الخميس، 9 نوفمبر 2017

الشوق إلى لقاء الله ﷻ 
عناصر الخطبة:
  • ما هو الشوق إلى لقاء الله ﷻ.
  • الشوق إلى لقاء الله تعالى من صفات الصالحين.
  • الشوق إلى لقاء الله من أسباب علو الهمة.
عن السائب بن مالك، قال: كنا جلوسا في المسجد، فدخل عمار بن ياسر فصلى صلاة أخفها، فمر بنا فقيل له: يا أبا اليقظان: خففت الصلاة. فقال: أوَ خَفيفةً رأيتموها؟ قلنا: نعم. قال: أما إني قد دعوت فيها بدعاء قد سمعته من رسول الله ﷺ، ثم مضى فاتبعه السائب فسأله عن الدعاء، ثم رجع فأخبرهم بالدعاء: «اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْينِي مَا عَلِمْتَ الْحَياةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ وَأَسْألُكَ خَشْيَتَكَ فِي الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لاَ يَنْفَدُ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لاَ تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ المَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَأَسْأَلَكَ الشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غيرِ ضَرَّاءٍ مُضِّرَةٍ، وَلاَ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإيِمَانِ، وَاجْعَلنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ».
دعاء نبوي عظيم، اشتمل على معاني كثيرة، يطول فيها الكلام، ويفنى في بيانها المداد، لكننا نريد من نقطف ثمرة واحدة من هذه الحديقة الغناء، ونحاول أن نتكلم عن معنى عظيم واحد، من المعاني الكثيرة التي اشتمل عليها هذا الحديث ألا وهو: الشوق إلى لقاء الله سبحانه وتعالى.. هذا المقام الإيماني العالي، الذي عبر عنه النبي ﷺ في هذا الدعاء من خلال أكثر جملة، فقال في أول الدعاء: «أَحْينِي مَا عَلِمْتَ الْحَياةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي»، وقال في آخره: «وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَأَسْأَلَكَ الشَّوْقَ إِلَى لِقَائِك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة».
عباد الله! أتدرون ما هو الشوق إلى الله تعالى؟ هو أن يحب العبدُ ربَّه، ثم تزيد هذه المحبة في قلبه على كل ملاذ الدنيا وشهواتها، حتى إنه ليتمنى أن يخرج سريعا من هذه الدنيا، لا لشيء إلا ليلقى الله ﷻ، ولذلك فإن النبي ﷺ لما ذكر الشوق إلى لقاء الله تعالى قال: «في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة»، فالضراء هي ما يلحق الإنسان من مصائب في هذه الدنيا، والفتنة هي انتشار العصيان لله تعالى في الأرض وانتشار الفتن حتى يخاف العبدُ على دينه.. هذان السببان هما ما يدعوان إلى تمني الموت في الغالب: أن يتمنى الإنسان الموت لمصيبة وضيق نزل به، وأن يتمناه خوفا على دينه من الفتن، لكن ليس هذا ما أراده النبي ﷺ، فالشوق إلى لقاء الله هو أن تقوى تلك المحبةُ في قلب العبد، حتى يشتاق إلى لقاء الله، لشدة محبته لله وليس لأي سبب آخر.
إذا وصل العبد إلى هذه المرتبة الإيمانية فقد وصل إلى النعيم الدنيوي، وعاش في ريح الجنة قبل أن يدخلها، ولذلك كان بعض الصالحين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف.
وسر هذا الشوق هو تغلّب محبة الله تعالى على محبة الدنيا، فالقلب إذا كان غارقا في الدنيا وشهواتها لا يمكنه إدراك هذه المعاني، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ . أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
وإن الشوق إلى لقاء الله تعالى هو من صفات صفوة عباد الله وخيرهم، ها هو النبي ﷺ يرى المطر نازلا فيحسر ثيابه عن جسده الشريف ليصيبه المطر، فيُسْألُ عن هذا فيقول: «إنّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِربِّه».
وازداد شوقه لربه في آخر حياته، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: «إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ». فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا! فَعَجِبْنَا لَهُ، وَقَالَ النَّاس: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هُوَ الْمُخَيَّرُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمُنَا بِهِ.
وها هو موسى عليه الصلاج والسلام يتعجل إلى لقاء الله تعالى فقيول: (وعجلت إليم رب لترضى)، بل ويطلب منه أن يراه شوقا إليه فيقول: (رب أرني أنظر إليك)، ويسأله الله تعالى عن عصاه (وما تلك بيمنك يا موسى) فيطيل الجواب استئنانا بالكلام مع الله تعالى فيقول: (هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غني ولي فيها مآرب أخرى).
ولما حضرت بلالَ بنَ أبي رباحٍ الوفاةُ وغشيته سكرات الموت قالت امرأته: واكرباه، فقال لها بلال: بل وافرحاه، غداً ألقى الأحبة محمداً وحزبه. ويقول الحسن: والذي نفسي بيده ما أصبح في هذه القرية من مؤمن إلا وقد أصبح مهموماً محزونًا، ففروا إلى ربكم وافزعوا إليه؛ فإنه ليس لمؤمن راحة دون لقائه. ويقول عبد الله بن زكريا: لو خيرت بين أن أعيش مائة سنة في طاعة الله أو أقبض في يومي هذا أو في ساعتي هذه؛ لاخترت أن أقبض في يومي هذا وساعتي هذه شوقا إلى الله وإلى رسوله ﷺ وإلى الصالحين من عباده.  وقال يحيى بن معاذ: يخرج العارف من الدنيا ولا يقضي وطره من شيئين: بكاؤه على نفسه، وشوقه إلى ربه. وقال ذو النون: ما طَابَتِ الدنيا إلا بِذِكْرِه، ولا طَابَتِ الآخرة إلا بِعَفْوِه، ولا طَابَتِ الجنة إلا بِرؤيته.
إنه شوق يبقى مع المؤمنين حتى بعد دخولهم إلى جنان النعيم، فعَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: تَلاَ رَسُولُ الله ﷺ هَذِهِ الآيَةَ: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) قَالَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ نَادَى مُنَاد: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ الله مَوْعِدًا يُحِبُّ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ. فَيَقُولُونَ وَمَا هُوَ؟ أَلَمْ يُثَقِّلْ الله مَوَازِينَنَا؟ وَيُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَيُخْرِجْنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَوَالله مَا أَعْطَاهُمْ الله شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْه».
الخطبة الثانية
إن محبة الله ﷻ والشوق إلى لقائه هي من أكثر الدواعي التي تدعو الإنسان إلى العمل الصالح والجد، يقول ابن القيم: فالشَّوق يَحْمِل المشتاق على الْجِدّ في السير إلى مَحْبَوبِه، ويُقَرِّب عليه الطريق، ويَطْوِي له البعيد، ويُهَوّن عليه الآلام والْمَشَاقّ، وهو مِن أعظم نِعْمَة أنْعَم الله بها على عَبْدِه.
في معركة بدر صاح النبي ﷺ في أصحابه وقال لهم: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض، والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر؛ إلا أدخله الله الجنة». فألقى عميرُ بنُ الحُمَامِ تمراتٍ كانت في يده وقال: والله إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات.. فقاتل حتى قتل.
وتأملوا قصة أبي الدحداح كيف حرك الشوق قلبه وألبسه حب البذل والعطاء اشتياقاً للأجر العظيم من الله، فعن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿ مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ﴾ قال أبو الدحداح الأنصاري: وإن الله يريد منا القرض؟ قال النبي ﷺ: «نعم يا أبا الدحداح». قال: أرني يدك يا رسول الله، قال فناوله رسول الله يده، قال فإني أقرضت ربي حائطي قال: حائطه له ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها. قال فجاء أبو الدحداح فنادي يا أم الدحداح! قالت: لبيك، قال: أخرجي من الحائط فإني أقرضته ربي عز وجل.

إن محبة الله تعالى ومحبة من يحبونه تجبر ما عند المؤمن من نقص في الأعمال الصالحة، وتجعله في مصاف الصالحين، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً قََالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: «وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ؟» قَالَ: لاَ، إِلاَّ أَنِّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، قَال: «فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ».قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ بَعْدَ الإِسْلاَمِ  فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «إِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ». قَالَ: فَأَنَا أُحِبُّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ، لِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ كُنْتُ لاَ أَعْمَلْ بِعَمَلِهِمْ.

هناك تعليق واحد: