وعد بلفور
عناصر الخطبة:
- من أهم أسباب الظلم الواقع على المسلمين: عداوة الكفار للمسلمين، وحالة الضعف العامة.
- الغزو الفكري وأثره في تطويع بعض المسلمين.
(ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)
في هذه الأيام تمر علينا ذكرى أكبر مهزلة في تاريخ البشرية المعاصر… لقد كان الناس يظنون أن الإنسان إذا لم يكن مالكا لشيء فإنه لا يحق له التصرف فيه، فلا يحق لك مثلا أن تبيع بيت جارك، أو أن تهديه لصديقك مثلا.. لقد كان هذا هو المعيار العقلي والديني الذي تتعامل به البشرية، حتى جاء وعد بلفور، وحتى جاء الكرم الإنجليزي ليعطي حقا في فلسطين لشرذمة عاثت فسادا في الكرة الأرضية، جاء هذا الكرم على حساب فلسطين..
ولكن لحظة.. هل هذه الحالة من قلب الموازين، والعبث بالعقل البشري حالة جديدة حقا؟ أم أنها قديمة؟ إذا تأملنا كتاب ربنا وجدنا أن هذه الحالة ضاربة في القدم.. ما من طاغية ولا ظالم ولا داع إلى الكفر والضلال إلا استخدم هذه الطريقة، ها هو فرعون الطاغية الكافر، يقول لقومه محذرا لهم من موسي عليه الصلاة والسلام: (إني أخاف أن يبدل دينكم أو يظهر في الأرض الفساد) مع أن فساد فرعون وظلمه وكفره لا يخفى على أحد. وها هم قوم لوط يقولون: (أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) فجعلوا الطهارة والعفة جريمة. بل ها هم كفار قريش يتعجبون من دعوة النبي ﷺ لهم إلى التوحيد فيقولون: (أجعل الآلهة إلها واحدا).. وهكذا في كل حين يظن الطغاة والظلمة أنهم بقوتهم وجبرتهم يمكن أن يستمروا بسلب الحقوق وخداع العقول.
ولكن إذا حاولنا أن نقف على سبب هذا الظلم الذي وقع علينا، وإذا نظرنا في نصوص الشرع فإننا سوف نجد أن هناك سببين رئيسين لمثل هذه الحالة من الهزيمة التي تتكرر كلما تكرر سببها: هذان السببان هما: عداوة الغرب الكافر للمسلمين، وحالة الضعف التي مرّ ويمر بها المسلمون.
ـ أما العداوة بيننا وبين أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهي من الحقائق الشرعية والتاريخية التي لا يمكن لأحد أن يشكك فيها، لقد أخبرنا تعالى أن اليهود والنصارى لن يرضوا عنا حتى نترك ديننا ونتبع دينهم المحرف فقال: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)، وقال تعالى: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء)، وقال: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا).
فهل بعد هذه الآيات التي تصرح بوجود العداوة بيننا وبينهم مقال، وهل هناك مقال بعد كل تلك الحروب التي جرت بيننا.. وهل بعد فلسطين والعراق وسوريا وأفغانستان وأراكان والصومال وغيرها.. هل بعد كل هذا الخراب الذي حل في بلاد المسلمين يكون هناك عذر لمن يريد أن يغمض عينيه عن هذه الحقيقة.. وهذا يوقفنا على أن عداوة الكفار لنا هي شيء حقيقي، وليس نظرية مؤامرة،وليست أوهاما كما يقول البعض.
- وأما السبب الثاني -وهو حالة ضعف المسلمين-، فإنه لما كان ذلك الحقد الصليبي لا يمكن أن يزول من قلوب الغرب على المسلمين، فإنهم يستغلون أي حالة ضعف يمر بها المسلمون، يستغلونها ليبعدوا المسلمين عن دينهم، ويستغلونها لقتل المسلمين واحتلال بلادهم.
قال ﷺ: «تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها» قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من صدور عدوكم منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن». قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: «حب الدنيا وكراهية الموت».
لقد استغل الكفار حالة بُعْد المسلمين عن دينهم، واستغلوا ضعفهم وانقضوا على بلاد المسلمين وتقاسموها، ونهبوا خيراتها، ثم وضعوا بينها ذلك الكيان السرطاني الخبيث.. نعم إنه خبيث، لقد ملؤوا الأرض فسادا ولا دولة لهم، فكيف وقد صارت لهم دولة، لقد أراد الغرب بإنشاء كيان اليهود على أرض المسلمين أن يضمن بقاء المسلمين ضفعاء بعيدين عن دينهم، تابعين لغيرهم.
عباد الله! فلنتأمل في هذا الحديث الذي وصف النبي ﷺ حالة ضعف المسلمين، وذكر لنا فيها أسباب هذا الضعف، لقد بين النبي ﷺ أن حالة الضعف في المسلمين في آخر الزمان ليست بسبب قلة العدد، فإنه ذكر أن عدد المسلمين كثير، ولكن الخلل في التربية على هذا الدين، هذه التربية الإيمانية التي تزرع العقيدة في القلوب، وتجبل النفوس على العزة والكرامة، وتجعل النصر وإعلاء كلمة الله تعالى غاية لا يقف في وجهها موت الأبطال، ولا فقد الأحباب، ولا فوات الدنيا، ولا قلة الطعام والشراب، تربية تجعل الدنيا مسخّرة لخدمة هذا الدين، ولا تجعلها غاية بحد ذاتها، تربية تَهون النفوس فيها لأجل إعلاء راية التوحيد، ورفع الظلم عن المظلومين.. لقد وصف النبي ﷺ عموم الأمة في ذلك الزمان بأنهم غثاء كغثاء السيل، وغثاء السيل لا قيمة له، فما هو إلا أمور لا حاجة لها تطفو على سطح الماء.. وغثاء السيل لا يعرف اتجاهه، فهو يسير مع السيل كيف سار.
ولكن لماذا يصل أحفاد أبي بكر وعمر إلى هذا الحال؟ لماذا يتردى نسل البطولة إلى هذا المستوى؟ السبب هو أنهم خالفوا طريق أجدادهم، وحادوا عن السبيل، قال عليه الصلاة والسلام مبيننا سبب ذلك: «ولينزعن الله المهابة من صدور عدوكم منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن» ثم فسر الوهن بأنه حب الدنيا وكراهية الموت.. وحب الدنيا سببه البعد عن الدين، والانفتان بدنيا الكفار، وترك الجهاد في سبيل الله.
هذا يعطينا درسا؛ وهو أن التمسك بالدين هو العامل الأساسي لتحصيل النصر، ولرفع الظلم، واسترداد الأرض والمقدسات، وأن الجهاد في سبيل الله تعالى هو ما يوفر العزة والكرامة للأمة، وهو الذي يخوف أعداءنا منا، ويجعلهم يكفون شرهم عنا ويحسبون لنا ألف حساب: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المومنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا).
الخطبة الثانية:
فإن من من أهم مكايد الأعداء لتطويعنا: جعل بعض المسلمين ينظرون إلى الغرب على أنهم مخلصون منقذون، ويرون أن الاقتداء بالغرب والثقة بهم هي طريق النجاح.
وهذه النظرة لا تختلف كثيرا عن وعد بلفور، فهي قلب للموازين، وفهم للمعادلة بشكل معكوس، ولست أدري ما هو الفرق بالنسبة لنا بين دولة اليهود التي تحتل أرضنا، وبين دول أوروبا التي دعمت دولة اليهود، وشرعنت حقهم فيها، ودعمتهم بالسلاح والمال والسياسة، بل إنه لولا أوروبا وأمريكا لما كانت دولة اليهود.. إنهم لا ينتصرون إلا بمساعدة من غيرهم، كما قال تعالى: (ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس)، فما هو الفرق إذا بين التطبيع مع الغرب والتطبيع مع اليهود.
عباد الله! في بلاد فلسطين، وعلى أنغام وعد بلفور ينشأ جيل تطبيعي بامتياز، لا يحمل أي ممانعة تجاه ما يفرضه الغرب، وما يطلبه من تنازلات عن الدين والثقافة، وأول هذه التنازلات هو تحييد دين الإسلام من معادلة الصراع مع اليهود، وحصره في حالة قومية علمانية، لا ترى لدين الإسلام أي قيمة في تحرير فلسطين..
فهل هذا هو طريق النصر الموعود؟ هل يأتي النصر عن طريق تذويب ثقافة المسلمين في حضارة الغرب؟ هل يأتي النصر بالحفلات الغنائية؟ هل يأتي النصر بالدعوة إلى تحرير المرأة من الدين ومن الحجاب؟ هل يأتي النصر بإشاعة الاختلاط بين الشباب والبنات؟ هل من طريق التحرير أن نخرج شبابنا وبناتنا في رحلات ترفيهية مختلطة؟ وهل جعل المناهج الدراسية ألعوبة بيد الضائعين سيجعل أبناءنا بحال أفضل؟
دعوات لا تعرف إلا تقليد الغرب في كل شيء إلا فيما هو نافع.. هزيمة نفسية، لا تريد إلا دينا مهجنا متسامحا مع الظالم والمحتل..
عباد الله! هذه الأرض أرض ارتوت بدماء الصحابة، ارتوت بدماء أبطال المسلمين، وقبل ذلك فإنها تشرفت بأن وطئتها أقدام محمد ﷺ.. لا يحق لأحد، ولن يستطيع أحد أن يخرج دين الإسلام أو يهمشه من معادلة الصراع مع اليهود.. (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق