ولد عليه الصلاة والسلام يتيما، وعاش كريما صادقا أمينا، لم تعرف له قريش كذبة واحدة طوال حياته، لم يسجد لصنم، ولم يعاقرا كأسا، ولا هوى امرأة بالحرام.. ولما بلغ أربعين سنة نزل عليه الوحي والنور المبين، وأذن الله تعالى ببداية تلك القصة الإيمانية العظيمة، التي حفلت بالتضحيات، وامتلأت بالمكرمات، وأضاءت الدنيا بأسرها، بعثه الله إلى الناس كافة، بل إلى الثقلين الإنس والجن، أيده بالمعجرات والبراهين الواضحات، فكلمته الأحجار، وسعت إليه الأشجار، وحن إليه الجذع وبكى، ونبع الماء من بين أصابعه وسقى، وأعطا الله المعجزة الكبرى، والآية الخالدة.. القرآن الكريم، فأعجز به أهل الفصاحة والبيان، وجعل فيه العقائد الصافية، والحكم الغالية، والمواعظ العظيمة، والشريعة الغراء المستقيمة، ففتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا، وجاهد في سبيل الله حق جهاده، فرفع الله به راية التوحيد، وهدم رايات الكفر.. أطفأ نار الفرس، ونكس الصليب، وأنذر الطغاة ومحاهم.
إنه النور الذي بدد الظلمات، والهدى الذي نجت به البشرية من المهلكات، (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) قال ابن جرير: يعني بالنور محمدا ﷺ، الذي أنار الله به الحق وأظهر به الإسلام، ومحق به الشرك.
كأن الثريا علقت بجبينه/وفي جيده الشِّعرى وفي وجهه القمر
عليه جلال المجد لو أن وجهه/ أضاء بلَيلٍ هلَّل البدو والحضر
يقول أنس رضي الله عنه: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله ﷺ المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء.
عباد الله! لقد افترض الله تعالى علينا محبة هذا النبي العظيم، وجعل هذه المحبة من أصول الدين.. وكيف لا نحبه وقد أنقذنا الله به من الشقاء في الدنيا، والعذاب في الآخرة، وقال عليه الصلاة والسلاة: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجميعن»، فصلوات الله وسلامه على خير المرسلين، وسيد الأولين والآخرين.
وإن هذه المحبة -عباد الله- ليس كلاما يدعى، أو حلما يتمنى، بل هي محبة يخفِق بها القلب، وتظهر على الجوارح، فتطيع أمره، وتسلم لأخباره، ولا تنازعه في تشريع شرعه، قال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما).
إذا أردنا أن نعرف كيف تكون هذه المحبة حقا فلننظر في أحوال أصحاب النبي ﷺ، كيف كانوا يحبونه، حتى نعلم ما هي المحبة الحقيقة من المحبة الزائفة.
لقد أظهر الصحابة رضي الله عنهم محبتهم للنبي ﷺ بطريقة عظيمة، لقد كانوا سامعين مطيعين له، لا يترددون في تنفيذ أوامره، يقدمون طاعته على كل هوى أو رأي شخصي، أمرهم أن يولوا وجوههم في الصلاة إلى الكعبة فما ترددوا، حرمت عليهم الخمر فأروقوها في شوراع المدينة حتى جرت فيها، نهاهم عن لحوم الحمر الأهلية فأكفؤوا القدور وهي تغلي، خلع نعله في الصلاة فخلعوا نعالهم، أمر النساء أن يمشين في حافة الطريق فمشين قريبا من الجدران حتى التصقن بها، أمرهن بالحجاب فما فخرجن وكإنما على رؤسهن الغربان. 
إنهم لم يكتفوا بذلك.. بل لم يترددوا في بذل أرواحهم حماية له ودفاعا عنه… في معركة أحد وبعد ما انهزم المسلمون وصل الكفار إلى النبي ﷺ ومعه اثنا عشر رجلا.. وإن شئت فقل: اثنا عشر جبلا، لم يتردد واحد منهم في أن يقدم روحه فداء لرسول الله ﷺ، يقول جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَوَلَّى النَّاسُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي نَاحِيَةٍ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ وَفِيهِمْ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَأَدْرَكَهُ الْمُشْرِكُونَ، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: «مَنْ لِلْقَوْمِ»؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: أَنَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كَمَا أَنْتَ»، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «أَنْتَ»، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا بِالْمُشْرِكِينَ قَال: «مَنْ لِلْقَوْمِ»؟ قَالَ طَلْحَةُ: أَنَا، قَالَ: «كَمَا أَنْتَ»، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا، فَقَالَ: «أَنْتَ»، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَقُولُ ذَلِكَ وَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَيُقَاتِلُ قِتَالَ مَنْ قَبْلَهُ، حَتَّى بَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ لِلْقَوْمِ»؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: أَنَا، فَقَاتَلَ طَلْحَةُ قِتَالَ الأَحَدَ عَشَرَ حَتَّى ضُرِبَتْ يَدُهُ فَقُطِعَتْ أَصَابِعُهُ، فَقَالَ طَلْحَةُ: حَسِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَوْ قُلْتَ: بِسْمِ اللَّهِ لَرَفَعَتْكَ الْمَلائِكَةُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ». ثُمَّ رَدَّ الْمُشْرِكِينَ.
يقول قيس بن أبي حازم: رأيت يد طلحة شلاء، وقى بها الني ﷺ يوم أحد. وتقول عائشة عن ذلك اليوم: ثم أتينا طلحة في بعض الجفار [الحفر] فإذا به بضع وسبعون أو أقل أو أكثر بين طعنة ورمية وضربة. وكان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد بكى وقال: ذلك يوم كله لطلحة.
وها هو صحابي آخر يوم أحد رأى النبي ﷺ وهو يصعد على مكان عال ليرى الناس، فيقول للنبي ﷺ: يا نبي الله! بأبي أنت وأمي! لا تشرف. لا يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك. وأبو دجانة يجعل ظهرا درعا للنبي ﷺ، فينحني عليه ويتلقى الرماح بظهره.
فأي محبة هذه، وأي تضحية في سبيل الدفاع عن هذا النبي الكريم، وهذا الدين العظيم.

(الخطبة الثانية)
إن مثل هذه القصص العظيمة تعلمنا أن محبة النبي ﷺ هي بالوقوف على حدود شريعته وعدم تعديها، وكاملُ المحبةِ للنبي ﷺ هو الذي يحرص على اتباعه، وعلى عدم النقص أو الزيادة على ما جاء به، فأكبرُ برهان على المحبة هي: الطاعة. ولما ادعى أقوام محبة الله سبحانه أنزل فيهم هذه الآية امتحانا لهم واختبارا، وهي قوله: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، حقيقة المحبة هي الاتباع، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا).
عباد الله! إن هذا النبي الكريم علمنا هذا الدين كاملا، ولم يمت عليه الصلاة والسلام إلا وقد علم الصحابة كل مسألة في هذا الدين، بل أخبر أن من زاد شيئا في الدين فإن عمله باطل مردود عليه غير مقبول، كما قال عليه الصلاة والسلام: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد».
وإن كثيرا من الناس يحتفلون بيوم مولده الشريف عليه الصلاة باحتفالات، أو أمور خاصة، يتفاوتون في ذلك قلة وكثرة.. واعلموا -عباد الله- أن هذا الأمر لو كان فيه أجر وثواب لفعله النبي ﷺ أو صحابته، وهم أكثر حبا له منا، وأكثر تعظيما، فكيف إذا علمنا أنه لم يؤثر عنهم أصلا تحديد يوم مولده على وجه الدقة.
والإسلام سد باب الاحتفال والاجتماع لأي عيد غير عيد الأضحى والفطر والجمعة، وتخصيص هذا اليوم بشيء من تلك الأمور داخل في زيادة عيد على الأعياد المشروعة، ولو لم تكن نية صاحبه التقرب أو التعبد.

واعلموا أن محبة النبي ﷺ تكون باتباعه أمره، واجتناب نهيه، لا بعصيانه (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق