السبت، 30 يوليو 2016

خطبة عيد الفطر ١٤٣٧
محاور الخطبة:
- منة الله تعالى على المؤمنين بصيام شهر رمضان.
- منة الله تعالى على المؤمنين ببعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. 
- حال المسلمين في هذا الزمان.. والأمل بالله تعالى.
- الحث على التراحم وتقارب القلوب. 

الحمد لله الرحيم الرحمن، الكريم المنان، أمر عباده بالطاعة والإحسان، وأثابهم الفردوس والجنان، وأشهد ألا إله إلا وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، سيد ولد عدنان، أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله حق التقوى وراقبوه في السر والنجوى، واعلموا أنه أقرب إلى أحدكم من حبل الوريد.
(من عمل صالحا من ذكر أو أنثى فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)
عباد الله! إن الله تعالى كريم منان محسن إلى عباده، ومن كرمه جل وعلا أن يسر لهم مواسم للطاعات ومضاعفة الحسنات ورفعة الدرجات، ومن أعظم هذه المواسم وأكثرها خيرا شهر رمضان، وقد من الله تعالى علينا بشهود هذا الشهر العظيم، وتوفى منا آخرون قبل شهود هذا الشهر أو بعد دخوله، فرحم الله من مات، وأَسْبَغ عليهم الرحمات، وتقبل منكم طاعاتكم، ورفع درجاتكم..
الله أكبر ... 
لقد جعل الله تعالى شهر رمضان شهرا للتسابق إلى الخيرات، ولقد بدأ السباق وانتهى، فهنيئا وطوبى لمن اجتهد وشمر، وأعظم الله عزاء من عصى وقصر
وإن أكثر الناس فرحا بالعيد وسرورا، هو أكثرهم تعبا ونصبا في ذلك الشهر، فهميئا لمن أظمأ هواجره، وسهر لياليه في الطاعات، فعلى قدر النصب والتعب تكون الجائزة، وهذا اليوم هو جائزة أهل التقوى والصبر
ويا من قصرت وفرطت في هذا الشهر لا تيأس ولا تقنط، فباب التوبة مفتوح، وفضل الله واسع، ونواله جزيل في كل الشهور والأيام
الله أكبر..
عباد الله! بعث الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم خاتما للرسل، وجعل رسالته خاتمة الرسالات، بعثه بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، أرسله بدين التوحيد الذي بعث به إخوانه من الأنبياء والمرسلين، فحطم الأصنام وكسر الأوثان، ودعا الناس إلى صرف جميع أنواع العباد لله تعالى، ففتح الله به أعينا عميا، وآذانا صما وقلوبا غلفا، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فنصر الله به وبأصحابه الدين، وارتفعت راية المؤمنين، ودحرت راية الكافرين، وخبت أصوات المنافقين، فالحمد لله على نعمائه وآلائه
الله أكبر...
يمر هذا العيد علينا وأمة الإسلام تعاني الأمرين، فأعداء الخارج يقتلون ويدمرون، وأذنابهم من أعداء الداخل والمنافقين يحرفون الدين، ويثبطون ويبثون في الأمة روح الانهزام
وبالرغم من كل تلك المآسي فإن المؤمن إذا نظر في نصوص الشريعة، وإذا نظر في تاريخ الأمة الإسلامية فإنه سيرى الأمل من خلال تلك المصائب، ويرى النور من خلال ذلك الضباب..
كم عانت الأمة عبر التاريخ من العدوان والظلم لكنها كانت تخرج من محنتها قوية فتية.. لقد حكم الشيوعيون بلادا إسلامية، وحاربوا الدين بكل شعائره، فمنعوا الصلاة والصيام وقراءة القرآن، ومع ذلك لما قصم الله تلك الدولة الملحدة، خرج أناس من بين ركام الظلم كانوا يعلمون صبيانهم القرآن على أضواء الشموع في الملاجئ..
كم مرت الأمة بانتكاسات دينية، وعمتها الموجات العلمانية والإلحادية، لكنها أفاقت من غفلتها، وعادت إلى رشدها..
واعلموا عباد الله أن أي دين أو فكر لو أنه تعرض لجزء مما تتعرض له أمتنا لذهب واندثر، ولكن الله جل وعلا قد تكفل بحفظ هذا الدين، بل تكفل بنصر هذا الدين، بِنَا أو بغيرنا، (هو الذي أرسل..) وقال صلى الله عليه وسلم: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، حتى لا يدع بيت مدر ولا حجر إلا دخله، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يغز به الإسلام وأهله، وذُلا يذل به الكفر وأهله".
فأبشروا وأملوا
واعلموا أن الناكص على عقبه لا يضر إلا نفسه، وإن لم نكن أهلا لحمل هذا الدين، والتضحية من أجله، فإن الله سيأتي بقوم ينصر بهم دينه
شبابنا أمل هذه الأمة ومستقبلها، وإذا أردنا عز هذه الأمة فعلينا أن تناجر بالشباب.. بتلك الدماء الفتية، المملوءة بالعطاء.. لا تتركوا أبناءكم يتلاعب بهم العلمانيون والتغريبيون في هذه البلاد، بل بثوا فيهم روح الولاء والانتماء والاعتزاز بهذا الدين.. (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)

الثانية (منقولة)
إن من حكم العيد ومنافعه العظمى، التواصل بين المسلمين، والتزاور، وتقارب القلوب، وارتفاع الوحشة، وانطفاء نار الأحقاد والضغائن والحسد. فلا شيء يؤلف بين المسلمين سوى الحق؛ لأنه واحد، ولا يفرق بين القلوب إلا الأهواء لكثرتها، فالتراحم والتعاون والتعاطف صفة المؤمنين فيما بينهم، كما روى البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»، وفي الحديث:«ليس منا من لم يرحم الصغير، ويوقر الكبير»، والمحبة بين المسلمين والتواد غاية عظمى من غايات الإسلام، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلام بينكم» فجاهد نفسك ـ أيها المسلم ـ لتكون سليمَ الصدر للمسلمين، فسلامة الصدر نعيم الدنيا، وراحة البدن ورضوان الله في الأخرى، عن عبد الله بن عمرو قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: «كل مخموم القلب، صدوق اللسان» قالوا: فما مخموم القلب؟ قال: «هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد»
وعليكم ببر الوالدين وصلة الأرحام، والإحسان إلى الأيتام، وذلك عمل يعجِّل الله ثوابه في الدنيا مع ما يدخر الله لصاحبه في الآخرة من حسن الثواب، كما أن العقوق والقطيعة ومنع الخير مما يعجل الله عقوبته في الدنيا، مع ما يؤجل لصاحبه في الآخرة من أليم العقاب.











الخميس، 28 يوليو 2016

العفو والصفح

عناصر الخطبة
- العفو طريق العز، وتحصيل عفو الله تعالى.
- أبو بكر الصديق يعفو.
- فوائد العفو والصفح.
- حقيقة عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن الكفار.


روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله».
أمور ثلاثة تظهر عند كثير من الناس على خلاف حقيقتها.. إنها النفس البشرية التي جبلت على الظلم والجهل -إلا إن زَكَّاهَا صاحبُها-، تحمل صاحبَها على النظر إلى الأمور بالنظرة المادية القاصرة.. لقد عالج النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ثلاث مسائل، أرشد المسلمَ إلى تجاوز النظرة المادية الظاهرية للأمور، أرشده كيف يكون تفكيره وتصرفه وسلوكه قائما على القيم الدينية الإسلامية، كيف يطبق هذا الدين في حياته.. 
البخل وحب المال يوهم صاحبه أنه إذا أنفق من ماله في سبيل الله، وتصدق على فقير قريب أو بعيد، يوهمه أن هذا ينقص من ماله.. لكن النبي صلى الله عليه وسلم نفى هذا الأمر وفنده بعبارة موجزة بليغة، «ما نقصت صدقة من مال».. فدع عنك تلك الوسوسة يا ابن آدم، إنها تزيد في المال ولا تنقصه لو كنت تعلم.
وأما العفو والصفح عن المسيء الظالم المعتدي، فقد يظن المرء أنه إن عفا وهو قادر على الانتقام، قد يظن أن هذا العفو فيه ذُل وإهانة له.. لكن الحقيقة على خلاف ذلك، الحقيقة أن الله تعالى الذي يعلم السر وأخفى يرفع ذلك الرجل -بحق-، ذلك الرجل الذي عفا مع أنه يقدر على الانتقام، يرفع درجته ويعليها، ولا يذله لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وأما التواضع للناس فإنه الأمر الأعز والأصعب، قد يظن الإنسان أنه إذا تواضع للناس، ولم ير نفسه أفضل منهم، قد يظن أن هذا يحط من منزلته، بل قد يتطرف بعض المرضى ويظن أنه لا يرفع نفسه إلا بوضع غيره والتكبرِ والتعالي عليه، فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم موضحا للأمر ومجليا.. كلا إنها الرفعة ذاتها، الرفعة في الدنيا والآخرة لو كنت تعلم..
وهكذا يعالج النبي صلى الله عليه وسلم هذه المسلكيات، يدخل إلى خلجات النفس التي يخفيها الإنسان، فيجتث منها الداء ويرشده إلى الدواء، أمور مهمة وعظيمة لو أننا راعيناها في تعاملاتنا لكانت مانعة من المشكلات قبل وقوعها، وعاملا مهما في حلها بعد حدوثها..
ومن أهم هذه الأخلاق: العفو والصفح، الذي جاءت نصوص الكتاب والسنة حاضة عليه ومرغبة فيه...
وإذا كان العفو  طريقا للعز، فإنه كذلك طريق لتحصيل العفو الأعظم والأهم والأعز، إنه طريق لنيل العفو من الله العفو الغفور..
ها هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، لما وقعت حادثة الإفك التي افتراها المنافقون على أمنا عائشة رضي الله عنها، فنشروا الكذب والبهتان، كان أحد الذين تناقلوا هذا الكلام بشكل قليل محدود، ابنَ خالة أبي بكر الصديق، واسمه مسطح بن أثاثه، وكان فقيرا لا مال له، وكان أبو بكر ينفق عليه، فلما علم أبو بكر بكلام مسطح، حلف ألا ينفق عليه أبدا، وقال: والله لا أنفعه بنافعة أبدا. فلما نزلت براءة أم المؤمنين من فوق سبع سماوات، وطابت نفوس المؤمنين، وأقيم حد القذف على من تكلم في ذلك من المؤمنين، جعل الله تعالى يعطِّف أبا بكر على ابن خالته بعدما ضرب الحد، ونزل قوله تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي: فإنَّ الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر عن المذنب إليك نغفر لك، وكما تصفح نصفح عنك. فعند ذلك قال الصديق: بلى، والله إنَّا نحبُّ -يا ربنا -أن تغفر لنا. ثم رَجَع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا، في مقابلة ما كان قال: والله لا أنفعه بنافعة أبدًا. 
هذا هو أبكر بكر الصديق رضي الله عنه وعن ابنته، هذه هي النفوس المؤمنة الخاضعة لله، هذه هي المعادن الطيبة، يعفو عمن تكلم في عرض ابنته طلبا للأجر والمغفرة من الله تعالى، يعفو وهو القادر على الانتقام، قادر على حجز النفقة عن ذلك الرجل، لكنه جعل نفسه منقادة لربه، خلق عظيم لا يقدر عليه إلا صاحب إيمان عظيم.
عباد اللهم! في العفو والصفح رحمة بالمسيء، وتقدير لجانب ضعفه البشري.. في العفو توثيق للروابط الاجتماعية التي تتعرض إلى الوهن والانفصام بسبب إساءة بعضنا إلى بعض، وجناية بعضنا على بعض.. العفو والصفح سبب لنيل مرضات الله سبحانه وتعالى.. العفو والصفح سبب للتقوى (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُم).. العفو والصفح من صفات المتقين (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).. من يعفو ويصفح عن الناس يشعر بالراحة النفسية.. بالعفو تكتسب الرفعة والمحبة عند الله وعند الناس.. فَاعْفُوا واصفحوا وتراحموا يرحمكم من في السماء
(إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون)
————
للنبي صلى الله عليه وسلم مواقف كثيرة في المعاملة الحسنة والعفو والصفح عن الكفار، كيف لا وهو صاحب الخلق الحسن، كيف لا وهو الممتثل لأمر الوحي، هو الذي يتحرى الحكمة ويراعي أحوال المسلمين.
كثير من الناس في هذه الأيام، وفي ظل الهزيمة النفسية، والتفكير الخاضع للمعايير الغربية، وفي ظل رغبة غير مفهومة لاسترضاء من أذلونا وسامونا سوء العذاب.. في ظل هذا كله، يردد كثير من الناس كلاما لا يفهمون معناه، ولا منتهاه، يوردون بعض الحوادث في عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن الكفار ويؤولونها على غير بابها، ويفسرونها على غير تفسيرها..
إن عفو النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يوما من الأيام طريقا لتسويغ الهزيمة والذل، لم يكن ينتازل فيه عن كل مقدس وغال باسم العفو والتسامح، لقد كان عفوه عليه الصلاة والسلام إما عفوا عن مقدرة، يؤلف به القلوب، وإما عفو للحكمة ولمصلحة الدين إلى حين أن يأذن الله بتغير الحال..
ولنتأمل -عباد الله- بعضا من تلك الحوادث، ولنحاول فهمها، ولنتفكر.. هل فيها ما يسوغ تلك الدعوات التي تطالب المهزوم المقهور.. التي تطالب المهزوم أن يتنازل عن دينه وعقيدته باسم التسامح، وباسم العفو والصفح..
لقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحا منصورا مظفرا، وملك زمام الأمور فيها، وأصبحت تحت سيطرته، فكسر الأصنام واحدا واحدا، لم يبق منها صنما، ثم إنه لما جاء إلى الذين آذوه وناصبوه العداء.. لما جاء إلى الذين سبوه وشتموه وعذبوا أصحابه وَصَدُّوا عن سبيل الله.. لما تمكن منهم، ولم يحل بينه وبين قتلهم إلا كلمة يأمر بها أصحابه.. لما كان هذا الحال عفا عنهم، وصفح عنهم، فدخل الناس في دينه أفواجا لما رأوْا حسن خلقه وكرم سجيته عليه الصلاة والسلام..
إن عفوه عنهم لم يكن على حساب الدين ومسلماته، نعم لقد عفا عنهم، لكنه حطم أصنامهم...
وقبل ذلك.. في أيام مكة الصعبة الشاقة، لما كان الصحابة يعانون الأذى، وبعضهم يئن تحت الصيات والتعذيب، كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤمر بالعفو والصفح والصبر حتى يأتي الله بأمره، وحتى يؤذن لهم بالجهاد بعد أن تقوى شوكتهم، كان عليه الصلاة والسلام يصبر، ولا يرد الإساءة، أمره الله بذلك لحكمة بالغة، لكنه في الوقت ذاته كان يصرح بمعاداة المشركين، كان يصرح بالكفر بدينهم الباطل، بل كانت آيات القرآن تنزل كالصواعق على المشركين، تخلخل نفوسهم، وتصدع قلوبهم.. فلنقارن هذه الحال بما يدعونا إليه أولئك المفتونون أتباع الغرب، فالتسامح عندهم ألا تكفر اليهود والنصارى، التسامح عندهم أن تحب دول الغرب التي دمرت المسلمين وسعت في خراب دولهم، التسامح عندهم ألا تطالب بأرض، ولا تغضب لانتهاك عرض.. ليس أنت فقط، بل يجب أن تربي أبناءك على حب السلام والتسامح وقلة الحياء، بل وقلة الشرف، إنه ذُل وعار في صورة العفو، بل إنه كفر في زي التسامح.. ينسبون باطلهم إلى الدين، والدين منهم ومن باطلهم براء، وقانا الله وإياكم شر الأشرار وكيد الفجار..




(لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد)
عناصر الخطبة:
- نظرة المؤمن إلى عمارة الأرض.
- الاعتبار بحال الحضارات الهالكة.
- حقيقة تنعم الكفار في الدنيا.
- أهمية الثقة بوعد الله.
- الدين لا يعيق التقدم.

الحمد لله العليم الحكيم، العزيز الرحيم، قدر مقادير الخلائق وأقواتها، وقسم بينها أعمارها وأرزاقها، جعل الدنيا ممرا قصيرا للعبور إلى دار البقاء، ولولا هوان الدنيا عليه ما سقى منها كافرا شربة ماء، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، والصلاة والسلام على عبده ورسوله أعدل من أعطى وقسم، أدبر عن الدنيا فأقبلت عليه، فأعلى الله به كلمته، وأظهر دينه على جميع الأمم.
أما بعد؛ فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى وراقبوه في السر والنجوى..
(لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد. متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد. لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار)
إن الله تعالى جل ذكره أنزل بني آدم إلى هذه الدار الفانية، امتحانا لهم واختبارا، ليبلوهم أيهم أحسن عملا، أرسل إليهم رسله، وأنزل إليهم كتبه نورا وهدى (فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى).
جعل الله سبحانه أمر الدنيا تابعا لأمر الآخرة، فمن أحسن الإقبال على آخرته، وأطاع أمر ربه، كان مستحقا للنعيم في الآخرة، منعما سعيدا في هذه الدنيا (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون).
وكم حذر الله جل ذكرُه عبادَه من الاغترار بهذه الدنيا،  والركون والاطمئنان إليها، والانشغال بها عن الآخرة (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آيَاتِنَا غافلون. أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون).
لقد صححت هذه الشريعة نظرة المؤمن إلى الدنيا، فالمؤمن مأمور بعمارة الأرض وإقامة العدل والحكم بالشريعة فيها، مأمور بالأخذ بأسباب استمرار الحياة وتقدمها ورقيها، لكنه منهي عن الركون إليها، منهي عن الاغترار بها.. فالتقدم والرقي ليس هو معيار الصلاح والفساد، الحضارة ليس هي عنوان الفلاح، بل الدنيا تابعة للآخرة، فإن عمرها المؤمن واتقى ربه وجعل الآخرة همه، كان عمرانه للدنيا وتقدمه فيها محمودا مرضيا عند الله سبحانه وتعالى، وإن كفر بربه وانشغل بإقامة الحضارات بعيدا عن الالتزام بأمر الله كان فعله هذا مذموما، بل كان وبالا عليه في الدنيا والآخرة.
ها هي قصص الأمم الغابرة بين أيدينا، نقرؤها في كتاب ربنا.. ماذا كانت عاقبة تركهم لدين الله ومعاداتهم لرسله.. لقد أقاموا الحضارات العظيمة المتقدمة، التي كانت في وقتها قمة التحضر والرقي والتقدم.. لقد نحتت ثمود بيوتها في داخل الجبال، جمال معماري وإبداع هندسي، ها هو صالح عليه الصلاة والسلام يقول لهم: (وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين) أي: حاذقين متقنين.. فما أغنى عنهم إتقانهم ومهارتهم؟! وأما عاد فكانوا أهل قوة عظيمة وبأس شديد، حتى إن الله تعالى قال فيهم  (التي لم يخلق مثلها في البلاد) وبلغ بهم الكبر والغرور أن قالوا (من أشد منا قوة) فما أغنت عنهم قوتهم؟!.. أين فرعون وجنوده، لقد استعبد بني إسرائيل وبنى بهم حضارة يتغنى بها السفهاء إلى يومنا هذا، ولما ذكره الله قال (وفرعون ذي الأوتاد) أي: جنوده، شبههم الله بالأوتاد لشدة انضباطهم وحفظهم لملك فرعون.. فما أغنت عنه جنوده؟! حضارات وأمم، جعلها الله تعالى هباء منثورا، لقد صاروا غبارًا في تاريخ البشرية، واستحقوا لعنة الله وغضبه، مع أنهم كانوا متقدمين، مع أنهم كانوا أهل حضارة ورقي، لكن هذا لم ينفعهم عند الله، لم ينفعهم في أخراهم، بل ولا في دنياهم.
لأن العبرة والفوز والفلاح ليس في التقدم الحضاري مع الكفر، بل في الإيمان والعمل والصالح، مع الأخذ بأسباب الرقي وعمارة الدنيا.
ولقد قرر كتاب ربنا قاعدة عظيمة في هذا الباب؛ وهي أن ما يُعطاه الكفار في هذه الدنيا من المتاع إنما هو متاع قليل، زائل متحول غير ثابت، إنما هو نقمة وإمهال، لا رضا وإفضال.. وما ينفع الناس نجاحهم في الدنيا إذا كانوا راسبين في الاختبار الأهم، وهو الاستجابة لأمر الله تعالى..    كأن رب العزة يجيب بعض من يقول: ها هم الكفار قد تقدموا علينا، وفتح الله عليهم الدنيا، لماذا هم في رخاء والمؤمنون في شقاء ها هي الإجابة الشافية الحاسمة (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد. متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد) أولا وقبل كل شيء لا تغتر، لا تغتر فإنه متاع قليل يذهب عما قريب، من كان كافرا لن ينفعه تقدمه في الآخرة.. ولماذا لا نغتر؟ لأن معيار المؤمن مختلف في الحكم عن معيار غيره..لقد نهانا الله عن الاغترار بحال الكفار في مواضع أخرى من كتابه تأكيدا على أهمية هذه المسألة في تقوية إيمان المؤمن، وصقل شخصيته، وتصحيح نظرته إلى الأمور، منها قوله تعالى: (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد) وقال تعالى: (إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون. متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون)، وقال تعالى: (نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ)، وقال: (فمهل الكافرين أمهلهم رويدا)، وقال تعالى: (أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين).
إذا هو إمهال واستدراج لعذاب الآخرة وخزي الدنيا، (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين)، وقال: ( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون).
عباد الله! إن المسلم الذي يتربى على هذه المعاني العظيمة لا ترهبه دعوات التبعية، ولا تخيفه خيالات الانهزام والتخذيل.. لقد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته وأقام دولته الفتية، وكانت وقتها أربع حضارات كبيرة تحكم العالم، حضارة الروم، وحضارة الفرس، وحضارة الهند، وحضارة الصين.. ومع ذلك لم نسمع أن أحدا من المسلمين قال في ذلك الوقت: إذا أردتم - أيها المسلمون- أن تقوى دولتكم، وتكونوا متحضرين، فاتبعوا حضارة الفرس، أو تشبهوا بحضارة الروم، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعرض للحصار والأذى في يوم الخندق ومع ذلك يعد أصحابه بفتح فارس والروم.. لقد كان مطاردا هاربا من بطش قومه، ومع ذلك يعد من يطارده بسواري كسرى.. إنه اليقين بوعد الله ونصره، إنها الثقة بالله تعالى.. إنه لم يفهم الزهد في الدنيا ذلك الفهم الخاطئ الذي يفهمه بعض الناس، ويؤيده -بخبث- أناس آخرون، ذلك الفهم الذي يدعو إلى ترك الظالم على ظلمه، والمفسد على فساده بدعوى الزهد وترك الدنيا، حتى صوروا دين الإسلام دينا لا علاقة له بالحياة، بل جعلوه أضحوكة للمجرمين.. لقد كان عليه الصلاة والسلام أزهد البشر في هذه الدنيا، لكنه كان حريصا على إقامة الدين، والأخذ بالأسباب الجالبة للنصر، وبأسباب عمارة الأرض (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا)
٢ لقد من الله تعالى على هذه الأمة، وفتح لها البلاد، وقبل ذلك قلوب العباد، فجاءتهم الدنيا صاغرة، وتوسعت دولتهم حتى بلغت المشرق والمغرب، وأقاموا حضارة لم يقم لها مثيل، إلى أن تَرَكُ كثير منهم أمر الله، وكثر فيهم الخبث، ونبذ ولاتهم كتاب الله وراءهم ظهريا، فذلوا وعادوا كما كان العرب قبل البعثة، متفرقين متشرذمين، تابعين لغيرهم.. 
يظن العلمانيون العرب أن خروج الأمة من مأزقها لا يكون إلا بالمزيد من البعد عن الدين، لا يكون إلا بالمزيد من التبعية، لا يكون إلا بالقضاء على أي دعوة لتحكيم الشريعة.. تراهم يصفون أهل الدين بالتخلف، يكثرون من التحدث عن العلم ودوره في بناء المجتمعات، حتى إنك لتظن أنك إذا فتحت قناة من قنواتهم الفضائية فإنك ستشاهد فيها دروس الفيزياء،  والكيمياء والذرة، فإذا هي مليئة بالفحش والعري والمسابقات الفارغة، إذا هي تهدم كل فضيلة وتدعو لكل رذيلة.. عن أي علم وتقدم تتحدثون لا أبا لكم، هل منعكم الدين من التقدم والرقي، أم ترى المشايخ أمسكوا مركباتكم التي تريدون الصعود بها إلى القمر، أم ترى المساجد عوقتكم عن بناء المستشفيات ودور العلم.. الحقيقة المرة التي لم يدركها هؤلاء إلى الآن هي أنهم هم أهم عامل من عوامل التخلف والجهل والظلم والطغيان.
ولو أنا سألنا أي عاقل وعرضنا عليه تلكم الصورتين، صورة دولة الخلافة برقيها وحضارتها وعزها وقوتها، والصورة  الحالية للمسلمين، لقال ما كُنتُم عليه هو الخير والصواب، ولا يجب بغير هذا الجواب إلا من رهن عقله وفكره لغير دينه وأمته..




الأربعاء، 13 يوليو 2016

الثبات على الطاعة بعد رمضان


عناصر الخطبة:
- النصوص الدالة على أهمية الثبات.
- علامات الفتور عن الطاعة، وعلاج ذلك.
- كيفية التعامل مع النفس حال نشاطها، وحال كسلها.
- أهمية الثبات وقت الفتن.

الحمد لله الغفور التواب، الكريم الوهاب، استغنى عن جميع خلقه واحتاجوا إليه، فلا تضره معصية عاص، ولا تنفعه طاعة طائع متذلل بين يديه، أحمده سبحانه حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، والصلاة والسلام على خير خلقه، وأفضل أنبيائه ورسله، محمد بن عبد الله، من صلى وتعبد حتى تفطرت قدماه، ولم تكل من دعاءٍ يداه، صلى الله عليه وعلى آله وصله ومن اهتدى بهداه.
أما بعد عباد الله! فاتقوا الله جل وعلا، فالتقوى خير زاد ليوم المعاد.
وصية عظيمة جليلة، أوصى الله سبحانه وتعالى بها عبديه ورسوليه موسى وهارون، لما بعثهما الله تعالى إلى الطاغية فرعون، وبعد أن حملا الأمانة العظيمة والرسالة الكبرى، وهي رسالة توحيد الله تعالى، أوصاهما ربهما بوصية تستقيم بها أمور العبد، ويثبت بها على الهدى والنور (اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري) أى: اذهبا بالحجج والبراهين، ولا تفترا ولا تضعفا عن ذكري وعبادتي والدعوة إلى سبيلي.
بعد أن حملا الأمانة، أمرهما الله تعالى وأوصاهما بالثبات، حذرهما من الفتور والكسل بعد الجد والنشاط، لأن الخير لا يتم -عباد الله- إلا بالثبات عليه، فكم من طائع استقام ثم فرط وضيع وعصى، وكم من مستقيم انحرف، فما نفعته استقامته بعد ذلك، بل كانت حجة عليه.
لهذا الأمر العظيم كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أكثر الناس عبادة وتذللا وتقربا إلى ربه، ومع ذلك ما أكثر ما كان يردد ويدعو فيقول: «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»... هو خير الناس ويقول هذا.. هل بعد هذا من موعظة، هل بعد هذا من بيان.
وكان من دعائه كذلك عليه الصلاة والسلام: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل»، يستعيذ بالله من العجز والكسل لأنهما يمنعان العبد من طاعة الله والاستقامة على دينه، ويمنعانه حتى من تدبير أمور الدنيا، بل هما مفتاح كل شر.
وكان من دعائه كذلك: «اللهم إني أعوذ بك من الحَوْر بعد الكَوْر»، أي: أعوذ بك من النقصان بعد الزيادة، ومن فساد الحال بعد صلاحها.
عباد الله! إن حياة المسلم ينبغي أن يكون عنوانها الجد والمثابرة والمسارعة إلى الخيرات، وإن العبد الموفق لا يستريح إلا وفي نيته المعاودة إلي النشاط، فيستعين بالراحة على الجد والنصب، ألم تسمعوا قول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم (فإذا فرغت فانصب) أي: إذا فرغت من طاعة فانصب واتعب في طاعة أخرى تقربا إلى تعالى.
هذه هي حال المسلم، جد واجتهاد ومسارعة إلى الخيرات، فالحياة قصيرة، والأنفاس معدودة، والأيام محدودة، فتفقد نفسك أخي المسلم.. فإن الإنسان قد يقع في الغفلة والفتور وهو لا يشعر.. 
فإذا رأيت قسوة في قلبك.. إذا كنت تمر بآيات ومواعظ القرآن التي تدك الجبال ولا يؤثر ذلك فيك.. إذا رأيت نفسك كسولا عن الطاعة.. متثاقلا عن الصلاة.. فتدارك نفسك، وجاهدها وداوها بالإيمان، فادع الله تعالى أن يثبتك على الدين، وأكثر من ذكر الله تعالى مع حضور القلب والتفكر بمعاني الأذكار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من مائة مرة».. أكثر من النوافل.. اتل القرآن وحرك به قلبك.. تفكر في الموت وأحوال يوم القيامة.. صاحب أهل الدين والاستقامة الذين يذكرونك إذا غفلت، قال عليه الصلاة والسلام: «مثل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخِ الكير، إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة».
الدنيا -عباد الله-، الانشغال بالدنيا ومتاعها من أعظم أسباب الغفلة والانصراف عن الطاعة، (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون). وقال تعالى: ( يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور)، واعلموا أن الحرص الشديد على الدنيا -الذي يجر الإنسان للوقوع في الحرام والتفريط في الفرائض- هذا الحرص لا يأتي بالمال والغنى، بل يأتي بالخسران، قال عليه الصلاة والسلام: «من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة».. الحرص الشديد على الدنيا قرين لقسوة القلب والغفلة عن ذكر الله، قال مالك بن دينار: أربع من علم الشقاوة: قسوة القلب، وجمود العين، وطول الأمل، والحرص على الدنيا.
عباد الله! إن النفس لها نشاط ولها خمول، ولها إقبال ولها إدبار، والعاقل والموفق هو الذي يعرف كيف يتعامل مع نفسه في كلتا الحالتين، فإذا رأيت من نفسك جدا ونشاطا فاستغل ذلك في الطاعة، لكن من غير تشديد زائد، ومن غير تحميل للنفس ما لا تحتمل، لأن ذلك يؤدي إلى الفتور والكسل، وإذا رأيت من نفسك فتورا وكسلا فإياك وترك الفرائض والواجبات والوقوع في المحرمات، وإياك أن تخرج من دائرة الاستقامة مع وجود ذلك الكسل،، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لكل عمل شِرَّة [أي: قوة وحدة] ولكل شرة فَتْرة [أي: فتور وضعف] فمن كانت فترته إلى سنري فقد أفلح، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك». وقال عمر رضي الله عنه: إن لهذه القلوب إقبالا وإدبارا، فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل، وإذا أدبرت فألزموها الفرائض.
قال ابن القيم رحمه الله: تخلل الفترات للسالكين أمر لا بد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه من فرض ولم تدخله في محرم رجي له أن يعود خيرا مما كان عليه.
(يأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لِغَد واتقوا الله إن الله خبير بما تعلمون ولا تكونوا كالذين نسوا الله فآنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون)

الخطبة الثانية
لقد ودعنا قبل أيام قليلة شهر رمضان، شهر عظيم، يقبل فيه الناس على ربهم، تائبين خاضعين، منهم الموفق الصادق، ومنهم غير ذلك، وإن المشكلة الكبيرة التي تنتشر بيننا ليست في ترك النوافل والمستحبات بعد رمضان، بل في الإقبال الشديد على ما يغضب الله تعالى بعد هذا الشهر، وهذا أمر خطير -عباد الله-، يدل على أن كثيرا من الناس لم يفهموا الحكمة من الصيام، ولم يستوعبوا حقيقة هذا الشهر، يقول الله تعالى: (يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)، تحصيل التقوى هو أعظم مقاصد الصيام، إذا كنا قد امتنعنا عن الطعام والشراب في نهار رمضان وهما حلال، فالامتناع عن الحرام يكون طيلة العمر، فهل من كان ينظر خروج الشهر الكريم بفارغ الصبر ليعود إلى ارتكاب الآثام، هل حقق هذا ثمرة الصيام؟! كيف بمن بترك الصلاة بعد رمضان، كيف بمن تخرج من بيتها بكامل زينتها لتخالط الرجال، كيف بمن يقيم الحفلات الغنائية في أيام العيد، كيف بمن يخون الأمانة، كيف بمن يسخر قلمه للنيل من دين الإسلام، وللدعوة إلى الرذيلة... بل كيف بمن لم يراع حرمة الشهر أصلا، ولم يمتنع عن العصيان، بل نشر الفساد وحارب الفضيلة..
فالثبات الثبات -عباد الله-، فإننا نعيش في زمان كثير الفتن، قد دب الوهن وقلة الدين بين كثير من الناس، هذا يدعو إلى دين محسن مهجن يتوافق مع ثقافة العدو، وذاك يدعو إلي العلمانية وفصل الدين عن الدولة، وذاك يدعو إلى فساد النساء وتحررهن من الفضيلة، وآخر ينشر الفساد في الأرض ويثير الغرائز باسم الفن والإبداع، وآخر يستحل الدماء المعصومة ويروع النفوس الآمنة... وإن الثبات في هذا الواقع لمن خير الأعمال عند الله تعالى وأكثرها أجرا وفضلا، قال عليه الصلاة والسلام: «يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر». وقال: «إن من ورائكم أيام الصبر للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليـه أجر خمسين منكم قالوا: يا نبي الله أو منهم؟ قال: بل منكم». فيا من تمسكت بهذا الدين أبشر بالخير الكثير، لك أجر خمسين من الصحابة، وإن لم تصل إلى درجتهم وفضلهم، -ومن ذَا الذي يصل-، لكنك استقمت ولا أعوان لك على الخير، بل استقمت مع كثرة دعاة الشر والضلال والفجور، فهنيئا للمستقيم الثابت على دينه