(لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد)
عناصر الخطبة:
- نظرة المؤمن إلى عمارة الأرض.
- الاعتبار بحال الحضارات الهالكة.
- حقيقة تنعم الكفار في الدنيا.
- أهمية الثقة بوعد الله.
- الدين لا يعيق التقدم.
الحمد لله العليم الحكيم، العزيز الرحيم، قدر مقادير الخلائق وأقواتها، وقسم بينها أعمارها وأرزاقها، جعل الدنيا ممرا قصيرا للعبور إلى دار البقاء، ولولا هوان الدنيا عليه ما سقى منها كافرا شربة ماء، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، والصلاة والسلام على عبده ورسوله أعدل من أعطى وقسم، أدبر عن الدنيا فأقبلت عليه، فأعلى الله به كلمته، وأظهر دينه على جميع الأمم.
أما بعد؛ فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى وراقبوه في السر والنجوى..
(لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد. متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد. لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار)
إن الله تعالى جل ذكره أنزل بني آدم إلى هذه الدار الفانية، امتحانا لهم واختبارا، ليبلوهم أيهم أحسن عملا، أرسل إليهم رسله، وأنزل إليهم كتبه نورا وهدى (فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى).
جعل الله سبحانه أمر الدنيا تابعا لأمر الآخرة، فمن أحسن الإقبال على آخرته، وأطاع أمر ربه، كان مستحقا للنعيم في الآخرة، منعما سعيدا في هذه الدنيا (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون).
وكم حذر الله جل ذكرُه عبادَه من الاغترار بهذه الدنيا، والركون والاطمئنان إليها، والانشغال بها عن الآخرة (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آيَاتِنَا غافلون. أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون).
لقد صححت هذه الشريعة نظرة المؤمن إلى الدنيا، فالمؤمن مأمور بعمارة الأرض وإقامة العدل والحكم بالشريعة فيها، مأمور بالأخذ بأسباب استمرار الحياة وتقدمها ورقيها، لكنه منهي عن الركون إليها، منهي عن الاغترار بها.. فالتقدم والرقي ليس هو معيار الصلاح والفساد، الحضارة ليس هي عنوان الفلاح، بل الدنيا تابعة للآخرة، فإن عمرها المؤمن واتقى ربه وجعل الآخرة همه، كان عمرانه للدنيا وتقدمه فيها محمودا مرضيا عند الله سبحانه وتعالى، وإن كفر بربه وانشغل بإقامة الحضارات بعيدا عن الالتزام بأمر الله كان فعله هذا مذموما، بل كان وبالا عليه في الدنيا والآخرة.
ها هي قصص الأمم الغابرة بين أيدينا، نقرؤها في كتاب ربنا.. ماذا كانت عاقبة تركهم لدين الله ومعاداتهم لرسله.. لقد أقاموا الحضارات العظيمة المتقدمة، التي كانت في وقتها قمة التحضر والرقي والتقدم.. لقد نحتت ثمود بيوتها في داخل الجبال، جمال معماري وإبداع هندسي، ها هو صالح عليه الصلاة والسلام يقول لهم: (وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين) أي: حاذقين متقنين.. فما أغنى عنهم إتقانهم ومهارتهم؟! وأما عاد فكانوا أهل قوة عظيمة وبأس شديد، حتى إن الله تعالى قال فيهم (التي لم يخلق مثلها في البلاد) وبلغ بهم الكبر والغرور أن قالوا (من أشد منا قوة) فما أغنت عنهم قوتهم؟!.. أين فرعون وجنوده، لقد استعبد بني إسرائيل وبنى بهم حضارة يتغنى بها السفهاء إلى يومنا هذا، ولما ذكره الله قال (وفرعون ذي الأوتاد) أي: جنوده، شبههم الله بالأوتاد لشدة انضباطهم وحفظهم لملك فرعون.. فما أغنت عنه جنوده؟! حضارات وأمم، جعلها الله تعالى هباء منثورا، لقد صاروا غبارًا في تاريخ البشرية، واستحقوا لعنة الله وغضبه، مع أنهم كانوا متقدمين، مع أنهم كانوا أهل حضارة ورقي، لكن هذا لم ينفعهم عند الله، لم ينفعهم في أخراهم، بل ولا في دنياهم.
لأن العبرة والفوز والفلاح ليس في التقدم الحضاري مع الكفر، بل في الإيمان والعمل والصالح، مع الأخذ بأسباب الرقي وعمارة الدنيا.
ولقد قرر كتاب ربنا قاعدة عظيمة في هذا الباب؛ وهي أن ما يُعطاه الكفار في هذه الدنيا من المتاع إنما هو متاع قليل، زائل متحول غير ثابت، إنما هو نقمة وإمهال، لا رضا وإفضال.. وما ينفع الناس نجاحهم في الدنيا إذا كانوا راسبين في الاختبار الأهم، وهو الاستجابة لأمر الله تعالى.. كأن رب العزة يجيب بعض من يقول: ها هم الكفار قد تقدموا علينا، وفتح الله عليهم الدنيا، لماذا هم في رخاء والمؤمنون في شقاء ها هي الإجابة الشافية الحاسمة (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد. متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد) أولا وقبل كل شيء لا تغتر، لا تغتر فإنه متاع قليل يذهب عما قريب، من كان كافرا لن ينفعه تقدمه في الآخرة.. ولماذا لا نغتر؟ لأن معيار المؤمن مختلف في الحكم عن معيار غيره..لقد نهانا الله عن الاغترار بحال الكفار في مواضع أخرى من كتابه تأكيدا على أهمية هذه المسألة في تقوية إيمان المؤمن، وصقل شخصيته، وتصحيح نظرته إلى الأمور، منها قوله تعالى: (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد) وقال تعالى: (إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون. متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون)، وقال تعالى: (نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ)، وقال: (فمهل الكافرين أمهلهم رويدا)، وقال تعالى: (أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين).
إذا هو إمهال واستدراج لعذاب الآخرة وخزي الدنيا، (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين)، وقال: ( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون).
عباد الله! إن المسلم الذي يتربى على هذه المعاني العظيمة لا ترهبه دعوات التبعية، ولا تخيفه خيالات الانهزام والتخذيل.. لقد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته وأقام دولته الفتية، وكانت وقتها أربع حضارات كبيرة تحكم العالم، حضارة الروم، وحضارة الفرس، وحضارة الهند، وحضارة الصين.. ومع ذلك لم نسمع أن أحدا من المسلمين قال في ذلك الوقت: إذا أردتم - أيها المسلمون- أن تقوى دولتكم، وتكونوا متحضرين، فاتبعوا حضارة الفرس، أو تشبهوا بحضارة الروم، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعرض للحصار والأذى في يوم الخندق ومع ذلك يعد أصحابه بفتح فارس والروم.. لقد كان مطاردا هاربا من بطش قومه، ومع ذلك يعد من يطارده بسواري كسرى.. إنه اليقين بوعد الله ونصره، إنها الثقة بالله تعالى.. إنه لم يفهم الزهد في الدنيا ذلك الفهم الخاطئ الذي يفهمه بعض الناس، ويؤيده -بخبث- أناس آخرون، ذلك الفهم الذي يدعو إلى ترك الظالم على ظلمه، والمفسد على فساده بدعوى الزهد وترك الدنيا، حتى صوروا دين الإسلام دينا لا علاقة له بالحياة، بل جعلوه أضحوكة للمجرمين.. لقد كان عليه الصلاة والسلام أزهد البشر في هذه الدنيا، لكنه كان حريصا على إقامة الدين، والأخذ بالأسباب الجالبة للنصر، وبأسباب عمارة الأرض (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا)
٢ لقد من الله تعالى على هذه الأمة، وفتح لها البلاد، وقبل ذلك قلوب العباد، فجاءتهم الدنيا صاغرة، وتوسعت دولتهم حتى بلغت المشرق والمغرب، وأقاموا حضارة لم يقم لها مثيل، إلى أن تَرَكُ كثير منهم أمر الله، وكثر فيهم الخبث، ونبذ ولاتهم كتاب الله وراءهم ظهريا، فذلوا وعادوا كما كان العرب قبل البعثة، متفرقين متشرذمين، تابعين لغيرهم..
يظن العلمانيون العرب أن خروج الأمة من مأزقها لا يكون إلا بالمزيد من البعد عن الدين، لا يكون إلا بالمزيد من التبعية، لا يكون إلا بالقضاء على أي دعوة لتحكيم الشريعة.. تراهم يصفون أهل الدين بالتخلف، يكثرون من التحدث عن العلم ودوره في بناء المجتمعات، حتى إنك لتظن أنك إذا فتحت قناة من قنواتهم الفضائية فإنك ستشاهد فيها دروس الفيزياء، والكيمياء والذرة، فإذا هي مليئة بالفحش والعري والمسابقات الفارغة، إذا هي تهدم كل فضيلة وتدعو لكل رذيلة.. عن أي علم وتقدم تتحدثون لا أبا لكم، هل منعكم الدين من التقدم والرقي، أم ترى المشايخ أمسكوا مركباتكم التي تريدون الصعود بها إلى القمر، أم ترى المساجد عوقتكم عن بناء المستشفيات ودور العلم.. الحقيقة المرة التي لم يدركها هؤلاء إلى الآن هي أنهم هم أهم عامل من عوامل التخلف والجهل والظلم والطغيان.
ولو أنا سألنا أي عاقل وعرضنا عليه تلكم الصورتين، صورة دولة الخلافة برقيها وحضارتها وعزها وقوتها، والصورة الحالية للمسلمين، لقال ما كُنتُم عليه هو الخير والصواب، ولا يجب بغير هذا الجواب إلا من رهن عقله وفكره لغير دينه وأمته..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق