الجمعة، 17 نوفمبر 2017

عبادة التفكر
عناصر الخطبة:
  • أهمية التفكر في مخلوقات الله ﷻ. 
  • التفكر في أحوال الأمم الغابرة.
أخرج ابن حبان عن ابن عمير أنه قال لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله ﷺ قال: فسكتت، ثمّ قالت: لمّا كانت ليلة من اللّيالي قال رسول الله ﷺ: «يا عائشة، ذريني أتعبّد اللّيلة لربّي». قلت: والله إنّي لأحبّ قربك وأحبّ ما سرّك. قالت: فقام فتطهّر، ثمّ قام يصلّي. قالت: فلم يزل يبكي حتّى بلّ حجره، قالت: ثمّ بكى فلم يزل يبكي حتّى بلّ لحيته، قالت: ثمّ بكى فلم يزل يبكي حتّى بلّ الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصّلاة، فلمّا رآه يبكي. قال: يا رسول الله لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم وما تأخّر؟ قال: «أفلا أكون عبدا شكورا، لقد نزلت عليّ اللّيلة آية، ويل لمن قرأها ولم يتفكّر فيها: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْباب.
صفة عظيمة من أهم صفات المؤمنين، وعبادة كريمة لطالما حرص عليها أصحاب اليقين… إنها عبادة التفكر.. التفكر في مخلوقات الله سبحانه، والتفكر في أحوال الدنيا، طلبا لليقين، وطلبا للموعظة، وطلبا لعلو الهمة في العمل الصالح.
التفكر -عباد الله- هو أن يكرر الإنسان التفكير فيما يراه حوله من المخلوقات، وفيما يحدث حوله من حوادث، فيما مر ومضى من أحوال الأمم الغابرة… وإن من رحمة الله تعالى بخلقه أن جعل سبيل الوصول إلى معرفته وتقوية الإيمان به أمرا يسيرا، فأدلة خلق الله تعالى للكون بين أيدينا، نراها ونسمعها، وسنة الله في خلقه حاضرة في تواريخ الأمم، وهوان الدنيا وسرعة ذهابها أمر ظاهر، ولكن كثيرا من الناس يغفلون عن التفكر في هذه الآيات مع عظمها، وذلك لأن الإنسان إذا اعتاد رؤية شيء معين فإنه يغفل عما فيه من دقة خلق، ويغفل عما فيه من دلائل وآيات، ويغفل عما فيه من مواعظ تحرك القلوب، ولا يزيل هذه الغفلة إلا تكرار التأمل والتفكر في هذه الأمور.
لذلك فقد أمرنا الله تعالى أن نتفكر في مخلوقاته، ومدح عباده الذين يتصفون بهذه الصفة.. لم يرد الله ﷻ من عبده المؤمن أن يكون قاسي القلب غافلا عما يوجد حوله من آيات ودلائل. بل يريد من عبده أن يكون دائم الفكرة والتأمل فيما يراه ويسمعه.
والأمور التي أمرنا الله تعالى أن نتفكر فيها كثيرة، وكل منها يؤدي إلى نتيجة إيمانية، أو سلوكية مختلفة. فمن هذه الأور التي حثنا الله تعاىلى على التفكر فيها: التفكر في المخلوقات وما فيها من إبداع خلق، حتى نصل إلى اليقين وقوة الإيمان بأن هذه المخلوقات لا بد لها من خالق عليم قدير قوي حكيم. 
ولنتأمل في هذه الآيات التي تلاها النبي ﷺ وبكى ليلة كاملة متفكرا فيها، وقال: «ويل لن قرأها ولم يتفكر فيها». يقول سبحانه في آخر سورة آل عمران: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ . رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ. ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيآتنا وتوفنا مع الأبرار…). فقد ذكرت هذه الآيات أن من صفات أصحاب العقول الراجحة أنهم يتفكرون في خلق السماوات والأرض وما فيهما من عجائب الخلق، وأنهم يأخذون منها دلائل على وجوده سبحانه، لتقوية إيمانهم ويقينهم، وأن هذا التفكر ترك عليهم أثرا، ظهر من خلال إقبالهم على العبادة كما في قوله: (الذين يذكرون الله قياما وقعودا)، ولما علموا عظيم قدرة الله تعالى جعلهم هذا يخافون اليوم الآخر وما فيه من أهوال، ثم ترك عليهم هذا التفكر أثرا في سرعة استجابتهم للحق وتسليمهم لأوامر هذا الخالق العظيم، كما قال عنهم: (ربنا إننا سمعنا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا…).
وقد ذكر الله تعالى في القرآن كثيرا من المخلوقات التي نراها حولنا، وهي من أعظم الأدلة على وجوده وكماله سبحانه، فذكر الشمس والقمر، والليل والنهار، إنزال المطر وإخراج النبات بسببه، وذكر الرعد والبرق، والسحاب والنجوم، وتسخير الرياح لذلك، وتسخيرها لسير السفن في البحر، وذكر خلق الإنسان من عدم، وحثنا على التفكر في الزواج، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم، وجعْلِ الليل سكنا لنا، وذكر لنا المراحل التي يمر الإنسان بها في حياته، وتفضيل بعض الناس على بعضهم في الرزق، وذكر لنا النحل والإبل والجبال، وغير ذلك. 
وما أجمل ما قاله الإمام الشافعي لما سئل عن دليل وجود الله تعالى فقال: هذه ورقة التوت، تأكله الدود فيخرح منها الحرير، وتأكله النحل فيخرج منها العسل، وتأكلة الشاة والبقر والأنعام فيخرج منها الروث، وتأكله الظباء فيخرح منها المسك.. كل هذا والتوت شيء واحد.
عباد الله! إن من كان في قبله غفلة أو هوى، لا تنفعه هذا الآيات التي يراها ويسمعها من حوله، لذلك قد أنكر الله تعالى على الكفار عدم اتعاظهم بهذه الآيات موجها لهم إلى التفكر فيها فقال: (أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون. وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون. وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون. وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون).
لكن أصحاب القلوب القاسية يحاولون الهرب من هذه الدلالات التي تقنع العقل، وتدخل إلى القلب رغما عنه.. وفي هذا الزمن يحاولون رد أي ظاهرة إلى تفسيرات علمية ترجعها إلى أي سبب.. المهم أن لا يقولوا: هي من عند الخالق العظيم، ومشكلتهم ليست في ذكر السبب العلمي، فالإسلام علمنا أن كل شيء مما نراه حولنا له سبب، لكن من هو الذي يخلق هذا السبب؟ من الذي يجعله سببا؟ هنا يقف الملاحدة، ويحالون الفرار، يقولون: الزلازل تحدث بسبب تحرك طبقات الأرض، نعم هذا سبب، فمن الذي يحركها؟ من الذي يخلق هذا السبب؟ يقولون: المطر يأتي بسبب اختلاف الضغط الجوي، نعم هذا صحيح، فمن الذي يخلق هذا السبب؟ ومن الذي يجعل الكون يسير بهذا النظام؟ ومن الذي أتقن خلق الإنسان؟ أكل هذا جاءت به صدفة عمياء؟! (تعالى الله عما يشركون).
الخطبة الثانية
عباد الله! إن من أهم الأمور التي أمرنا الله تعالى أن نتفكر فيها: التفكر في أسباب هلاك الأمم الغابرة.. أمم بلغت من التطور الحضاري قمته، وبلغت من القوة ما بلغت، مع ذلك أُفنيت في لمح البصر.. إنهم لم يشكروا الله سبحانه على نعمة القوة والتقدم، بل سخروها في سبيل الشرك ونشر الفواحش والمعاصي، فأبادهم الله تعالى.. ولقد حثنا القرآن على أخذ الموعظة من هذه الأحداث التاريخية في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون. ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوؤى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون).

إننا إن عجزنا عن أخذ العبرة من التاريخ فما هي فائدة عقولنا، وإذا لم نعلم أن المصائب والزلازل وانقطاع المطر قد تكون عقوبات أو إنذارات من الله تعالى فما فائدة علومنا..  هل سنستجلب رحمة الله تعالى بالمعاصي؟ هل سنجلبها بسب الله تعالى؟ أم بتحيكم غير شريتعه؟ أم بنشر الفواحش؟ أو بإفساد الشباب والفتيات بالاختلاط المحرم؟ أم بإقامة الحفلات الماجنة؟ أم بظلم بعضنا لبعض؟ أم بالجبروت والطغيان؟ لكن الإشكال ليس في عدم وجود العقول والقلوب، فالعقول والقلوب موجودة.. لكن الإشكال هو في عدم استخدام هذه العقول وهذه القلوب بالطريقة الصحيحة، حتى غدت كأنها غير موجودة، قال تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق