مأساة أراكان
عناصر الخطبة:
- الاعتداء على المسلمين سنة متبعة عند الكفار.
- حقيقة الوجه الناعم للغرب.
- أهمية نصرة المستضعفين.
(والسماء ذات البروج. واليوم الموعود. وشاهد ومشهود. قتل أصحاب الأخدود. النار ذات الوقود. إذ هم عليها قعود. وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود. وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد).. آيات كريمة من سورة البروج، يخبرنا الله تعالى فيها بخبر قوم من الكفار، عمدوا إلى من عندهم من المؤمنين فقهروهم وأرادوهم أن يتركوا دينهم، فأبى المؤمنون أن يتركوا دينهم، فحفر أولئك الكفار الأخاديد في الأرض، ثم أججوا فيها النيران، وجعلوا لها وقودا يسعرونها به، ثم ألقوا فيها المؤمنين، وجعلوا ينظرون إليهم وهم يحترقون.
إنها حادثة عظيمة، حادثة أنزل الله سبحانه فيها آيات ليخبرنا بها مع أنها وقعت ربما قبل آلاف السنين.. إن أنفاس أولئك المؤمنين الذين أحرقوا لأجل دينهم كانت عالية القدر عند الله سبحانه، لقد رفع الله لنا شأن أولئك المستضعفين في هذه الآيات، فوصف لنا عملية الاعتداء عليهم بالتفصيل، فأخبرنا أن الكفار حفروا الأخاديد، ثم أججوا فيها النيران، وجعلوا بحانبهم وقودا يسعرون به هذه النار، وأخبرنا أنهم لما ألقوا المؤمنين فيها جلسوا ينظرون إليهم.. فياله من شرف ناله أولئك المستضعفون، ويالها من كرامة، إذا كانوا لم يجدوا ناصرا ينصرهم في هذه الدنيا، فإن الله تعالى ناصرهم ومعينهم، وإذا كانوا ضعفاء محتقرين في هذه الدنيا لا يهتم أحد لشأنهم، فإنهم شأنهم عند الله تعالى عظيم؛ فبالإضافة إلى النعيم الذين سينعمون به في الآخرة، ها هي آيات القرآن تسطر قصتهم، وتخلد ذكرهم، وتجعلهم قدوة للمؤمنين إلى يوم القيامة.
لقد لعن الله تعالى من اعتدى على أولئك المؤمنين منذ بداية ذكر هذه الحادثة فقال: (قتل أصحاب الأخدود)، ثم توعدهم بالعذاب في الآخرة فقال: (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق)، ثم ختم هذه السورة بذكر قوة الله تعالى وشدة بطشه، وأن كل الأمور بيده سبحانه، في إشارة إلى انتقامه من الكفار في كل حين فقال: (إن بطش ربك لشديد. إنه هو يبدئ ويعيد)، ثم ذكر نموذجين من الكفار الذي حاربوا المؤمنين فانتقم الله تعالى منهم فقال: (هل أتاك حديث الجنود. فرعون وثمود).. هل علمت ما فعلنا بهم لما عادوا أولياءنا، وآذوا عبادنا، إن الله تعالى قريب من عباده، مطلع على حالهم، محيط بأعمالهم، لا يفوته فوت، ولا يعزب عنه مثقال ذرة.
لقد ظن كثير من الناس أن مشاهد الحرق والتشويه أصبحت قصصا من الماضي، وظن آخرون أن العالم المتحضر الآن الذي يدعوا إلى الحرية المطلقة، لن يقبل بحرق أحد وتعذيبه لأجل دينه؛ حتى رأينا مثل هذه القصة التي ذُكرت لنا في القرآن مصورة لنا على أرض الواقع، رأينا البوذيين بأعيننا وهم يحفرون الأخاديد، ويوقدون فيها النيران، ويلقون مسلمي أراكان فيها، ثم ينظرون إليهم، بل يصورونهم ليبثوا روح الرعب والفزع بين الناس.
ولكن صدق الله وكذب أعداؤه، لقد جاءت هذه الأحداث لتؤكد لنا مرة أخرى أن تعذيب المسلمين وقتلهم سنة من سنن الكفار، وطريقة متبعة عندهم، ما تركوها ولن يتركوها كلما وجودوا فرصة سانحة لذلك، كلما وجدوا ضعفا من المسلمين، وتخاذلا وانشغالا بالدينا، وتركا للجهاد، تسلطوا على المستضعفين منهم فأبادوهم، (لا يرقبون في مؤمن إلّا ولا ذمة)، وما ذِكْر قصةِ فرعون وثمود في آخر هذه السورة إلا إشارة تؤكد لنا أن هذا الأمر متكرر الحدوث، وأن محاربة الكفار للمسلمين لأجل صدهم عن دينهم هي حقيقة شرعية وتاريخية، وليست نظرية مؤامرة، لقد أخبرنا الله تعالى في هذه السورة بسبب تلك المحرقة بشكل واضح فقال: (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد)، وقال في موضع آخر: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)، وما الحروب الصليبية قديما، واستعمار بلاد المسلمين إلا دليل ساطع على ذلك، وما فلسطين سوريا والعراق وغيرها من بلاد المسلمين إلا شاهد ناطق على هذه الحقيقة: الكفار على اختلاف أصنافهم هم أعداء لنا، يحاربوننا ليصدونا عن ديننا. وهذه الحروب لها صورتان: حرب نيران وقتل كما ذكرنا، وحرب أفكار وتغيير للمفاهيم والثقافات، تهدف إلى تغيير معالم الدين، وبث روح الانهزامية والتبعية فيه، وتهدف إلى جعل الغرب قدوة لنا.
عباد الله! من أهم الدروس التي ينبغي أن نأخذها من مثل هذه الأحداث: أن ما يدعيه الغرب من الدفاع عن حقوق الأقليات لا ينطبق على المسلمين، بل إنهم متى وجدوا فرصة لقتلنا فعلوا ذلك، ومتى وجدوا من يقتل المسلمين نيابة عنهم سكتوا وجعلوا ينظرون ويراقبون، كما هو الحال الآن في أراكان، وكما فعل بشار الطاغية في سوريا، وكما فعل الرافضة في العراق.. وإنّ تأمُّلَ مثلِ هذا الأمر كفيل بأن يزيل الغشاوة عن كثير ممن انخدعوا بالغرب، وظنوا أنهم يريدون الخير لنا.. هم لا يريدون إلا إبعادنا عن ديننا، فإذا لم تفلح الحرب، استخدموا الأساليب الناعمة، فأغدقوا الأموال، وتظاهروا بالحرص على مصلحتنا، ليسمح لهم بالتدخل في المناهج وإقامة الدورات واختراق عقول الشباب والشابات، وما الواقع المرير إلا بتنا نراه إلا ثمرة لغفلتنا عن غزوهم الفكري لنا، والذي لا يقل شراسة عن الحروب، كيف لا؟ وهم يبثون فينا روح القومية، ويرسخون بيننا الفرقة؟ كم من الناس من لا يعتبر نصرة المسلمين في مختلف بلاد العالم واجبا، وذلك لأنه قد أرضع المفاهيم العلمانية التي تفتت رابطة الدين، وتحل مكانها رابطة الوطن، وكم من الناس من يرى الجهاد إرهابا، لكنه يرى حروب الغرب حروبا لأجل فرض السلام وحقوق الإنسان، هذا عدا عن تغيير كثير من المسلمات الدنية لتجعلها موافقة لثقافة الغرب.
الخطبة الثانية:
عباد الله! إن شأن المسلم عند الله تعالى شأن عال رفيع، مهما كان لونه أو عرقه، سواء كان قويا أم ضعيفا، والواجب على المسلمين جميعا أن يكونوا جسدا واحدا في دفع العدوان وصده، قال عليه الصلاة والسلام: «مَا مِنِ امْرِئٍ يَخْذُلُ مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ»، لقد أكثر كثير من المسلمين في هذا الزمان من خذلان بعضهم البعض، وهذا عنوان للخسارة وللمزيد من الهزائم.. واعلموا أن عنوان الفلاح والنصر: هو نصرة المؤمن المستضعف، وحسبنا أن نعلم أن الله تعالى جعل رفع الظلم عن المسلمين من أعظم الأسباب التي تشن لأجلها الحروب، وتراق في سبيلها الدماء.. ولما أراد الله أن يستنهض همم عباده الصالحين للجهاد قال: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا. الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا) أي مسلم محب للإسلام لا يمكنه أن يصبر إذا سمع هذا الخطاب الذي يحرض على الجهاد حتى ينصر إخوانه، فكيف إذا رآهم وهم يحرقون ويقطعون أوصالا أمام عينيه، لكن هذا الخطاب، وتلك الصور إذا وردت على قلب خاو من محبة المسلمين، غارق في الملذات، حريص على المنصب، منشغل بأذية المسلمين وبث الفجور والفسق بينهم فكيف لها أن تحركه، لقد ماتت قلوب كثير من العرب، وماتت فيهم حتى نخوة أبي جهل.
عباد الله! لقد جعل الله سبحانه عامل القوة والقتال من أهم عوامل النصر وكفِّ أذى الكفار عن المسلمين، فقال تعالى: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا).. لا يرفع ظلم الكفار عنا، ولا تحرر بلادنا إلا بهذا العامل الذي حاول كثير من الناس طمسه.. العدو لا يستسلم بالورود والرياحين والحفلات الراقصة، قال ﷺ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق