الجمعة، 22 ديسمبر 2017

القدس.. إسلامية الهوية
عناصر الخطبة:
  • سبب أحقية المسلمين بالقدس.
  • ارتباط المسلمين عبر التاريخ بالقدس.
  • تنبيه على حرمة مشاركة النصارى في أعيادهم.

حديثنا اليوم إن شاء الله عن القدس.. وبالتحديد عن إسلامية هوية هذه المدينة العظيمة.. وإننا إذا أردنا أن نتحدث عن النصوص الشرعية التي بينت أهمية هذه المدينة عند المسلمين، فسوف يطول بنا الحديث.. وإذا أردنا أن نتحدث عن المواقف التاريخية العظيمة التي تدل على اهتمام المسلمين بمدينة القدس فسوف يطول الكلام كذلك.. لكن حسبنا أن نقف من ذلك على شيء يسير محاولين أن نأخذ منه بعض العبر والفوائد.
اعلموا أولا -أيها الإخوة الكرام- أن أصل هذه المسألة، وهي أحقية المسلمين للقدس، ليست قائمة على مجرد حق تاريخي، وليست قائمة على استحقاق عرقي قومي فقط، بل هي مرتبطة بما هو أعظم من ذلك..إنها مرتبطة بدين التوحيد الذي أوحى الله سبحانه به إلى جميع رسله، هذا الدين الواحد -دين التوحيد- هو الذي يربط أول الأمم بآخرها، ويربط آخر التاريخ بأوله، هو الذي يوجه قلوبنا بمن ترتبط، ولمن تعقد ولاءها.. إن الله تعالى أخبرنا أنه بعث في كل أمة رسولا يدعوهم إلى هذا الدين، فقال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت)، والآيات في هذا كثيرة، ولذلك فإننا نستطيع أن نقول: إن دين الأنبياء واحد، هو دين التوحيد، لكن بعض أتباع هؤلاء الأنبياء حرفوا أديانهم، وتركوا التوحيد إلى الشرك، وتركوا تعظيم الله تعالى إلى انتقاصه سبحانه، فترك النصارى دين التوحيد الذي أوحى الله به إلى عيسى، وترك اليهود دين التوحيد الذي أوحى الله به إلى موسى.. أما نحن المسلمين، فإننا بقينا على دين التوحيد، وآمنا بكل الأنبياء، وآمنا بكتبهم قبل أن يطالها التحريف.. ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذهب إلى المدينة ووجد اليهود يصومون يوم عاشوراء شكرا لله تعالى على نجاة موسى من فوعون، صامه وقال: «نحن أحق بموسى منكم»، وهذه جملة تلخص لنا المسألة: نحن أحق بجيمع الأنبياء، وبميراث جميع الأنبياء.. نحن ننتسب إلى تلك الأمة الكبيرة: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون).. وهكذا الأرض.. الأرض جعلها الله سبحانه حقا لعباده الموحدين.. ومنها هذه الأرض المباركة.. فنحن لم نستحقها بحق تاريخي فقط، بل عندنا ما هو أعظم من الحق التاريخي، وهو الحق الديني، فبما أننا على الدين الحق، على دين التوحيد، على دين الإسلام، فهذه الأرض حق خالص لنا.. قال تعالى: (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)، وإن بني إسرائيل لما كفروا، وقتلوا الأنبياء، وعصوا الرسل= لم يعودوا مستحقين لهذه الأرض، قال تعالى عنهم: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به)، وقال: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل)، وهذه هي عقوبة الكافر.. لا حق له في الأرض المباركة.. بل لا حق له في مجرد الانتساب إلى الأنبياء.. إن اليهود والنصارى لما أرادوا أن يضفوا شيئا من الشرعية على أديانهم المحرفة انتسبوا إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فجاءهم الرد الإلهي الحاسم.. لستم على دين إبراهيم حتى تنتسبوا إليه ولو زعمتم أنكم من ذريته: (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين)، وقال: (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين).
ولذلك -عباد الله- وتأكيدا لهذه المسألة فقد جمع الله سبحانه الأنبياء جميعا، وصلوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد الأقصى في رحلة المعراج، وفي هذا تأكيد على الهوية الإسلامية لهذه المدنية، وتأكيد على استحقاق المسلمين من أتباع هذا الدين -وهو الدين الناسخ لجميع الأديان- لهذه الأرض المقدسة المباركة.
إن نسيان هذه الحقيقة أو تناسيها يضر بالمسجد الأقصى، ويضر بفلسطين ضررا بالغا، بل هو من أهم أسباب استمرار غطرسة اليهود ومن يقف في صفهم من العرب والعجم، كيف نسلخ القدس من هويتها الإسلامية الخالصة؟ إلى من نريد أن ننسبها؟ أننسبها إلى هوية قومية؟ أم إلى هوية وطنية؟ القدس أعظم من ذلك.. قولوا لي بالله عليكم.. ما الذي حرك الصحابة رضي الله عنهم، من تلك الصحراء في جزيرة العرب إلى أن يأتوا إلى هذه البلاد ويفتحوها، أليس هو ما للقدس من مكانة في الإسلام؟ وما الذي حرك صلاح الدين الأيوبي -وهو كردي- إلى أن يغير خريطة العالم الإسلامي بأسره، وإلى أن يحدث نهضة في العالم الإسلامي بأسره لأجل فتح القدس؟ أليس هو دين الإسلام؟ .. إن القدس لم تزل قديما وحديثا تحتل مكانة عظيمة في قلوب المسلمين، ولا زالت تحرك النائمين منهم.. تأموا هذا الحديث العظيم، يقول أبو ذز رضي الله عنه: تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيها أفضل أمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بيت المقدس؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه -أي المسجد الأقصى- ولنعم المصلى هو، وليوشكن أن يكون للرجل مثل شَطَنِ فرسه من الأرض -الشطن: الحبل- حيث يرى منه بيت المقدس خيرٌ له من الدنيا جميعاً، أو قال خير له من الدنيا، وما فيها».. هذا الحديث من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام، فقد أخبرنا أن هذا الارتباط الروحي الديني سوف يبقى مع المسلمين.. أخبرنا أنه سوف يأتبي زمان يتمنى المسلم أن يكون له مساحة ضيقة من الأرض حتى يرى منها هذا المسجد المبارك، وتأملوا كيف كان الصحابة يتحدثون عن المسجد الأقصى في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.. وهذا كله دلالة على اربتاط المسجد الأقصى بهذا الدين العظيم…

الخطبة الثانية

فإننا في هذه الأيام نشهد احتفال النصارى بما يسمونه عيد ميلاد عيسى عليه الصلاة والسلام.. ولا ينبغي أن يكون خفيا علينا أنهم لا يحتفلون بمجرد ولادة نبي عظيم من الأنبياء، بل إنهم يحتفلون به بناء على أنه ابن الله، وأن له خصائص الربوبية، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، يحتفلون به بناء على أن الله تعالى ولد له ولد في هذه الأيام، لذلك هم يحتفلون.. وهذه العقيدة قد أبطلها القرآن الكريم، ونبهنا على أنها ليست فقط باطلة بل هي عقيدة كفرية، كما قال تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة)، وقال: (لقد كفر الذين الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم)، بل نفرنا من هذه العقيدة، وجعلها من الأقوال الفاسدة التي تجأر الجمادات من ظلمها وسوادها، فقال: (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا)، وأخذا من هذه الآيات وغيرها من الأدلة فقد أجمع المسلمون على حرمة مشاركة النصارى في هذه الأعياد، لأنها ليس مجرد مناسبة اجتماعية، أو فرح لأمر دنيوي، بل هي مناسبة مرتبطة بعقيدة من أفسد العقائد.. وإن مما يؤسف له وجود تساهل عند بعض المسلمين في هذا، بداية من تعطيل الدوائر الرسمية في هذا اليوم، ومرورا بإقامة بعض الحفلات في ليلة رأس السنة، وانتهاء بخروج بعض الشباب للمشاركة في هذه الأعياد إلى جيث بكفر الله تعالى وينتقص من جلاله، ومع أننا نعلم أن نية أكثر المسلمين في هذا ليست الاحتفال بالكفر أو الرضى بتلك العقيدة، بل قد تحملهم الشهوات أو المجاملات أو التسامح المزعوم على ذلك، مع ذلك فهذا لا يجوز، فالمسلم مأمور بتصحيح ظاهره كما أنه مأمور بتصحيح باطنه، ولا تكفي النية السليمة هنا لتصحيح هذا الفعل القبيح، بل البالغ في القبح مبلغا كبيرا، قال عمر رضي الله عنه: لا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخطة تنزل عليهم. وقال: اجتنبوا أعداء الله في أعيادهم. وقال عبد الله بن عمرو: من مَرَّ ببلاد الأعاجم فصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة.

الجمعة، 15 ديسمبر 2017

فضل الرباط في سبيل الله 
عناصر الخطبة:
  • فضل الرباط وأهميته.
  • مكانة الشام في الصراع.
  • كيف ينصرنا الله؟
(يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون)
لطالما أكرم الله سبحانه وتعالى هذه الأمة بالنصر والتمكين، لأنها كانت تأخذ بأسباب النصر المعنوية والمادية.. كانت تحافظ على دينها وتتمسك به فتأخذ بالأسباب المعنوية، وكانت تعد العدة وتتجهز للنزال وتحرص على صنع القيادات والرجال، فتأخذ بالأسباب المادية.. فعاشت بذلك دهرا.. أمة قوية بقوة الله، عزيزة بإعزاز الله تعالى لها.
ولقد جعل الله سبحانه وتعالى الجهاد في سبيله أنواعا، وله صور متعددة، فمنها الجهاد بالنفس، ومنها الجهاد بالمال، ومنها الجهاد بالكلمة..
وإن من أهم معالم وأنواع هذا الجهاد: الرباط في سبيل الله سبحانه وتعالى.. والمراد بالرباط: هو أن تبقى مجموعة من المسلمين قريبة من الحدود مع الأعداء، تحمي أراضي المسلمين، وتذب عنها الاعتداءات. وهذه وظيفة شريفة، وظيفة عالية المنزلة في الإسلام، فإذا كان المجاهدون يفتحون البلاد ويدخلون فيها الإسلام، فإن المرابطين هم الذين يحافظون على هذه البلاد.. المرابطون هم شرف الأمة، المرابطون هم خط الدفاع الأمامي الذي يتلقى الضربات، المرابطون هم الذين يعيشون في ضيق وربما في فقر، هم الذين يعانون من عدم الاستقرار، ومن التعرض للخوف صباح مساء، لذلك -عباد الله- فإن الرباط لا يقل مكانة عن الجهاد في سبيل الله سبحانه، وأجره عظيم عند الله سبحانه وتعالى، ولقد أخبرنا النبي ﷺ عن تلك الأجور العظيمة التي تكتب للمرابطين إذا كان رباطهم في سبيل الله،  ومن هذا قوله ﷺ: «رباط شهر خير من صيام الدهر، ومن مات مرابطا في سبيل الله أمن من الفزع الأكبر، وغُدِي عليه برزقه، ورِيحَ من الجنة، ويُجرى عليه أجر المرابط حتى يبعثه الله». وتأملوا قوله: « ومن مات مرابطا في سبيل الله أمن من الفزع الأكبر» فكما أنه كان معرضا للخوف في حياته كلها أمنه الله سبحانه من الخوف في الآخرة، وتأموا قوله: «وغُدِي عليه برزقه» فكما تعرض لضيق العيش بسبب وجوده في الثغور وأماكن التّماسّ مع العدو أغدقت عليه الأرزاق والنعم في الآخرة. 
وقال عليه الصلاة والسلام: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغَدوة خير من الدنيا وما فيها». وقال ﷺ: «عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّار: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ». وقال عليه الصلاة والسلام: «كلُّ الميِّت يُختَم على عمله، إلا المُرابِطَ، فإنه ينمو له عملُه إلى يوم القيامة ويُؤمَّن من فَتَّان القبر»
وقال ابن تيمية:" المرابطة بالثغور أفضل من المجاورة في المساجد الثلاثة كما نص على ذلك أئمة الإسلام عامة ...، وهذا متفق عليه بين السلف، حتى قال أبو هريرة - رضي الله عنه - لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلي من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود. وذلك أن الرباط من جنس الجهاد، وجنس الجهاد مقدم على جنس الحج".
لكن تنبهوا -عباد الله- كيف أن النبي ﷺ ما ذكر الرباط إلا وقيده بقوله: «في سبيل الله»، ومعنى في سبيل الله هنا، هو ذات معناها في الجهاد في سبيل الله، فالرباط المشروع الذي يحصل به هذا الأجر العظيم، والذي يحصل به العز والتمكين= هو الذي تكون الغاية منه إعلاء كلمة الله سبحانه، والحفاظ على هذه الأرض إسلامية خالصة، هو الذي تكون الغاية منه إعلاء كلمة هذا الدين، وتحكيم شريعته، هو الذي تكون الغاية منه إقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر).. أما ما سوى ذلك من أهداف علمانية أو قومية فلا قيمة لها في ميزان الشريعة، بل الشريعة براء منها ومن أهلها.
ونحن في هذه البلاد.. في فلسطين قد أكرمنا الله سبحانه وتعالى بأن يسر لنا سبيلا لهذه العبادة العظيمة، يسر لنا سبيلا لندافع عن هذه الأمة، لنحمي شرف هذه الأمة، لقد قدر الله سبحانه أن نكون صمام أمان لهذه الأمة.. إذا كانت هناك حرب بين الخير والشر في هذا العالم، وإذا كانت هناك حرب بين الإسلام والكفر في هذا العالم فنحن في بؤرة هذا الصراع، ونحن محور من أهم محاوره.. إن فلسطين والقدس في هذا الزمان هما محط أنظار الجميع.. لذلك علينا أن نستشعر المسؤولية، وعلينا أن نعرف كيف ندير هذه المعركة.
إن حربنا ليست مع هذه الشرذمة فقط، بل حربنا مع دول كبيرة تقف وراءها، وحربنا مع أتباع يندسون بينا، لذلك فإننا التعاطي الهزيل مع هذه القضية لن يجدي نفعا، ولن يحرر أرضا.. إننا بحاجة إلى أن نصلح أحوالنا، ونصحح نظرتنا إلى الأمور، ونحن بحاجة كذلك إلى قائد شجاع يهتدي بكتاب الله ﷻ ويأخذ بأسباب النصر المادية والمعنوية.. 
وإلى أن ييسر الله سبحانه لنا قائدا يفهم هذه المعادلة فنحن مطلوب منا أن نرابط، مطلوب منا أن ندافع على قدر الاستطاعة، مطلوب منا أن نؤسس جيلا يحمل هذا الأمر، ويحمل هذا الدين، مطلوب منا أن نحافظ على ثوابتنا الدينية، وألا نستجيب لحملات تحريف الدين وتهمشيه، يجب أن نعتصم بهذا الدين في ظل تلك الحمللت المسعورة على مفاهيم الإسلام وثوابته، فوالله لو ضيعت الأمة كلها لما كان لنا أن نضيع، ولو فسد كل الناس ما كان لنا أن نفسد، أذكركم بقول النبي ﷺ: «إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق»، تأملوا كيف جعل هذا الحديث أهل الشام معيارا لصلاح الأمة، ومعيارا لاستقامتها، فمن أراد أن يعرف ما حال أمة الإسلام، فلينظر إلى الشام.. وهل يوجد في الشام مكان أقدس من القدس وما حولها؟! فالله الله في دينكم.. 
الخطبة الثانية
كثيرا ما يتساءل الناس: متى سوف ينصرنا الله؟ ألسنا مسلمين؟ والله تعالى قد وعد عباده بالنصر؟ يسألون هذا السؤال ويستحضرون في أذهانهم صور أمثال خالد بن الوليد، وأبي عبيدة، وطارق بن زياد، وصلاح الدين على أنهم رجال انتصروا بمعجزة من الله سبحانه وتعالى.. وحتى نجيب عن هذا السؤال.. تيقنوا أن الله تعالى قد وعدنا بالنصر، ووعد عباده الصالحين بالنصر، كما قال تعالى: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد) لكن كونوا على يقين من أن الله تعالى لا ينزل نصره على هؤلاء الصالحين إلا إذا أخذوا بأسباب النصر، لن ينزل النصر على من جالس في بيته.. إن تنزل نصر الله سبحانه، ونزول الملائكة، ونزول السكينة، وقذف الرعب في قلوب الكفار.. هذا كله لا يكون إلا في ساحات النزال والقتال.. وما الذي فعله صلاح الدين ومحمد الفاتح إلا أنهم أخذوا بالأسباب وتجهزوا وتسلحوا بهذا الدين، وقبلهم الصحابة المجاهدون، والأئمة الفاتحون، بل قبلهم النبي ﷺ.. النبي ﷺ الذي يَقدِر الله سبحانه أن بنصره في طرفة عين، كان دائم الأخذ بالأسباب، خرج مهاجرا إلى المدينة ظهرا لا ينتبه له أحد، واتجه جنوبا حتى لا يتبعه المشركون، ونزل في بدر بعد آبار المياه ليمنع المشركين من الوصول إليها، وحفر الخندق ليمنع ليحمي المدينة، وفي فتح مكة كان معه كتيبة تسمى الكتيبة الخضراء لكثرة ما فيها من حديد ودروع، لم يكن يُرى منهم إلا حدق أعينهم.. هذه هي سنة الله سبحانه في البشر، بل في الكون كله، لا يحدث شيء بدون سبب، فهل إذا وصل الأمر لنا سيتغير الأمر وينزل علينا النصر ونحن نرسم الجداريات ونقيم الحفلات الغنائية، وننادي بتحرير المرأة.. المسألة باختصار أن هناك أسباب للنصر، إذا أخذ بها المؤمنون نصرهم الله سبحانه، وإذا لم يأخذوا بها فلن بنزل عليهم النصر وهم في بيوتهم.
(يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا ينصركم ويثبت أقدامكم)


الجمعة، 8 ديسمبر 2017

فإن العزة لله جمعيا
(بمناسبة القرار الأمريكي الاعتراف بالقدس عاصمة لليهود)
عناصر الخطبة:
  • أهمية العزة بالنسبة للمؤمن.
  • نماذج من العزة.
  • كيف ننال العزة.
(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ)
يا ويحنا ماذا أصاب رجالنا/ أوَ ما لنا سعد ولا مقداد
سلت سيوف المعتدين وعربدت/ وسيوفنا ضاقت بها الأغماد
يا ليل أمتنا الطويلَ متى نرى/ فجرا تغرد فوقه الأمجاد
أجدادنا كتبوا مآثر عزنا/ فمحا مآثر عزها الأحفاد
لقد أنزل الله تعالى هذا الدين العظيم على قلب محمد ﷺ، فقام بأمره حق القيام، وعلمه أصحابه، وحمّلوا هذا الدين، لمن بعدهم، فرفع الله بهم راية الإسلام، وأعز بهم الدين، حتى صاروا في مقدمة الأمم، وتحقق في هذه الأمة قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا).
وسنحاول في هذه العاجلة أن نقف على معلم واحد من صفات أولئك المؤمنين الذين دانت لهم الدنيا…إنها صفة العزة.
عباد الله! لقد علمنا هذا الدين العظيم أن من أهم صفات المؤمن الذي يحمل هذا الدين: أن يكون عزيزا، قويا في دينا، ثابتا على الحق، لا تكسره الهزائم، ولا تهزه العواصف.. لقد جعل الله سبحانه صفة العزة من صفات المؤمن الأساسية، ومن مكونات شخصيته، كما قال تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ)، فتأملوا كيف قرن الله سبحانه المؤمنين أصحاب العزة، بذاته العظيمة، وبنبيه الكريم ﷺ.. وكيف لا يكونون أصحاب عزة وقد آمنوا بالل سبحانه، وبذلوا نفوسهم في سبيل إعزاز دينه، وأظهروا عزتهم وقوتهم على الكافرين..  
ومما يبين أهمية الغزة في شخصية المؤمن أن الله تعالى جعلها من أهم صفات الذين يحبونه ﷻ وعلا فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).. فذكر أن من أهم صفات هؤلاء المؤمنين الذين يحبهم الله تعالى: أنهم قساة على الكافرين، رحماء بالمؤمنين، كما قال تعالى في صفة أصحاب محمد ﷺ: (والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم).
لقد علّمنا الله سبحانه أن نتعامل مع الكفار على أننا نحن الأعلى بسبب ما معنا من الإيمان، (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)..
علّمنا النبي ﷺ أن الإسلام هو سبب العز، وأن الكفر سببب للذل، كما قال ﷺ: «ليَبْلُغن هذا الأمر ما بلغ اللَّيل والنَّهار، ولا يترك الله بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلَّا أدخله اللهُ هذا الدِّين، بِعِزِّ عَزِيزٍ أو بِذُلِّ ذَليلٍ، عِزًّا يُعِزُّ الله به الإسلام، وذُلًّا يُذِلُّ الله به الكفر».
تعاليم عظيمة، وأخلاق كريمة، نقرأها الآن وكأنها خيال يجول في الخاطر، أو كأنها أساطير من أساطير الأولين، وذلك بسبب ما نرى من واقع مرير تعيشه أمة الإسلام، كان آخره عزم أمريكا -"راعية السلام!"- عي نقل سفارتها إلى القدس. واقع كان سببه البعد عن الدين، وغياب القدوات، وغياب القادة العظماء أصحاب العزة، الذين يكونون نبراسا للناس وقدوة لهم في العزة، ولا يكونوا نماذج سيئة في الذل والخيانة.
ولكن من قال إن هذه هي الحال الطبيعية لأمة الإسلام! إننا إذا أردنا أن نذكر قصص ومواقف العزة التي سطرها لنا قدواتنا لفني مدادنا من كثرتها.. عن ماذا نحدثكم؟ أنحدثكم أن "المُدن الساحلية الأوروبية كانت إذا مرَّت بمحاذاتها الأساطيل العُثمانية، لا تُدق بها أجراس الكنائس، حتى لا تتأجج الحماسة الدينية في قلوبهم فيفتحوا تلك المُدن!"
أم نحدثكم عن المنصور بن أبى عامر -وهو من أعظم ملوك الأندلس، وقد غزا أكثر من خمسين غزوة- الذي أتاه أحد ملوك الممالك في جنوب فرنسا فجثى على ركبته وقبّل يد المنصور بن أبى عامر وركبته!! 
"وهذا السلطان العظيم ألْب أرسلان بعد انتصار المسلمين فى معركة (ملاذكرد) يطأ عنق إمبراطور الروم رومانيوس بقدمه.
وها هو هارون الرشيد "لما نقض الروم الصلح مع المسلمين وعزلوا ملكتهم وملكوا عليهم نقفور، الذي كتب إلى هارون يطلبه برد ما دفعته إليه الملكة السابقة من أموال، وقال لهارون: وافدِ نفسك به و إلا فالسيف بيننا وبينك. فغضب هارون غضباً شديداً وكتب على ظهر الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة والجواب ما ترى لا ما تسمعه.
فلله درهم! لكنهم -عباد الله- كانوا يعلمون سبب عزتهم، وكانوا يعلمون أنهم لولا الإسلام لما راحوا ولا جاؤوا.
ها هو عمرو بن العاص رضي الله عنه يبين سبب عزة المسلمين، لما سأله ملك الإسكندرية: "من أنتم؟ فقال: نحن العرب، ونحن أهل الشوك والقَرَظِ ( هو ورق أسود يستخدم في الدباغ وغيره )، ونحن أهل بيت الله، كنا أضيق الناس أرضا، وأشدّ الناس عيشا، نأكل الميتة، ويُغير بعضنا على بعض، بشرَّ عيش، عاش به الناس. حتى خرج فينا رجلا ليس بأعظمنا يومئذ شرفا، ولا أكثرنا مالا، فقال: "أنا رسول الله ". يأمرنا بما لا نعرف، وينهانا عما كنا عليه، وكانت عليه آباؤنا، فشَنِفنا له ( أبغضناه ) وكذبناه، ورددنا عليه مقالته، حتى خرج إليه قوم من غيرنا، فقالوا: نحن نصدقك ونؤمن بك، ونتبعك ونقاتل من قاتلك، فخرج إليهم، وخرجنا إليه، فقاتلناه فقتلنا، وظهر علينا، وغلبنا، وتناول من يليه من العرب، فقاتلهم حتى ظهر عليهم. فلو يعلم من ورائي ما أنتم فيه من العيش لم يبق أحد إلا جاءكم حتى يشرككم ما أنتم فيه من العيش.
فضحك الملك، ثم قال: إن رسولكم قد صدق. قد جاءتنا رسلنا بمثل الذي جاءكم به رسولكم، فكنا عليه، حتى ظهر فينا ملوك، فجعلوا يعملون فينا بأهوائهم، ويتركون أمر الأنبياء، فإن أنتم أخذتم بأمر نبيكم، لم يقاتلكم أحد إلا غلبتموه، ولم يتناولكم أحد إلا ظهرتم عليه. فإذا فعلتم مثل الذي فعلنا وتركتم أمر الأنبياء، وعملتم مثل الذي عملوا بأهوائهم، خُليّ بيننا وبينكم، فلم تكونوا أكثر منا عددا، ولا أشد منا قوة. قال عمرو بن العاص: فما كلمت رجلا أَذْكَر ( أكثر رجولة ) منه".
الخطبة الثانية
إن هذه النماذج من العزة ما كانت لتوجد لولا التمسك بدين الإسلام، وقد أخبرنا سبحانه أن مصدر العزة هو الالتجاء إليه فقط، كما قال تعالى: (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)، وقال: (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا). إن العزة -عباد الله- لا تنال بمولاة الكفار، ولا تنال بالتنازل عن الدين والمقدسات، ولا تنال بالرقص مع الكفار على جثث  المسلمين، إن العزة تنال بالتوحيد، وإقامة شعائر الدين، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تنال بإقامة الحفلات الغنائية، ولا بتشجيع بناتنا على التبرج والاختلاط، لا تنال بترك الجهاد، ولا تنال ببث ثقافة الغرب والذل بين المسلمين. بل تنال بما ذكره الله تعالى: (الذين إن مكانهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالنعروف ونهوا عن المنكر)، وقال ﷺ: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم».
إن المصائب إذا نزلت فالأصل أنها ترد المؤمنين إلى ربهم، وتعيدهم إلى الاعتصام به، أما قساة القلوب، الجفاة عن شريعة الإسلام فإن المصائب لا تزيدهم إلا بعدا عن الدين.. وفي الوقت الذي يفترض أن نرفع شعار الإسلام، وننادي بالقدس كمدينة إسلامية، ننرى دعوات القومية والعلمانية تنطلق حتى تحاول أن تجعل من القدس حقا قوميا، أو إقليميا.. هذه الدعوات هي التي ضيعت القدس، فهل ستعيدها الآن؟! هذه الدعوات هي التي ألحقت بنا الهزائم،  وصدرت منها الخيانة قديما وحديثا، فهل ستنصرنا الآن؟!

(أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا)

الجمعة، 1 ديسمبر 2017

المولد النبوي الشريف
عناصر الخطبة:
  • ذكر ولادته ﷺ وبعثته.
  • كيف نحب النبي ﷺ.
  • التنبيه على عدم مشروعية الاحتفال بيوم مولده الشريف.
(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم).
إن لله تعالى نعما على خلقه لا نحصرها بعد، ولا نحدها بحد، وأعظم هذه النعم  هي نعمة الهداية إلى الإيمان، فالله تعالى أرسل إلينا رسلا يهدوننا إلى الصراط المستقيم ويدلوننا على الطريق القويم.. بعث في كل أمة رسولا منهم، (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)
ثم عاشت البشرية في ظلمات لما خالفوا أوامر أنبيائهم، فأشركوا بربهم، وعصوا خالقهم، وظلم بعضهم بعضا، واستبد قويهم بضعيفهم، "ونظر الله تعالى إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب".. ولما كان الله تعالى بخلقه رحيما، لا يعذب أحدا بدون إقامة حجة، أذن الله تعالى بولادة آخر هؤلاء الأنبياء وأكرمهم عليه، وأكثرهم خيرا على البشرية.. دعا لبعثته أبوه إبراهيم، وبشر به عيسى، ورأت أمه حين حملت به أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام.. ولد عليه الصلاة والسلام يتيما، وعاش كريما صادقا أمينا، لم تعرف له قريش كذبة واحدة طوال حياته، لم يسجد لصنم، ولم يعاقرا كأسا، ولا هوى امرأة بالحرام.. ولما بلغ أربعين سنة نزل عليه الوحي والنور المبين، وأذن الله تعالى ببداية تلك القصة الإيمانية العظيمة، التي حفلت بالتضحيات، وامتلأت بالمكرمات، وأضاءت الدنيا بأسرها، بعثه الله إلى الناس كافة، بل إلى الثقلين الإنس والجن، أيده بالمعجرات والبراهين الواضحات، فكلمته الأحجار، وسعت إليه الأشجار، وحن إليه الجذع وبكى، ونبع الماء من بين أصابعه وسقى، وأعطا الله المعجزة الكبرى، والآية الخالدة.. القرآن الكريم، فأعجز به أهل الفصاحة والبيان، وجعل فيه العقائد الصافية، والحكم الغالية، والمواعظ العظيمة، والشريعة الغراء المستقيمة، ففتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا، وجاهد في سبيل الله حق جهاده، فرفع الله به راية التوحيد، وهدم رايات الكفر.. أطفأ نار الفرس، ونكس الصليب، وأنذر الطغاة ومحاهم.
إنه النور الذي بدد الظلمات، والهدى الذي نجت به البشرية من المهلكات، (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) قال ابن جرير: يعني بالنور محمدا ﷺ، الذي أنار الله به الحق وأظهر به الإسلام، ومحق به الشرك.
كأن الثريا علقت بجبينه/وفي جيده الشِّعرى وفي وجهه القمر
عليه جلال المجد لو أن وجهه/ أضاء بلَيلٍ هلَّل البدو والحضر
يقول أنس رضي الله عنه: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله ﷺ المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء.
عباد الله! لقد افترض الله تعالى علينا محبة هذا النبي العظيم، وجعل هذه المحبة من أصول الدين.. وكيف لا نحبه وقد أنقذنا الله به من الشقاء في الدنيا، والعذاب في الآخرة، وقال عليه الصلاة والسلاة: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجميعن»، فصلوات الله وسلامه على خير المرسلين، وسيد الأولين والآخرين.
وإن هذه المحبة -عباد الله- ليس كلاما يدعى، أو حلما يتمنى، بل هي محبة يخفِق بها القلب، وتظهر على الجوارح، فتطيع أمره، وتسلم لأخباره، ولا تنازعه في تشريع شرعه، قال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما).
إذا أردنا أن نعرف كيف تكون هذه المحبة حقا فلننظر في أحوال أصحاب النبي ﷺ، كيف كانوا يحبونه، حتى نعلم ما هي المحبة الحقيقة من المحبة الزائفة.
لقد أظهر الصحابة رضي الله عنهم محبتهم للنبي ﷺ بطريقة عظيمة، لقد كانوا سامعين مطيعين له، لا يترددون في تنفيذ أوامره، يقدمون طاعته على كل هوى أو رأي شخصي، أمرهم أن يولوا وجوههم في الصلاة إلى الكعبة فما ترددوا، حرمت عليهم الخمر فأروقوها في شوراع المدينة حتى جرت فيها، نهاهم عن لحوم الحمر الأهلية فأكفؤوا القدور وهي تغلي، خلع نعله في الصلاة فخلعوا نعالهم، أمر النساء أن يمشين في حافة الطريق فمشين قريبا من الجدران حتى التصقن بها، أمرهن بالحجاب فما فخرجن وكإنما على رؤسهن الغربان. 
إنهم لم يكتفوا بذلك.. بل لم يترددوا في بذل أرواحهم حماية له ودفاعا عنه… في معركة أحد وبعد ما انهزم المسلمون وصل الكفار إلى النبي ﷺ ومعه اثنا عشر رجلا.. وإن شئت فقل: اثنا عشر جبلا، لم يتردد واحد منهم في أن يقدم روحه فداء لرسول الله ﷺ، يقول جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَوَلَّى النَّاسُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي نَاحِيَةٍ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ وَفِيهِمْ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَأَدْرَكَهُ الْمُشْرِكُونَ، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: «مَنْ لِلْقَوْمِ»؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: أَنَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كَمَا أَنْتَ»، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «أَنْتَ»، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا بِالْمُشْرِكِينَ قَال: «مَنْ لِلْقَوْمِ»؟ قَالَ طَلْحَةُ: أَنَا، قَالَ: «كَمَا أَنْتَ»، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا، فَقَالَ: «أَنْتَ»، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَقُولُ ذَلِكَ وَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَيُقَاتِلُ قِتَالَ مَنْ قَبْلَهُ، حَتَّى بَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ لِلْقَوْمِ»؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: أَنَا، فَقَاتَلَ طَلْحَةُ قِتَالَ الأَحَدَ عَشَرَ حَتَّى ضُرِبَتْ يَدُهُ فَقُطِعَتْ أَصَابِعُهُ، فَقَالَ طَلْحَةُ: حَسِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَوْ قُلْتَ: بِسْمِ اللَّهِ لَرَفَعَتْكَ الْمَلائِكَةُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ». ثُمَّ رَدَّ الْمُشْرِكِينَ.
يقول قيس بن أبي حازم: رأيت يد طلحة شلاء، وقى بها الني ﷺ يوم أحد. وتقول عائشة عن ذلك اليوم: ثم أتينا طلحة في بعض الجفار [الحفر] فإذا به بضع وسبعون أو أقل أو أكثر بين طعنة ورمية وضربة. وكان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد بكى وقال: ذلك يوم كله لطلحة.
وها هو صحابي آخر يوم أحد رأى النبي ﷺ وهو يصعد على مكان عال ليرى الناس، فيقول للنبي ﷺ: يا نبي الله! بأبي أنت وأمي! لا تشرف. لا يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك. وأبو دجانة يجعل ظهرا درعا للنبي ﷺ، فينحني عليه ويتلقى الرماح بظهره.
فأي محبة هذه، وأي تضحية في سبيل الدفاع عن هذا النبي الكريم، وهذا الدين العظيم.

(الخطبة الثانية)
إن مثل هذه القصص العظيمة تعلمنا أن محبة النبي ﷺ هي بالوقوف على حدود شريعته وعدم تعديها، وكاملُ المحبةِ للنبي ﷺ هو الذي يحرص على اتباعه، وعلى عدم النقص أو الزيادة على ما جاء به، فأكبرُ برهان على المحبة هي: الطاعة. ولما ادعى أقوام محبة الله سبحانه أنزل فيهم هذه الآية امتحانا لهم واختبارا، وهي قوله: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، حقيقة المحبة هي الاتباع، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا).
عباد الله! إن هذا النبي الكريم علمنا هذا الدين كاملا، ولم يمت عليه الصلاة والسلام إلا وقد علم الصحابة كل مسألة في هذا الدين، بل أخبر أن من زاد شيئا في الدين فإن عمله باطل مردود عليه غير مقبول، كما قال عليه الصلاة والسلام: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد».
وإن كثيرا من الناس يحتفلون بيوم مولده الشريف عليه الصلاة باحتفالات، أو أمور خاصة، يتفاوتون في ذلك قلة وكثرة.. واعلموا -عباد الله- أن هذا الأمر لو كان فيه أجر وثواب لفعله النبي ﷺ أو صحابته، وهم أكثر حبا له منا، وأكثر تعظيما، فكيف إذا علمنا أنه لم يؤثر عنهم أصلا تحديد يوم مولده على وجه الدقة.
والإسلام سد باب الاحتفال والاجتماع لأي عيد غير عيد الأضحى والفطر والجمعة، وتخصيص هذا اليوم بشيء من تلك الأمور داخل في زيادة عيد على الأعياد المشروعة، ولو لم تكن نية صاحبه التقرب أو التعبد.

واعلموا أن محبة النبي ﷺ تكون باتباعه أمره، واجتناب نهيه، لا بعصيانه (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)

الأربعاء، 22 نوفمبر 2017

[جواب مختصر حول مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد 
أما بعد
فإن الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف من الأمور التي يتكرر عنها السؤال كل عام. وقد انقسم الناس في حكم ذلك ما بين مانع حاكم على الاحتفال بأنه بدعة أو محرم، وما بين مجيز لذلك مستحب له.
وهذه كلمة أحاول فيها بيان الحق في المسألة إن شاء الله.
فأقول: 
من المسائل التي اتفق عليها المانعون والمجيزون أن النبي ﷺ وصحابته وتابعيهم لم يحتفلوا بمولد النبي ﷺ.
وأول من أحدث هذه المواد هم العبيديون.
وعليه فقد تمسك المانعون بهذا الأصل، وحكموا على هذا الفعل بأنه بدعة، بناء على تعريف البدعة في الشرع، وهو: طريقة في الدين مخترعة، يقصد بالسلوك عليها التقرب إلى الله سبحانه. 
فالمولد متفق على أنه شيء محدث، وقد قام المقتضي لفعله في عهد النبي ﷺ، ومع ذلك لم يفعله، ولم يفعل ما يؤصل له، من إظهار فرح أو تعظيم لهذا اليوم كل عام كما يفعله بعض الناس الآن. 
بل إن اختلاف العلماء في تحديد يوم مولد النبي ﷺ، وعدم وجود اتفاق من الصحابة -مثلا- على يوم معين لميلاده ﷺ يدل على أنهم لم يحتفلوا بهذا اليوم، ولم يخصوه بشعائر أو أعمال خاصة. 
وفاعل المولد يقصد بذلك الأجر والثواب من الله تعالى بهذا الفعل، ويستحسن هذا الفعل شرعا، إذا فهذا الفعل بدعة.
ونستطيع القول إن هذه النقطة، بالإضافة إلى تحرير معنى العيد -كما سيأتي- هما الركيزة الأساسية عند المانعين من الاحتفال بالمولد.
وهذا أصل راسخ واضح منضبط في الشريعة.
وللمانعين أدلة وتفاصيل أخرى سيأتي بعضها خلال مناقشة أدلة المجيزين للاحتفال.

أما المجيزون فإنهم أجازوا الاحتفال بالمولد منطلقين من أمور، قد تجتمع عندهم وقد تفترق، منها:
  • أن الاحتفال من البدع، الحسنة.
  • أن الاحتفال ليس عبادة.
  • أن النبي ﷺ احتفل بيوم مولده من خلال صيام يوم الاثنين.
  • أنه من باب تعظيم ومحبة النبي ﷺ وتعلم سيرته.
  • ذكر نقول -صريحة أو محتملة- عن بعض العلماء في تجويز الاحتفال أو إقراره.

- أما النقطة الأولى، وهي قولهم: إن الاحتفال من البدع الحسنة؛ فهو قائم على تقسم البدعة إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة، أو على تقسيم البدعة إلى خمسة أقسام: محرمة، ومكروهة، ومباحة، ومستحبة، وواجبة.
قالوا: الاحتفال وإن كان لم يفعله النبي ﷺ فإنه من البدع الحسنة، فالفعل يشترط أن يكون مخالفا للشرع حتى نحكم عليه بأنه بدعة، والاحتفال بالمولد ليس مخالفا للشرع، ولا يوجد نص يحرمه.
وقد قال عمر رضي الله عنه عن صلاة التراويح جماعة: نعمت البدعة هذه. وجمع أبو بكر المصحف في مكان واحد، وزاد عثمان الأذان الأول يوم الجمعة، وهذه بدع حسنة، والمولد مثلها.
ويمكن الإجابة عن هذا من خلال أمور:
الأمر الأول: البدعة في اللغة هي مجرد الإحداث، أو الإتيان بشيء جديد، سواء كان من أمور الدين أو الدنيا، وعليه فالبدعة بالمعنى اللغوي ليست مذمومة بالكلية كما سيأتي التفصيل في ذلك.
الأمر الثاني: دلت النصوص الشرعية بوضوح على أن مجرد زيادة شيء في الدين بقصد التقرب إلى الله تعالى يعتبر مخالفة، وليس شرطا أن يأتي نص يحرم كل فعل محدَث، بل الأصل المنع من أي فعل يقصد به التقرب إلى الله تعالى إذا لم يكن لهذا الفعل مستند في الشرع.
ومن هذه النصوص قوله تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله)، فجعل مجرد التشريع بغير إذن من الشارع اعتداءً ومخالفة.
وقال ﷺ: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، فجعل مجرد الإحداث سببا في رد العمل وعدم قبوله، ولم يقيد ذلك بمخالفة نص خاص.
وأخبرنا سيدنا ونبينا محمد ﷺ أن كل البدع الدينية مذمومة، بقوله: «وكل بدعة ضلالة»، وهي صيغة عموم.
وبناء على مثل هذه النصوص وضع العلماء تعريفهم للبدعة في اصطلاح الشرع بأنها: طريقة في الدين مخترعة، يقصد بالسلوك عليها التقرب إلى الله سبحانه. 
وعليه فكل إحداث في الدين يقصد به التقرب إلى الله فهو مذموم، وليس فيه حسن.
الأمر الثالث: ما ورد من تقسيم بعض العلماء إلى البدعة إلى خمسة أقسام قائمٌ في الغالب على المعنى اللغوي للبدعة، وهو مجرد الإحداث، فمن تأمل الأمثلة التي مثل بها بعضهم لكل قسم فإنه سيرى أنها ليس من البدع عند أحد، ولا تدخل في المعنى الاصلاحي للبدعة الذي سبق بيانه.
فمن ذلك أن بعض العلماء ذكر الرد على أهل الكفر مثالا على البدع الواجبة، قاصدا بذلك إحداث ردود على ما يجد من أفكار كفرية، أو الإتيان بردود جديدة على أفكار ضالة سابقة؛ وهذا ليس داخلا في تعريف البدعة الاصطلاحي، بل في البدعة اللغوية من جهة تجدد أفراده، وهناك كثير من النصوص تؤصل لمشروعية الرد على أهل الكفر والضلال.
ومن ذلك أن بعض العلماء ذكر إحداث المآكل والمشارب كمثال على البدع المباحة؛ وهذا ليس داخلا في تعريف البدعة الاصطلاحي كذلك، لأنه لا يراد به التقرب إلى الله سبحانه.
وهكذا من تأمل كثيرا من الأمثلة التي يذكرونها وجدها خارجة عن محل النزاع.
وهذا لا يعني عدم وجود من قسم هذا التقسم ومثل بما هو من البدع فعلا، لكن المراد هنا لفت النظر إلى أن الاعتماد على هذا التقسيم لا يسعف المجيزين في هذا المقام.
الأمر الرابع: قول عمر رضي الله عنه عن صلاة التروايح جماعة: "نعمت البدعة هذه"، أراد به المعنى اللغوي، فصلاة التراويح جماعة لا تدخل في تعريف البدعة الذي تقدم ذكره، لأن النبي ﷺ فعلها، ثم ترك صلاتها جماعة خوفا من أن تفرض على الناس، فعمر رضي الله عنه لم يأت بشيء جديد في هذا.
الأمر الخامس: فرق بين المصالح المرسلة وبين البدع، فالمصالح المرسلة -كجمع المصحف، وزيادة الأذان الأول يوم الجمعة- لم يقم المقتضي لها في عهد النبوة، ولم تكن حاجة لذلك، فلما جدت الأمور في عهد أبي بكر وخافوا على المصحف الضياع بعدما استحر القتل بالقراء جمعوا المصحف، وقول أبي بكر لعمر -لما اقترح عليه جمع المصحف-: "كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله ﷺ" يدل على استقرار هذا الأصل عند الصحابة، فلم يخرح الصحابة عن هذا الأصل إلا لأمور استجدت، لم تكن موجودة في عهد النبي ﷺ.
ومثل هذا يقال في إحداث الأذان الأول يوم الجمعة.
على أن النبي ﷺ قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي»، فجعل لما سنوه نوع خصوصية.
أما الاحتفال بمولد النبي ﷺ فقد كان المقتضي له قائما في عهده عليه الصلاة والسلام، كرفع مكانة النبي ﷺ وحبه وتقديره، ومع ذلك لم يفعله، ولم يرشد إليه، ولم يفعله الصحابة من بعده، وهم أشد الناس حبا وتعظيما له ﷺ.
الأمر الخامس: ما يذكرونه من إحداث بعض الصحابة لبعض العبادات، كقول ذلك الصحابي بعد الركوع: ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه… لا دلالة فيه على مرادهم، لأن النبي ﷺ أقرهم على ذلك، ونحن لا يوجد من يقرنا أو يمنعنا، فهم كانوا إذا فعلوا هذا يعلمون أن هناك نبيا يوحى إليه سوف يقوّم فعلهم إن كان خطأ.
ويبين ذلك أن النبي ﷺ كان ينهى في بعض الأحيان عن بعض ذلك، كما قصة الرجل الذي نذر أن يقوم ولا يقعد، وألا يستظل، وأن يصوم، فأمره النبي ﷺ أن يجلس، وأن يستظل، وأن يتم صومه.

- أما قولهم: إن الاحتفال بالمولد ليس عبادة، بل هو عادة، وعليه فلا يدخل في البدع.
فالجواب: أن مجيز الاحتفال إذا جمع في حجته بين أن الاحتفال من البدع الحسنة، وبين أنه ليس عبادة= فقد وقع في تناقض واضح، فإما أن يكون الاحتفال عبادة وإما أن يكون عادة.
وعليه فإن وجد من يحتج بأن الاحتفال هو عادة فقط، وأنه لا يقصد به الثواب، ولا التقرب إلى الله ﷻ= فالجواب عليه من خلال تحرير معنى العيد في الشريعة، وما هو موقف الشريعة من إحداث الأعياد، ويبين هذا أمران:
الأمر الأول: أخبرتنا النصوص الشرعية بأن الأعياد عند المسلمين ثلاثة أعياد فقط، عيد الفطر والأضحى ويوم الجمعة، ولم تفتح الشريعة الباب مشرعا أمام إحداث الأعياد، لأنها لم تعاملها معاملة العادة المحضة، بل جعلت لها بعدا دينيا من جهة المنع من إحداث شيء جديد منها.
يدل على ذلك منع النبي ﷺ أهل المدينة من الاحتفال بيومين كانوا يحتفلون بهما قبل الجاهلية، وقال: «قد أبدلكم الله خيرا منهما يوم العيد ويوم الفطر».
فقوله ﷺ: «قد أبدلكم» يفيد عدم إمكانية الجمع بين المبدل والمبدل منه، ولو لم يكن النهي عن الاحتفال بغير أعياد الإسلام مقصودا لما عبر بهذا اللفظ.
وقال ﷺ في حديث عائشة: «إن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا»، وهذا فيه حصر.
وقال ﷺ للرجل الذي نذر أن يذبح إبلا ببوانة: «فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟»
فإن قال قائل: الاحتفال بالمولد ليس عيدا، وأنا لم أجعله عيدا؛ فالجواب من خلال:
الأمر الثاني: وهو أن العيد اسم لما يعود ويتكرر على وجه معتاد، وذلك بأن يعود كل عام أو كل أسبوع في يوم معين.
والضابط الذي يضبط لنا معنى العيد من غيره أمران: التكرار، والاجتماع له وما يتبع ذلك من عادات أو عبادات.
قال ابن تيمية: فالعيد يجمع أموراً: منها يوم عائد كيوم الفطر ويوم الجمعة، ومنها اجتماع فيه، ومنها: أعمال تتبع ذلك من العبادات والعادات.
وعليه فكل اجتماع في يوم يتكرر كل عام مثلا، مع تخصيصه باجتماع أو تعظيم فهو عيد، وإن لم يسمِّه صاحبُه عيدا.
وهذا يشمل ما كان لمناسبات دينية كالمولد والإسراء والمعراج، أو مناسبات دنيوية كيوم الاستقلال، أو أعياد الميلاد الفردية. 
ويشمل كذلك ما كان أصله من الأعياد تشبها بالكفار، وما كان حادثا من بعض أهل الإسلام.
وحكمها جميعا أنها أعياد زائدة على أعياد الإسلام، فالأصل أن الاحتفال بها ممنوع، لما تقدم.

- قولهم: إن النبي ﷺ كان يصوم يوم الاثنين، وهذا احتفال بمولده، فقد روى مسلم عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَقَالَ: «فِيهِ وُلِدْتُ وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ».
وروى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ».
فالجواب من وجوه:
الأول: أن النبي ﷺ صام يوم الاثنين لفضله، فهو يوم ترفع فيه الأعمال، ويوم ولد فيه النبي ﷺ، ويوم أنزل فيه الوحي على النبي ﷺ، فسبب صيامه أساسا هو فضل هذا اليوم، بدليل أنه كان يصوم معه الخميس.
والشريعة تخص الأوقات الفاضلة بأمور فاضلة لتزيد من شرف الجهتين، كما خصت شهر رمضان بالصيام، لكونه ظرفا لنزول القرآن.
الثاني: من صام بالنية المتقدمة فلا حرج عليه في ذلك إذا لم يخصصه بيوم معين في السنة، فالنبي ﷺ لم يفعل ذلك، ولم يرشد إليه.
الثالث: ليس في الصيام معنى الاجتماع الذي في العيد، وليس فيه أي شبه بالاحتفال بالمولد.

- أما ما يذكرونه من نصوص عامة في محبة النبي ﷺ ومكانته، وأهمية تعلم سيرته؛ فهذا ليس محل النزاع، بل كل مسلم يسلّم بهذه الأمور.
وهذه الأمور لا دلالة فيها على مشروعية الاحتفال. 

- وأما ما يذكرونه من كلام لبعض العلماء؛ فنحن لا ننكر وجود من يجيز ذلك، لكن المراد هنا بيان الصواب في هذه المسألة، وطريقة ذلك تكون بالرجوع إلى النصوص ابتداء، ثم الاستشهاد بأقوال العلماء.
وإذا كانت الحجة في أقوال العلماء ابتداء فإن هناك نقولا كذلك عن علماء متقدمين ومتأخرين في المنع من الاحتفال.

وختاما أود التنبيه إلى أن منع الاحتفال هو من باب تعظيم شريعة النبي ﷺ واتباع أثره، وليس فيه أي انتقاص من منزلة النبي ﷺ كما يحاول البعض أن يدلس لتشويه موقف المانعين من الاحتفال.

والله أعلم.