الجمعة، 22 سبتمبر 2017

في رحاب الهجرة
عناصر الخطبة:
  • سنة الله تعالى في نصر عباده الصالحين.
  • الأخد بالأسباب، والثباتمن أهم دروس الهجرة.
  • من أسباب عدم الثبات.
(إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد)
آية كريمة من سورة غافر، هذه السورة العظية التي تحدثت منذ بدايتها عن سنة من سنَن الله تعالى في خلقه، وهي أنه تعالى ينصر عباده الصالحين، الملتزمين بأوامره ﷻ إذا هم أخذوا بالأسباب.
وقد ذكرت هذه السورة أن أعداء الرسل حاولوا تشويه دعوتهم، وأنهم أتوا بالشبهات ليطمسوا الحق فما كان إلا أن نصَر اللهُ تعالى رسلَه، وأظهر الحق، كما قال تعالى: ﴿ما يُجادِلُ في آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذينَ كَفَروا فَلا يَغرُركَ تَقَلُّبُهُم فِي البِلادِ . كَذَّبَت قَبلَهُم قَومُ نوحٍ وَالأَحزابُ مِن بَعدِهِم وَهَمَّت كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسولِهِم لِيَأخُذوهُ وَجادَلوا بِالباطِلِ لِيُدحِضوا بِهِ الحَقَّ فَأَخَذتُهُم فَكَيفَ كانَ عِقابِ﴾.
وهذا هو وعد الله تعالى لعباده، وهذه سنته في حق عباده الصالحين المخلصين، ﴿أَوَلَم يَسيروا فِي الأَرضِ فَيَنظُروا كَيفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذينَ كانوا مِن قَبلِهِم كانوا هُم أَشَدَّ مِنهُم قُوَّةً وَآثارًا فِي الأَرضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنوبِهِم وَما كانَ لَهُم مِنَ اللَّهِ مِن واقٍ﴾ وقد ذكرَتِ السورة بعد ذلك قصة فرعون وموسى وقصة مؤمن آلِ فرعون، وذكرت نصره سبحانه وتعالى لموسى ومؤمن آلِ فرعون، وختمت ذلك بتقرير تلك الحقيقة التي ذكرناها، بقوله تعالى: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد).
وهذا النصر قسمان: نصر في الدنيا، ونصر في الآخرة، أما النصر في الآخرة فبإكرام المؤمنين وإدخالهم جنات النعيم، وإهانة الكافرين وأعداء الرسل، وإدخالهم نار الجحيم. 
وأما النصر في الدنيا فهو يتعلق بشكل أساسي بظهور وانتصار حجة الرسل ودينهم على شبهات من يعاديهم، ويتبع ذلك النصر المادي.
ولنقف الآن مع صورة كبرى من صور ذلك النصر، وامتداد لنصر الله تعالى لعباده، ألا وهي حادثة الهجرة النبوية، هذه الحادثة العظيمة التي تَمثل فيها نصر الله تعالى للنبي ﷺ… لقد نصره الله ﷻ بالحجة والبيان، فلم تفلح كل شبهات المشركين، في صد الناس عن دعوة الإسلام، لقد اتهموه بالسحر والجنون، وحاولوا إشاعة ذلك بين العرب، فلما زاد ذلك دعوته إلا قبولا وظهورا في الحجة والبيان، حتى حاولوا قتله أو سجنه أو نفيه كما قال تعالى: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).. فجاء نصر الله تعالى له، فنجاه الله من منهم، وأحبط مخططاتهم، وأخرجه سالما من بين أظهرهم، كما قال تعالى: (إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
عباد الله! إن هذا النصر الذي وعد الله تعالى به عباده له أسباب، والله سبحانه لا ينزل نصره على من لا يأخذ بها، لقد علّمنا النبي ﷺ من خلال هجرته أن المؤمن مع ثقته بنصر الله تعالى إلا أنه لا بد أن يأخذ بالأسباب المعنوية والمادية التي تحقق النصر، لقد كان الله تعالى قادرا على أن ينصر نبيه وينجيه مباشرة، إلا أنه يريد أن يعلمنا أن النصر لا ينزل على القاعدين والكسالى، لقد أمر النبي ﷺ علي بن أبي طالب أن ينام مكانه، وخرج ظهرا والناس قائلون، واستأجر دليلا يدله على الطريق، وسلك طريقا غير الطريق المعتادة إلى المدينة، وتخفى في غار ثور، وأمر من يأتيه بالزاد والأخبار من مكة، وكل هذه أسباب للنجاة من الكفار، والله تعالى هو مسبب الأسباب.
عباد الله! إن من أعظم أسباب النصر التي علمنا إياها النبي ﷺ هو: الثبات على الدين، وعدم التغيير والتبديل، وعدم التنازل عن الثوابت مهما كانت الظروف.. إن الدين ما نزل إلا لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وإن نصر الله تعالى لا ينزل إلا ليمكِّن للدين بصورته البهية الصحيحة، فإذا وصل الأمر إلى التنازل عن الدين تحت أي ظرف فهذا مؤذن بالعقوبة، وليس فقط بتخلف النصر، لقد أخبر الله تعالى نبينا محمدا ﷺ أن هذه المسألة لا مجال فيها للتنازل، فقال تعالى: (وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا . وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا . إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرا).
إن الطغاة إذا عجزوا عن صرف الداعية عن دينه ودعوته، فإنهم يحاولون أن يجدوا حلا وسطا، بحيث يتحقق لهم ما يريدون، ولا يجعلون الداعية يتنازل عن دينه نهائيا، هذه الطريقة هي محاولة تحريف بعض الثوابت التي تزعج الكفار،  فإذا زالت أمكن للكفار أن "يتعايشوا" مع هذا الدين، مع إبقائهم على الاسم الظاهر منه، بعد أن فرغوه من محتواه وروحه؛ لكن في الحقيقة فإن الداعي إلى الله إذا وافق على ذلك يكون قد ابتعد عن دينه ودعوته، ولو أبقى له الطغاة من يتغطى به أمام الناس.
ولقد ضرب لنا النبي ﷺ وصحابته أعظم مثل  في الثبات على دين الله تعالى، فلم يغيروا ولم يبدلوا حتى وصل إلينا دين الله تعالى صافيا كما أنزل على قلب محمد ﷺ.. فبعد أن حاول الكفار صرف النبي ﷺ والصحابة عن دينهم بشتى وسائل العنف والإيذاء، فما وجدوا إلا جبالا شامخة، ونفوسا كبيرة صابرة=.. ها هو عتبة بن ربيعة يأتي إلى رسول الله ﷺ بالوجه اللطيف والحسن، فيقول: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها. فقال له رسول الله ﷺ: «قل يا أبا الوليد، أسمع». قال: يا ابن أخي ، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا، حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا؛ وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أو كما قال له. 
كل هذه العروض المغرية من مال ونساء وسلطة وجاه لم تصرف النبي ﷺ عن مراده، لم يرِفَّ لها طرفه، ولم يتطلع إليها قلبه، لأنه صاحب إيمان راسخ، لأنه صاحب رؤية واضحة، لأنه صاحب هدف محدد، هو الامتثال لأمر الله تعالى، ونصرة دينه، لقد أجابه النبي ﷺ بأن قرأ عليه أول سورة فصلت، التي فيها التأكيد على ثوابت التوحيد، وهي التي جاء عتبة ليفاوضه عليها.. كأنك يا عتبة لم تقل شيئا..
أين نحن من هذا الثبات؟! لقد صرنا في زمن يقدم فيه بعضنا التنازلات عن دينه وهو فرح مسرور، وكأنه قد وقف على أبواب الجنة، لقد تنازل كثير من المسلمين -على اختلاف توجهاتهم وطبقاتهم-، عن كثير من ثوابت الدين كالولاء والبراء، وتحكيم الشريعة، والحجاب وقسمة الميراث حسب الشريعة، وشرعنوا الذل وقننوه، وصار ثقافة عامة عند بعض الناس، إلى غير ذلك من صور التشبه بالكفار في مختلف المجالات الثقافية والفكرية، بل على صعيد اللباس والكلام والحركات، فما زادهم ذلك إلا ضعفا وبعدا عن نصر الله تعالى، فاللهم أصلحنا وردنا إلى طريق حبيبك محمد ﷺ.
(يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم. والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم).
الثانية
عباد الله! إن عدم الثبات على الحق له أسباب، ومن أهمها أمران، قد يجتمعان وقد يفترقان، أما الأول: فهو ضعف الإيمان، وضعف الخوف من الله تعالى، الذي يحمل صاحبه على التهوين من شأن هذه المسائل. والثاني: عدم وضوح الهدف والغاية، وعدم فهم غاية دين الإسلام والتي هي نشر التوحيد والعدالة في الأرض.. لقد أرْدَت الهزيمة النفسية كثيرا منا في مهاوي الأفكار العلمانية والإلحادية، حتى صرنا نرى في ذباحينا وقاتلينا الفارسَ المخلّصَ مما نحن فيه من مصائب.
فإذا اجتمع في الإنسان ضعف الإيمان مع الهزيمة النفسية فنحن أمام مسلسل من الخنوع والذل لا مثيل له، ونحن أمام مشهد يقدم فيه الأخ أخاه قربانا لمن سيذبحهما جميعا! 
إذا أردنا أن ينصرنا الله فلا بد أن ننصره، وهذا يكون بأن نقوي إيماننا ونلتزم بديننا، وأن نثق بثقافتنا وميراثنا، وبأن نأخذ بأسباب النصر.. لقد خلع أجدادكم هامات الجبال في سبيل نصرة هذا الدين، فاثبوا عليه وتمسكوا به، واعلموا أن الله تعالى ناصر دينه، ومُعْلٍ كلمته ولو كره الكافرون.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق