الخميس، 28 سبتمبر 2017

من نفحات عاشوراء
عناصر الخطبة:
  • فضل عاشوراء.
  • ثلاثة دروس مستفادة.
  • أهمية التبشير بالنصر.

(إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد). عباد الله! إن لله تعالى سنةً في خلقه لا تتخلف ولا تتبدل.. هو وعد صادق من القوي المتين لعباده الصالحين.. إن هم التزموا أمر الله سبحانه، وأخذوا بأسباب النصر، فإن الله تعالى ناصرهم ومؤيدهم، وكابت أعدائهم.
وإننا على بُعد يوم واحد من يوم عظيم، جليل القدر، عظّمه النبي ﷺ، وأمر بصيامه قبل أن يفرض صوم رمضان، إنه يوم عاشوراء، الذي أخبرنا النبي ﷺ أن صيامه يكفر ذنوب السنة التي قبله.
ولكن ما شأن هذا اليوم؟ ولماذا شرع لنا صيامه؟ روى البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَال: «مَا هَذَا؟» قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى، قَال: «فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ» فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِه.
عباد الله! إن قصة هذا اليوم تحمل في طياتها دروسا وعبرا ومواعظ، فلنحاول أن نتعرف على شيء منها.
فمن أهم هذه الدروس: التأكيد على أن الله ﷻ ينصر عباده الصالحين ويكون معهم مُعينا وحافظا.. نحن أمام مثال على هذا النصر، مثال تجلت فيه قدرة الله تعالى وجبروته وبطشه بالظالمين.. إن موسى عليه الصلاة والسلام بُعث إلى طاغية من أكثر الطغاة عتوا على مر التاريخ، قد جمع من الظلم والبطش والخبث والمكر ما تنوء الجبال بحمله، لقد قال الله تعالى في وصف حاله: (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين)، لقد كان فسادا في الدين ووبالا في الدنيا.. لكن كل هذا البطش عباد الله! لا يشكّل شيئا أمام قدرة الله تعالى، لقد أرانا الله تعالى العبرة في فرعون لما أغرقه، لقد أرانا الله تعالى ضعف فرعون لما جعل موسى يتربى في بيته.. لقد قَتل فرعون كل الذكور من بني إسرائيل خوفا من زوال ملكه، فإذا بالهدى الذي كان يخافه ويحاربه يتربى بين يديه، يحميه فرعون ويطعمه من طعامه.. هذا من قهر الله تعالى للطغاة، إنهم مهما احتاطوا لحماية ملكهم، مهما قتلوا وظلموا، مهما أضلوا.. فإن أسباب انتشار الهدى والحق تأتيهم من حيث لا يحتسبون.. ولكن ما السبب في هذا؟ السبب هو أن الله تعالى هو الذي تكفل بنصر عباده الصالحين، لكنه لما ينصرهم فإنه يرينا في الوقت نفسه مدى ضعف الطغاة، ويعلمنا أن لا نخاف ولا نغتر بكثرة جند، ولا كثرة عدد، وألا نغتر بالأموال العظيمة التي تنفق، لن تغني كل الاحتياطات التي يتخذها المجرمون (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين. ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون)… إن نصر الله تعالى إذا نزل لا يستطيع أن يصده صاد، ولا أن يرده راد.
وفي هذا عبرة لنا في هذا الزمان عباد الله! فإننا وإن كنا نرى طغيان الكفار علينا، ومدى استقوائهم على المسلمين، ونشرهم للفساد الأخلاقي بيننا، مهما رأيناهم يحاولون تحريف الدين، وينفقون في ذلك المال والجهد، فكل هذا الكيد لا ينبغي أن يحجب الأمل عن عيوننا، فكل هذا سراب إذا نزل نصر الله تعالى، (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون. والذين كفروا إلى جهنم يحشرون. ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون).
ومن الدروس المستفادة كذلك: أن المؤمن إذا نصره الله تعالى فإنه ينبغي أن يعتبر هذا النصر نعمة عظيمة، عليه أن يؤدي شكرها، ويحافظ عليها حتى لا تزول عنه، وشكرها وحفظها يكون بالتواضع لله ﷻ وبألا يظن العبد أنه انتصر بقوة نفسه، يكون هذا الشكر بلزوم أوامره سبحانه واجتناب نواهيه.. إن بني إسرائيل لم يحفظوا هذه النعمة، بل لم يحفظوا أي نعمة أنعمها الله عليهم -وما أكثرها!- لقد كانوا يرون المعجزات أمام أعينهم فما يزيدهم ذلك إلا عتوا، لقد رأوا عدوهم الذي سامهم سوء العذاب يغرق ويبتلع الماء، وتُغرغر روحه أمام عيونهم، فلما وصلوا إلى البر عبدوا العجل! فلعنة الله على النفوس الشيطانية الخبيثة.. لذلك فإنهم لا يستحقون أن يفرحوا بهذه المناسبة، وهذا إليه إشارة في قول النبي ﷺ: «نحن أحق بموسى منكم»
ومن الدروس المستفادة من تشريع صوم يوم عاشوراء: التأكيد على الصلة والانتماء بين هذه الأمة، وبين كل الأنبياء، فنحن أمة تؤمن بكل أنبياء الله تعالى، تؤمن بأنهم دعوا أقوامهم إلى التوحيد وإفراد الله بالعبادة، دعوهم إلى تعظيم الله ﷻ، إلا أن كثيرا من تلك الأمم -كاليهود والنصارى- لم يثبتوا على الدين الحق الذي أنزله الله إليهم، بل حرفوا وبدلوا بعدهم، فالنصارى حرفوا دين التوحيد الذي أنزل على عيسى فقالوا بالتثليث، وغلوا في تعظيم رهبانهم، وأطاعوا أحبارهم في تحريفهم لدين الله تعالى، وفي تحريم الحلال، وتحليل الحرام، واليهود بدلوا دين التوحيد الذي أنزل على موسى عليه السلام، فعبدوا أحبارهم من دون الله، ووصفوا الله سبحانه بالنقائص، وأظهروا قبح نفوسهم وخبثها لكل الأمم.. إن النبي ﷺ اختصر علينا كل هذه المعاني لما قال: «نحن أحق بموسى منكم»، صدقت يا رسول الله! نحن أحق بموسى وعيسى ونوح وإبراهيم، نحن الذين نؤمن بدين التوحيد الذي بُعث به جميعُ الأنبياء (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) نحن الذين لا نفرق بين الأنبياء فنؤمن بهم جميعا (لا نفرق بين أحد من رسله)، نحن الذين نعظمهم ونبجلهم.. عباد الله! إن هذه الصلة وهذا الانتماء إلى أهل الإيمان في كل زمان ينبغي أن يقوي في قلوبنا عقيدة الولاء لكل مسلم مهما كان عرقه أو لونه، فرابطة الإسلام هي التي تجمع بين المسلمين، وهي التي تعطيهم القوة، هذه الصلة التي حاول أعداء المسلمين والعلمانيون قطعها، حاولوا استبدالها بمفاهيم الوطنية، حاولوا أن يحلوا محلها العروبة، حاولوا أن يربطوا المسلمين بحضارات بائدة أهلكها الله تعالى، لا يبالون بأي شيء يربطون به المسلمين، المهم أن يبعدوهم عن انتمائهم للإسلام، عن الجسد الواحد للأمة؛ لأنهم بذلك يخلخلون عقيدة المسلمين، ويضعفون قوتهم في وقت واحد.. عباد الله! إن هذه الدعوات العلمانية لا تزيد المسلمين إلا ضعفا وتخلفا وتأخرا عن ركب الحضاراة والتقدم.. (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا).
الخطبة الثانية:
إن النبي ﷺ كان حريصا على زرع عقيدة النصر في نفوس الصحابة، لأن هذا هو وعد الله تعالى للمؤمنين الآخذين بأسباب النصر.. في أحلك الظروف، وأصعب الأوقات، وأشد الكربات ما كانوا يجدون من النبي ﷺ إلا تبشيرا بالنصر، ها هو عليه الصلاة والسلام يبشر خباب بن الأرت وأصحابه لما شكوا له ظلم قريش وتعذيبها لهم فيقول ﷺ: «والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون»، ولما اجتمعت أحزاب الكفار حول المدينة وحاصرتها، وحفر المسلمون الخندق، استعانوا بالنبي ﷺ على صخرة أعيتهم، فأخذ عليه الصلاة والسلام الفأس، وضربها ضربه فذهب ثلثها فقال ﷺ: «الله أَكْبَرُ فُتِحَتْ فَارِسُ»، ثُمَّ ضَرَبَ أُخْرَى مِثْلَهَا فَقَال: «الله أكبر فُتِحَتِ الرُّومُ»، ثُمَّ ضَرَبَ أُخْرَى مِثْلَهَا فَقَال: «الله أَكْبَرُ وَجَاءَ الله بِحِمْيَرَ أَعْوَانًا وَأَنْصَارًا».
وما أكثر الأحاديث التي تبشر بانتصار الإسلام وتعلمنا أن هذا الأمر حتمي لا جدال فيه، وما علينا إلا أن نتحرك ونصلح أنفسنا ونأخذ بالأسباب، والله تعالى ناصرنا، قال ﷺ: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر»
فاللهم أقر عيوننا بنصر مؤزر، وتولنا برحمتك..


الجمعة، 22 سبتمبر 2017

في رحاب الهجرة
عناصر الخطبة:
  • سنة الله تعالى في نصر عباده الصالحين.
  • الأخد بالأسباب، والثباتمن أهم دروس الهجرة.
  • من أسباب عدم الثبات.
(إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد)
آية كريمة من سورة غافر، هذه السورة العظية التي تحدثت منذ بدايتها عن سنة من سنَن الله تعالى في خلقه، وهي أنه تعالى ينصر عباده الصالحين، الملتزمين بأوامره ﷻ إذا هم أخذوا بالأسباب.
وقد ذكرت هذه السورة أن أعداء الرسل حاولوا تشويه دعوتهم، وأنهم أتوا بالشبهات ليطمسوا الحق فما كان إلا أن نصَر اللهُ تعالى رسلَه، وأظهر الحق، كما قال تعالى: ﴿ما يُجادِلُ في آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذينَ كَفَروا فَلا يَغرُركَ تَقَلُّبُهُم فِي البِلادِ . كَذَّبَت قَبلَهُم قَومُ نوحٍ وَالأَحزابُ مِن بَعدِهِم وَهَمَّت كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسولِهِم لِيَأخُذوهُ وَجادَلوا بِالباطِلِ لِيُدحِضوا بِهِ الحَقَّ فَأَخَذتُهُم فَكَيفَ كانَ عِقابِ﴾.
وهذا هو وعد الله تعالى لعباده، وهذه سنته في حق عباده الصالحين المخلصين، ﴿أَوَلَم يَسيروا فِي الأَرضِ فَيَنظُروا كَيفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذينَ كانوا مِن قَبلِهِم كانوا هُم أَشَدَّ مِنهُم قُوَّةً وَآثارًا فِي الأَرضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنوبِهِم وَما كانَ لَهُم مِنَ اللَّهِ مِن واقٍ﴾ وقد ذكرَتِ السورة بعد ذلك قصة فرعون وموسى وقصة مؤمن آلِ فرعون، وذكرت نصره سبحانه وتعالى لموسى ومؤمن آلِ فرعون، وختمت ذلك بتقرير تلك الحقيقة التي ذكرناها، بقوله تعالى: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد).
وهذا النصر قسمان: نصر في الدنيا، ونصر في الآخرة، أما النصر في الآخرة فبإكرام المؤمنين وإدخالهم جنات النعيم، وإهانة الكافرين وأعداء الرسل، وإدخالهم نار الجحيم. 
وأما النصر في الدنيا فهو يتعلق بشكل أساسي بظهور وانتصار حجة الرسل ودينهم على شبهات من يعاديهم، ويتبع ذلك النصر المادي.
ولنقف الآن مع صورة كبرى من صور ذلك النصر، وامتداد لنصر الله تعالى لعباده، ألا وهي حادثة الهجرة النبوية، هذه الحادثة العظيمة التي تَمثل فيها نصر الله تعالى للنبي ﷺ… لقد نصره الله ﷻ بالحجة والبيان، فلم تفلح كل شبهات المشركين، في صد الناس عن دعوة الإسلام، لقد اتهموه بالسحر والجنون، وحاولوا إشاعة ذلك بين العرب، فلما زاد ذلك دعوته إلا قبولا وظهورا في الحجة والبيان، حتى حاولوا قتله أو سجنه أو نفيه كما قال تعالى: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).. فجاء نصر الله تعالى له، فنجاه الله من منهم، وأحبط مخططاتهم، وأخرجه سالما من بين أظهرهم، كما قال تعالى: (إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
عباد الله! إن هذا النصر الذي وعد الله تعالى به عباده له أسباب، والله سبحانه لا ينزل نصره على من لا يأخذ بها، لقد علّمنا النبي ﷺ من خلال هجرته أن المؤمن مع ثقته بنصر الله تعالى إلا أنه لا بد أن يأخذ بالأسباب المعنوية والمادية التي تحقق النصر، لقد كان الله تعالى قادرا على أن ينصر نبيه وينجيه مباشرة، إلا أنه يريد أن يعلمنا أن النصر لا ينزل على القاعدين والكسالى، لقد أمر النبي ﷺ علي بن أبي طالب أن ينام مكانه، وخرج ظهرا والناس قائلون، واستأجر دليلا يدله على الطريق، وسلك طريقا غير الطريق المعتادة إلى المدينة، وتخفى في غار ثور، وأمر من يأتيه بالزاد والأخبار من مكة، وكل هذه أسباب للنجاة من الكفار، والله تعالى هو مسبب الأسباب.
عباد الله! إن من أعظم أسباب النصر التي علمنا إياها النبي ﷺ هو: الثبات على الدين، وعدم التغيير والتبديل، وعدم التنازل عن الثوابت مهما كانت الظروف.. إن الدين ما نزل إلا لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وإن نصر الله تعالى لا ينزل إلا ليمكِّن للدين بصورته البهية الصحيحة، فإذا وصل الأمر إلى التنازل عن الدين تحت أي ظرف فهذا مؤذن بالعقوبة، وليس فقط بتخلف النصر، لقد أخبر الله تعالى نبينا محمدا ﷺ أن هذه المسألة لا مجال فيها للتنازل، فقال تعالى: (وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا . وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا . إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرا).
إن الطغاة إذا عجزوا عن صرف الداعية عن دينه ودعوته، فإنهم يحاولون أن يجدوا حلا وسطا، بحيث يتحقق لهم ما يريدون، ولا يجعلون الداعية يتنازل عن دينه نهائيا، هذه الطريقة هي محاولة تحريف بعض الثوابت التي تزعج الكفار،  فإذا زالت أمكن للكفار أن "يتعايشوا" مع هذا الدين، مع إبقائهم على الاسم الظاهر منه، بعد أن فرغوه من محتواه وروحه؛ لكن في الحقيقة فإن الداعي إلى الله إذا وافق على ذلك يكون قد ابتعد عن دينه ودعوته، ولو أبقى له الطغاة من يتغطى به أمام الناس.
ولقد ضرب لنا النبي ﷺ وصحابته أعظم مثل  في الثبات على دين الله تعالى، فلم يغيروا ولم يبدلوا حتى وصل إلينا دين الله تعالى صافيا كما أنزل على قلب محمد ﷺ.. فبعد أن حاول الكفار صرف النبي ﷺ والصحابة عن دينهم بشتى وسائل العنف والإيذاء، فما وجدوا إلا جبالا شامخة، ونفوسا كبيرة صابرة=.. ها هو عتبة بن ربيعة يأتي إلى رسول الله ﷺ بالوجه اللطيف والحسن، فيقول: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها. فقال له رسول الله ﷺ: «قل يا أبا الوليد، أسمع». قال: يا ابن أخي ، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا، حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا؛ وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أو كما قال له. 
كل هذه العروض المغرية من مال ونساء وسلطة وجاه لم تصرف النبي ﷺ عن مراده، لم يرِفَّ لها طرفه، ولم يتطلع إليها قلبه، لأنه صاحب إيمان راسخ، لأنه صاحب رؤية واضحة، لأنه صاحب هدف محدد، هو الامتثال لأمر الله تعالى، ونصرة دينه، لقد أجابه النبي ﷺ بأن قرأ عليه أول سورة فصلت، التي فيها التأكيد على ثوابت التوحيد، وهي التي جاء عتبة ليفاوضه عليها.. كأنك يا عتبة لم تقل شيئا..
أين نحن من هذا الثبات؟! لقد صرنا في زمن يقدم فيه بعضنا التنازلات عن دينه وهو فرح مسرور، وكأنه قد وقف على أبواب الجنة، لقد تنازل كثير من المسلمين -على اختلاف توجهاتهم وطبقاتهم-، عن كثير من ثوابت الدين كالولاء والبراء، وتحكيم الشريعة، والحجاب وقسمة الميراث حسب الشريعة، وشرعنوا الذل وقننوه، وصار ثقافة عامة عند بعض الناس، إلى غير ذلك من صور التشبه بالكفار في مختلف المجالات الثقافية والفكرية، بل على صعيد اللباس والكلام والحركات، فما زادهم ذلك إلا ضعفا وبعدا عن نصر الله تعالى، فاللهم أصلحنا وردنا إلى طريق حبيبك محمد ﷺ.
(يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم. والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم).
الثانية
عباد الله! إن عدم الثبات على الحق له أسباب، ومن أهمها أمران، قد يجتمعان وقد يفترقان، أما الأول: فهو ضعف الإيمان، وضعف الخوف من الله تعالى، الذي يحمل صاحبه على التهوين من شأن هذه المسائل. والثاني: عدم وضوح الهدف والغاية، وعدم فهم غاية دين الإسلام والتي هي نشر التوحيد والعدالة في الأرض.. لقد أرْدَت الهزيمة النفسية كثيرا منا في مهاوي الأفكار العلمانية والإلحادية، حتى صرنا نرى في ذباحينا وقاتلينا الفارسَ المخلّصَ مما نحن فيه من مصائب.
فإذا اجتمع في الإنسان ضعف الإيمان مع الهزيمة النفسية فنحن أمام مسلسل من الخنوع والذل لا مثيل له، ونحن أمام مشهد يقدم فيه الأخ أخاه قربانا لمن سيذبحهما جميعا! 
إذا أردنا أن ينصرنا الله فلا بد أن ننصره، وهذا يكون بأن نقوي إيماننا ونلتزم بديننا، وأن نثق بثقافتنا وميراثنا، وبأن نأخذ بأسباب النصر.. لقد خلع أجدادكم هامات الجبال في سبيل نصرة هذا الدين، فاثبوا عليه وتمسكوا به، واعلموا أن الله تعالى ناصر دينه، ومُعْلٍ كلمته ولو كره الكافرون.





الجمعة، 8 سبتمبر 2017

مأساة أراكان
عناصر الخطبة:
  • الاعتداء على المسلمين سنة متبعة عند الكفار.
  • حقيقة الوجه الناعم للغرب.
  • أهمية نصرة المستضعفين.
(والسماء ذات البروج. واليوم الموعود. وشاهد ومشهود. قتل أصحاب الأخدود. النار ذات الوقود. إذ هم عليها قعود. وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود. وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد).. آيات كريمة من سورة البروج، يخبرنا الله تعالى فيها بخبر قوم من الكفار، عمدوا إلى من عندهم من المؤمنين فقهروهم وأرادوهم أن يتركوا دينهم، فأبى المؤمنون أن يتركوا دينهم، فحفر أولئك الكفار الأخاديد في الأرض، ثم أججوا فيها النيران، وجعلوا لها وقودا يسعرونها به، ثم ألقوا فيها المؤمنين، وجعلوا ينظرون إليهم وهم يحترقون.
إنها حادثة عظيمة، حادثة أنزل الله سبحانه فيها آيات ليخبرنا بها مع أنها وقعت ربما قبل آلاف السنين.. إن أنفاس أولئك المؤمنين الذين أحرقوا لأجل دينهم كانت عالية القدر عند الله سبحانه، لقد رفع الله لنا شأن أولئك المستضعفين في هذه الآيات، فوصف لنا عملية الاعتداء عليهم بالتفصيل، فأخبرنا أن الكفار حفروا الأخاديد، ثم أججوا فيها النيران، وجعلوا بحانبهم وقودا يسعرون به هذه النار، وأخبرنا أنهم لما ألقوا المؤمنين فيها جلسوا ينظرون إليهم.. فياله من شرف ناله أولئك المستضعفون، ويالها من كرامة، إذا كانوا لم يجدوا ناصرا ينصرهم في هذه الدنيا، فإن الله تعالى ناصرهم ومعينهم، وإذا كانوا ضعفاء محتقرين في هذه الدنيا لا يهتم أحد لشأنهم، فإنهم شأنهم عند الله تعالى عظيم؛ فبالإضافة إلى النعيم الذين سينعمون به في الآخرة، ها هي آيات القرآن تسطر قصتهم، وتخلد ذكرهم، وتجعلهم قدوة للمؤمنين إلى يوم القيامة.
لقد لعن الله تعالى من اعتدى على أولئك المؤمنين منذ بداية ذكر هذه الحادثة فقال: (قتل أصحاب الأخدود)، ثم توعدهم بالعذاب في الآخرة فقال: (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق)، ثم ختم هذه السورة بذكر قوة الله تعالى وشدة بطشه، وأن كل الأمور بيده سبحانه، في إشارة إلى انتقامه من الكفار في كل حين فقال: (إن بطش ربك لشديد. إنه هو يبدئ ويعيد)، ثم ذكر نموذجين من الكفار الذي حاربوا المؤمنين فانتقم الله تعالى منهم فقال: (هل أتاك حديث الجنود. فرعون وثمود).. هل علمت ما فعلنا بهم لما عادوا أولياءنا، وآذوا عبادنا، إن الله تعالى قريب من عباده، مطلع على حالهم، محيط بأعمالهم، لا يفوته فوت، ولا يعزب عنه مثقال ذرة.
لقد ظن كثير من الناس أن مشاهد الحرق والتشويه أصبحت قصصا من الماضي، وظن آخرون أن العالم المتحضر الآن الذي يدعوا إلى الحرية المطلقة، لن يقبل بحرق أحد وتعذيبه لأجل دينه؛ حتى رأينا مثل هذه القصة التي ذُكرت لنا في القرآن مصورة لنا على أرض الواقع، رأينا البوذيين بأعيننا وهم يحفرون الأخاديد، ويوقدون فيها النيران، ويلقون مسلمي أراكان فيها، ثم ينظرون إليهم، بل يصورونهم ليبثوا روح الرعب والفزع بين الناس.
ولكن صدق الله وكذب أعداؤه، لقد جاءت هذه الأحداث لتؤكد لنا مرة أخرى أن تعذيب المسلمين وقتلهم سنة من سنن الكفار، وطريقة متبعة عندهم، ما تركوها ولن يتركوها كلما وجودوا فرصة سانحة لذلك، كلما وجدوا ضعفا من المسلمين، وتخاذلا وانشغالا بالدينا، وتركا للجهاد، تسلطوا على المستضعفين منهم فأبادوهم، (لا يرقبون في مؤمن إلّا ولا ذمة)، وما ذِكْر قصةِ فرعون وثمود في آخر هذه السورة إلا إشارة تؤكد لنا أن هذا الأمر متكرر الحدوث، وأن محاربة الكفار للمسلمين لأجل صدهم عن دينهم هي حقيقة شرعية وتاريخية، وليست نظرية مؤامرة، لقد أخبرنا الله تعالى في هذه السورة بسبب تلك المحرقة بشكل واضح فقال: (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد)، وقال في موضع آخر: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)، وما الحروب الصليبية قديما، واستعمار بلاد المسلمين إلا دليل ساطع على ذلك، وما فلسطين سوريا والعراق وغيرها من بلاد المسلمين إلا شاهد ناطق على هذه الحقيقة: الكفار على اختلاف أصنافهم هم أعداء لنا، يحاربوننا ليصدونا عن ديننا. وهذه الحروب لها صورتان: حرب نيران وقتل كما ذكرنا، وحرب أفكار وتغيير للمفاهيم والثقافات، تهدف إلى تغيير معالم الدين، وبث روح الانهزامية والتبعية فيه، وتهدف إلى جعل الغرب قدوة لنا.
عباد الله! من أهم الدروس التي ينبغي أن نأخذها من مثل هذه الأحداث: أن ما يدعيه الغرب من الدفاع عن حقوق الأقليات لا ينطبق على المسلمين، بل إنهم متى وجدوا فرصة لقتلنا فعلوا ذلك، ومتى وجدوا من يقتل المسلمين نيابة عنهم سكتوا وجعلوا ينظرون ويراقبون، كما هو الحال الآن في أراكان، وكما فعل بشار الطاغية في سوريا، وكما فعل الرافضة في العراق.. وإنّ تأمُّلَ مثلِ هذا الأمر كفيل بأن يزيل الغشاوة عن كثير ممن انخدعوا بالغرب، وظنوا أنهم يريدون الخير لنا.. هم لا يريدون إلا إبعادنا عن ديننا، فإذا لم تفلح الحرب، استخدموا الأساليب الناعمة، فأغدقوا الأموال، وتظاهروا بالحرص على مصلحتنا، ليسمح لهم بالتدخل في المناهج وإقامة الدورات واختراق عقول الشباب والشابات، وما الواقع المرير إلا بتنا نراه إلا ثمرة لغفلتنا عن غزوهم الفكري لنا، والذي لا يقل شراسة عن الحروب، كيف لا؟ وهم يبثون فينا روح القومية، ويرسخون بيننا الفرقة؟ كم من الناس من لا يعتبر نصرة المسلمين في مختلف بلاد العالم واجبا، وذلك لأنه قد أرضع المفاهيم العلمانية التي تفتت رابطة الدين، وتحل مكانها رابطة الوطن، وكم من الناس من يرى الجهاد إرهابا، لكنه يرى حروب الغرب حروبا لأجل فرض السلام وحقوق الإنسان، هذا عدا عن تغيير كثير من المسلمات الدنية لتجعلها موافقة لثقافة الغرب.
الخطبة الثانية:
عباد الله! إن شأن المسلم عند الله تعالى شأن عال رفيع، مهما كان لونه أو عرقه، سواء كان قويا أم ضعيفا، والواجب على المسلمين جميعا أن يكونوا جسدا واحدا في دفع العدوان وصده، قال عليه الصلاة والسلام: «مَا مِنِ امْرِئٍ يَخْذُلُ مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ»، لقد أكثر كثير من المسلمين في هذا الزمان من خذلان بعضهم البعض، وهذا عنوان للخسارة وللمزيد من الهزائم.. واعلموا أن عنوان الفلاح والنصر: هو نصرة المؤمن المستضعف، وحسبنا أن نعلم أن الله تعالى جعل رفع الظلم عن المسلمين من أعظم الأسباب التي تشن لأجلها الحروب، وتراق في سبيلها الدماء.. ولما أراد الله أن يستنهض همم عباده الصالحين للجهاد قال: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا. الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا) أي مسلم محب للإسلام لا يمكنه أن يصبر إذا سمع هذا الخطاب الذي يحرض على الجهاد حتى ينصر إخوانه، فكيف إذا رآهم وهم يحرقون ويقطعون أوصالا أمام عينيه، لكن هذا الخطاب، وتلك الصور إذا وردت على قلب خاو من محبة المسلمين، غارق في الملذات، حريص على المنصب، منشغل بأذية المسلمين وبث الفجور والفسق بينهم فكيف لها أن تحركه، لقد ماتت قلوب كثير من العرب، وماتت فيهم حتى نخوة أبي جهل.

عباد الله! لقد جعل الله سبحانه عامل القوة والقتال من أهم عوامل النصر وكفِّ أذى الكفار عن المسلمين، فقال تعالى: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا).. لا يرفع ظلم الكفار عنا، ولا تحرر بلادنا إلا بهذا العامل الذي حاول كثير من الناس طمسه.. العدو لا يستسلم بالورود والرياحين والحفلات الراقصة، قال ﷺ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ».