الثبات على الطاعة بعد رمضان
عناصر الخطبة:
- النصوص الدالة على أهمية الثبات.
- علامات الفتور عن الطاعة، وعلاج ذلك.
- كيفية التعامل مع النفس حال نشاطها، وحال كسلها.
- أهمية الثبات وقت الفتن.
الحمد لله الغفور التواب، الكريم الوهاب، استغنى عن جميع خلقه واحتاجوا إليه، فلا تضره معصية عاص، ولا تنفعه طاعة طائع متذلل بين يديه، أحمده سبحانه حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، والصلاة والسلام على خير خلقه، وأفضل أنبيائه ورسله، محمد بن عبد الله، من صلى وتعبد حتى تفطرت قدماه، ولم تكل من دعاءٍ يداه، صلى الله عليه وعلى آله وصله ومن اهتدى بهداه.
أما بعد عباد الله! فاتقوا الله جل وعلا، فالتقوى خير زاد ليوم المعاد.
وصية عظيمة جليلة، أوصى الله سبحانه وتعالى بها عبديه ورسوليه موسى وهارون، لما بعثهما الله تعالى إلى الطاغية فرعون، وبعد أن حملا الأمانة العظيمة والرسالة الكبرى، وهي رسالة توحيد الله تعالى، أوصاهما ربهما بوصية تستقيم بها أمور العبد، ويثبت بها على الهدى والنور (اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري) أى: اذهبا بالحجج والبراهين، ولا تفترا ولا تضعفا عن ذكري وعبادتي والدعوة إلى سبيلي.
بعد أن حملا الأمانة، أمرهما الله تعالى وأوصاهما بالثبات، حذرهما من الفتور والكسل بعد الجد والنشاط، لأن الخير لا يتم -عباد الله- إلا بالثبات عليه، فكم من طائع استقام ثم فرط وضيع وعصى، وكم من مستقيم انحرف، فما نفعته استقامته بعد ذلك، بل كانت حجة عليه.
لهذا الأمر العظيم كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أكثر الناس عبادة وتذللا وتقربا إلى ربه، ومع ذلك ما أكثر ما كان يردد ويدعو فيقول: «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»... هو خير الناس ويقول هذا.. هل بعد هذا من موعظة، هل بعد هذا من بيان.
وكان من دعائه كذلك عليه الصلاة والسلام: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل»، يستعيذ بالله من العجز والكسل لأنهما يمنعان العبد من طاعة الله والاستقامة على دينه، ويمنعانه حتى من تدبير أمور الدنيا، بل هما مفتاح كل شر.
وكان من دعائه كذلك: «اللهم إني أعوذ بك من الحَوْر بعد الكَوْر»، أي: أعوذ بك من النقصان بعد الزيادة، ومن فساد الحال بعد صلاحها.
عباد الله! إن حياة المسلم ينبغي أن يكون عنوانها الجد والمثابرة والمسارعة إلى الخيرات، وإن العبد الموفق لا يستريح إلا وفي نيته المعاودة إلي النشاط، فيستعين بالراحة على الجد والنصب، ألم تسمعوا قول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم (فإذا فرغت فانصب) أي: إذا فرغت من طاعة فانصب واتعب في طاعة أخرى تقربا إلى تعالى.
هذه هي حال المسلم، جد واجتهاد ومسارعة إلى الخيرات، فالحياة قصيرة، والأنفاس معدودة، والأيام محدودة، فتفقد نفسك أخي المسلم.. فإن الإنسان قد يقع في الغفلة والفتور وهو لا يشعر..
فإذا رأيت قسوة في قلبك.. إذا كنت تمر بآيات ومواعظ القرآن التي تدك الجبال ولا يؤثر ذلك فيك.. إذا رأيت نفسك كسولا عن الطاعة.. متثاقلا عن الصلاة.. فتدارك نفسك، وجاهدها وداوها بالإيمان، فادع الله تعالى أن يثبتك على الدين، وأكثر من ذكر الله تعالى مع حضور القلب والتفكر بمعاني الأذكار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من مائة مرة».. أكثر من النوافل.. اتل القرآن وحرك به قلبك.. تفكر في الموت وأحوال يوم القيامة.. صاحب أهل الدين والاستقامة الذين يذكرونك إذا غفلت، قال عليه الصلاة والسلام: «مثل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخِ الكير، إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة».
الدنيا -عباد الله-، الانشغال بالدنيا ومتاعها من أعظم أسباب الغفلة والانصراف عن الطاعة، (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون). وقال تعالى: ( يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور)، واعلموا أن الحرص الشديد على الدنيا -الذي يجر الإنسان للوقوع في الحرام والتفريط في الفرائض- هذا الحرص لا يأتي بالمال والغنى، بل يأتي بالخسران، قال عليه الصلاة والسلام: «من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة».. الحرص الشديد على الدنيا قرين لقسوة القلب والغفلة عن ذكر الله، قال مالك بن دينار: أربع من علم الشقاوة: قسوة القلب، وجمود العين، وطول الأمل، والحرص على الدنيا.
عباد الله! إن النفس لها نشاط ولها خمول، ولها إقبال ولها إدبار، والعاقل والموفق هو الذي يعرف كيف يتعامل مع نفسه في كلتا الحالتين، فإذا رأيت من نفسك جدا ونشاطا فاستغل ذلك في الطاعة، لكن من غير تشديد زائد، ومن غير تحميل للنفس ما لا تحتمل، لأن ذلك يؤدي إلى الفتور والكسل، وإذا رأيت من نفسك فتورا وكسلا فإياك وترك الفرائض والواجبات والوقوع في المحرمات، وإياك أن تخرج من دائرة الاستقامة مع وجود ذلك الكسل،، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لكل عمل شِرَّة [أي: قوة وحدة] ولكل شرة فَتْرة [أي: فتور وضعف] فمن كانت فترته إلى سنري فقد أفلح، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك». وقال عمر رضي الله عنه: إن لهذه القلوب إقبالا وإدبارا، فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل، وإذا أدبرت فألزموها الفرائض.
قال ابن القيم رحمه الله: تخلل الفترات للسالكين أمر لا بد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه من فرض ولم تدخله في محرم رجي له أن يعود خيرا مما كان عليه.
(يأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لِغَد واتقوا الله إن الله خبير بما تعلمون ولا تكونوا كالذين نسوا الله فآنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون)
الخطبة الثانية
لقد ودعنا قبل أيام قليلة شهر رمضان، شهر عظيم، يقبل فيه الناس على ربهم، تائبين خاضعين، منهم الموفق الصادق، ومنهم غير ذلك، وإن المشكلة الكبيرة التي تنتشر بيننا ليست في ترك النوافل والمستحبات بعد رمضان، بل في الإقبال الشديد على ما يغضب الله تعالى بعد هذا الشهر، وهذا أمر خطير -عباد الله-، يدل على أن كثيرا من الناس لم يفهموا الحكمة من الصيام، ولم يستوعبوا حقيقة هذا الشهر، يقول الله تعالى: (يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)، تحصيل التقوى هو أعظم مقاصد الصيام، إذا كنا قد امتنعنا عن الطعام والشراب في نهار رمضان وهما حلال، فالامتناع عن الحرام يكون طيلة العمر، فهل من كان ينظر خروج الشهر الكريم بفارغ الصبر ليعود إلى ارتكاب الآثام، هل حقق هذا ثمرة الصيام؟! كيف بمن بترك الصلاة بعد رمضان، كيف بمن تخرج من بيتها بكامل زينتها لتخالط الرجال، كيف بمن يقيم الحفلات الغنائية في أيام العيد، كيف بمن يخون الأمانة، كيف بمن يسخر قلمه للنيل من دين الإسلام، وللدعوة إلى الرذيلة... بل كيف بمن لم يراع حرمة الشهر أصلا، ولم يمتنع عن العصيان، بل نشر الفساد وحارب الفضيلة..
فالثبات الثبات -عباد الله-، فإننا نعيش في زمان كثير الفتن، قد دب الوهن وقلة الدين بين كثير من الناس، هذا يدعو إلى دين محسن مهجن يتوافق مع ثقافة العدو، وذاك يدعو إلي العلمانية وفصل الدين عن الدولة، وذاك يدعو إلى فساد النساء وتحررهن من الفضيلة، وآخر ينشر الفساد في الأرض ويثير الغرائز باسم الفن والإبداع، وآخر يستحل الدماء المعصومة ويروع النفوس الآمنة... وإن الثبات في هذا الواقع لمن خير الأعمال عند الله تعالى وأكثرها أجرا وفضلا، قال عليه الصلاة والسلام: «يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر». وقال: «إن من ورائكم أيام الصبر للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليـه أجر خمسين منكم قالوا: يا نبي الله أو منهم؟ قال: بل منكم». فيا من تمسكت بهذا الدين أبشر بالخير الكثير، لك أجر خمسين من الصحابة، وإن لم تصل إلى درجتهم وفضلهم، -ومن ذَا الذي يصل-، لكنك استقمت ولا أعوان لك على الخير، بل استقمت مع كثرة دعاة الشر والضلال والفجور، فهنيئا للمستقيم الثابت على دينه
جزاك الله خيرا
ردحذفونفع الله بك الامة