الخميس، 28 يوليو 2016

العفو والصفح

عناصر الخطبة
- العفو طريق العز، وتحصيل عفو الله تعالى.
- أبو بكر الصديق يعفو.
- فوائد العفو والصفح.
- حقيقة عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن الكفار.


روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله».
أمور ثلاثة تظهر عند كثير من الناس على خلاف حقيقتها.. إنها النفس البشرية التي جبلت على الظلم والجهل -إلا إن زَكَّاهَا صاحبُها-، تحمل صاحبَها على النظر إلى الأمور بالنظرة المادية القاصرة.. لقد عالج النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ثلاث مسائل، أرشد المسلمَ إلى تجاوز النظرة المادية الظاهرية للأمور، أرشده كيف يكون تفكيره وتصرفه وسلوكه قائما على القيم الدينية الإسلامية، كيف يطبق هذا الدين في حياته.. 
البخل وحب المال يوهم صاحبه أنه إذا أنفق من ماله في سبيل الله، وتصدق على فقير قريب أو بعيد، يوهمه أن هذا ينقص من ماله.. لكن النبي صلى الله عليه وسلم نفى هذا الأمر وفنده بعبارة موجزة بليغة، «ما نقصت صدقة من مال».. فدع عنك تلك الوسوسة يا ابن آدم، إنها تزيد في المال ولا تنقصه لو كنت تعلم.
وأما العفو والصفح عن المسيء الظالم المعتدي، فقد يظن المرء أنه إن عفا وهو قادر على الانتقام، قد يظن أن هذا العفو فيه ذُل وإهانة له.. لكن الحقيقة على خلاف ذلك، الحقيقة أن الله تعالى الذي يعلم السر وأخفى يرفع ذلك الرجل -بحق-، ذلك الرجل الذي عفا مع أنه يقدر على الانتقام، يرفع درجته ويعليها، ولا يذله لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وأما التواضع للناس فإنه الأمر الأعز والأصعب، قد يظن الإنسان أنه إذا تواضع للناس، ولم ير نفسه أفضل منهم، قد يظن أن هذا يحط من منزلته، بل قد يتطرف بعض المرضى ويظن أنه لا يرفع نفسه إلا بوضع غيره والتكبرِ والتعالي عليه، فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم موضحا للأمر ومجليا.. كلا إنها الرفعة ذاتها، الرفعة في الدنيا والآخرة لو كنت تعلم..
وهكذا يعالج النبي صلى الله عليه وسلم هذه المسلكيات، يدخل إلى خلجات النفس التي يخفيها الإنسان، فيجتث منها الداء ويرشده إلى الدواء، أمور مهمة وعظيمة لو أننا راعيناها في تعاملاتنا لكانت مانعة من المشكلات قبل وقوعها، وعاملا مهما في حلها بعد حدوثها..
ومن أهم هذه الأخلاق: العفو والصفح، الذي جاءت نصوص الكتاب والسنة حاضة عليه ومرغبة فيه...
وإذا كان العفو  طريقا للعز، فإنه كذلك طريق لتحصيل العفو الأعظم والأهم والأعز، إنه طريق لنيل العفو من الله العفو الغفور..
ها هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، لما وقعت حادثة الإفك التي افتراها المنافقون على أمنا عائشة رضي الله عنها، فنشروا الكذب والبهتان، كان أحد الذين تناقلوا هذا الكلام بشكل قليل محدود، ابنَ خالة أبي بكر الصديق، واسمه مسطح بن أثاثه، وكان فقيرا لا مال له، وكان أبو بكر ينفق عليه، فلما علم أبو بكر بكلام مسطح، حلف ألا ينفق عليه أبدا، وقال: والله لا أنفعه بنافعة أبدا. فلما نزلت براءة أم المؤمنين من فوق سبع سماوات، وطابت نفوس المؤمنين، وأقيم حد القذف على من تكلم في ذلك من المؤمنين، جعل الله تعالى يعطِّف أبا بكر على ابن خالته بعدما ضرب الحد، ونزل قوله تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي: فإنَّ الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر عن المذنب إليك نغفر لك، وكما تصفح نصفح عنك. فعند ذلك قال الصديق: بلى، والله إنَّا نحبُّ -يا ربنا -أن تغفر لنا. ثم رَجَع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا، في مقابلة ما كان قال: والله لا أنفعه بنافعة أبدًا. 
هذا هو أبكر بكر الصديق رضي الله عنه وعن ابنته، هذه هي النفوس المؤمنة الخاضعة لله، هذه هي المعادن الطيبة، يعفو عمن تكلم في عرض ابنته طلبا للأجر والمغفرة من الله تعالى، يعفو وهو القادر على الانتقام، قادر على حجز النفقة عن ذلك الرجل، لكنه جعل نفسه منقادة لربه، خلق عظيم لا يقدر عليه إلا صاحب إيمان عظيم.
عباد اللهم! في العفو والصفح رحمة بالمسيء، وتقدير لجانب ضعفه البشري.. في العفو توثيق للروابط الاجتماعية التي تتعرض إلى الوهن والانفصام بسبب إساءة بعضنا إلى بعض، وجناية بعضنا على بعض.. العفو والصفح سبب لنيل مرضات الله سبحانه وتعالى.. العفو والصفح سبب للتقوى (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُم).. العفو والصفح من صفات المتقين (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).. من يعفو ويصفح عن الناس يشعر بالراحة النفسية.. بالعفو تكتسب الرفعة والمحبة عند الله وعند الناس.. فَاعْفُوا واصفحوا وتراحموا يرحمكم من في السماء
(إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون)
————
للنبي صلى الله عليه وسلم مواقف كثيرة في المعاملة الحسنة والعفو والصفح عن الكفار، كيف لا وهو صاحب الخلق الحسن، كيف لا وهو الممتثل لأمر الوحي، هو الذي يتحرى الحكمة ويراعي أحوال المسلمين.
كثير من الناس في هذه الأيام، وفي ظل الهزيمة النفسية، والتفكير الخاضع للمعايير الغربية، وفي ظل رغبة غير مفهومة لاسترضاء من أذلونا وسامونا سوء العذاب.. في ظل هذا كله، يردد كثير من الناس كلاما لا يفهمون معناه، ولا منتهاه، يوردون بعض الحوادث في عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن الكفار ويؤولونها على غير بابها، ويفسرونها على غير تفسيرها..
إن عفو النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يوما من الأيام طريقا لتسويغ الهزيمة والذل، لم يكن ينتازل فيه عن كل مقدس وغال باسم العفو والتسامح، لقد كان عفوه عليه الصلاة والسلام إما عفوا عن مقدرة، يؤلف به القلوب، وإما عفو للحكمة ولمصلحة الدين إلى حين أن يأذن الله بتغير الحال..
ولنتأمل -عباد الله- بعضا من تلك الحوادث، ولنحاول فهمها، ولنتفكر.. هل فيها ما يسوغ تلك الدعوات التي تطالب المهزوم المقهور.. التي تطالب المهزوم أن يتنازل عن دينه وعقيدته باسم التسامح، وباسم العفو والصفح..
لقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحا منصورا مظفرا، وملك زمام الأمور فيها، وأصبحت تحت سيطرته، فكسر الأصنام واحدا واحدا، لم يبق منها صنما، ثم إنه لما جاء إلى الذين آذوه وناصبوه العداء.. لما جاء إلى الذين سبوه وشتموه وعذبوا أصحابه وَصَدُّوا عن سبيل الله.. لما تمكن منهم، ولم يحل بينه وبين قتلهم إلا كلمة يأمر بها أصحابه.. لما كان هذا الحال عفا عنهم، وصفح عنهم، فدخل الناس في دينه أفواجا لما رأوْا حسن خلقه وكرم سجيته عليه الصلاة والسلام..
إن عفوه عنهم لم يكن على حساب الدين ومسلماته، نعم لقد عفا عنهم، لكنه حطم أصنامهم...
وقبل ذلك.. في أيام مكة الصعبة الشاقة، لما كان الصحابة يعانون الأذى، وبعضهم يئن تحت الصيات والتعذيب، كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤمر بالعفو والصفح والصبر حتى يأتي الله بأمره، وحتى يؤذن لهم بالجهاد بعد أن تقوى شوكتهم، كان عليه الصلاة والسلام يصبر، ولا يرد الإساءة، أمره الله بذلك لحكمة بالغة، لكنه في الوقت ذاته كان يصرح بمعاداة المشركين، كان يصرح بالكفر بدينهم الباطل، بل كانت آيات القرآن تنزل كالصواعق على المشركين، تخلخل نفوسهم، وتصدع قلوبهم.. فلنقارن هذه الحال بما يدعونا إليه أولئك المفتونون أتباع الغرب، فالتسامح عندهم ألا تكفر اليهود والنصارى، التسامح عندهم أن تحب دول الغرب التي دمرت المسلمين وسعت في خراب دولهم، التسامح عندهم ألا تطالب بأرض، ولا تغضب لانتهاك عرض.. ليس أنت فقط، بل يجب أن تربي أبناءك على حب السلام والتسامح وقلة الحياء، بل وقلة الشرف، إنه ذُل وعار في صورة العفو، بل إنه كفر في زي التسامح.. ينسبون باطلهم إلى الدين، والدين منهم ومن باطلهم براء، وقانا الله وإياكم شر الأشرار وكيد الفجار..




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق