من نفحات عاشوراء
عناصر الخطبة:
- فضل عاشوراء.
- ثلاثة دروس مستفادة.
- أهمية التبشير بالنصر.
(إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد). عباد الله! إن لله تعالى سنةً في خلقه لا تتخلف ولا تتبدل.. هو وعد صادق من القوي المتين لعباده الصالحين.. إن هم التزموا أمر الله سبحانه، وأخذوا بأسباب النصر، فإن الله تعالى ناصرهم ومؤيدهم، وكابت أعدائهم.
وإننا على بُعد يوم واحد من يوم عظيم، جليل القدر، عظّمه النبي ﷺ، وأمر بصيامه قبل أن يفرض صوم رمضان، إنه يوم عاشوراء، الذي أخبرنا النبي ﷺ أن صيامه يكفر ذنوب السنة التي قبله.
ولكن ما شأن هذا اليوم؟ ولماذا شرع لنا صيامه؟ روى البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَال: «مَا هَذَا؟» قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى، قَال: «فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ» فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِه.
عباد الله! إن قصة هذا اليوم تحمل في طياتها دروسا وعبرا ومواعظ، فلنحاول أن نتعرف على شيء منها.
فمن أهم هذه الدروس: التأكيد على أن الله ﷻ ينصر عباده الصالحين ويكون معهم مُعينا وحافظا.. نحن أمام مثال على هذا النصر، مثال تجلت فيه قدرة الله تعالى وجبروته وبطشه بالظالمين.. إن موسى عليه الصلاة والسلام بُعث إلى طاغية من أكثر الطغاة عتوا على مر التاريخ، قد جمع من الظلم والبطش والخبث والمكر ما تنوء الجبال بحمله، لقد قال الله تعالى في وصف حاله: (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين)، لقد كان فسادا في الدين ووبالا في الدنيا.. لكن كل هذا البطش عباد الله! لا يشكّل شيئا أمام قدرة الله تعالى، لقد أرانا الله تعالى العبرة في فرعون لما أغرقه، لقد أرانا الله تعالى ضعف فرعون لما جعل موسى يتربى في بيته.. لقد قَتل فرعون كل الذكور من بني إسرائيل خوفا من زوال ملكه، فإذا بالهدى الذي كان يخافه ويحاربه يتربى بين يديه، يحميه فرعون ويطعمه من طعامه.. هذا من قهر الله تعالى للطغاة، إنهم مهما احتاطوا لحماية ملكهم، مهما قتلوا وظلموا، مهما أضلوا.. فإن أسباب انتشار الهدى والحق تأتيهم من حيث لا يحتسبون.. ولكن ما السبب في هذا؟ السبب هو أن الله تعالى هو الذي تكفل بنصر عباده الصالحين، لكنه لما ينصرهم فإنه يرينا في الوقت نفسه مدى ضعف الطغاة، ويعلمنا أن لا نخاف ولا نغتر بكثرة جند، ولا كثرة عدد، وألا نغتر بالأموال العظيمة التي تنفق، لن تغني كل الاحتياطات التي يتخذها المجرمون (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين. ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون)… إن نصر الله تعالى إذا نزل لا يستطيع أن يصده صاد، ولا أن يرده راد.
وفي هذا عبرة لنا في هذا الزمان عباد الله! فإننا وإن كنا نرى طغيان الكفار علينا، ومدى استقوائهم على المسلمين، ونشرهم للفساد الأخلاقي بيننا، مهما رأيناهم يحاولون تحريف الدين، وينفقون في ذلك المال والجهد، فكل هذا الكيد لا ينبغي أن يحجب الأمل عن عيوننا، فكل هذا سراب إذا نزل نصر الله تعالى، (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون. والذين كفروا إلى جهنم يحشرون. ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون).
ومن الدروس المستفادة كذلك: أن المؤمن إذا نصره الله تعالى فإنه ينبغي أن يعتبر هذا النصر نعمة عظيمة، عليه أن يؤدي شكرها، ويحافظ عليها حتى لا تزول عنه، وشكرها وحفظها يكون بالتواضع لله ﷻ وبألا يظن العبد أنه انتصر بقوة نفسه، يكون هذا الشكر بلزوم أوامره سبحانه واجتناب نواهيه.. إن بني إسرائيل لم يحفظوا هذه النعمة، بل لم يحفظوا أي نعمة أنعمها الله عليهم -وما أكثرها!- لقد كانوا يرون المعجزات أمام أعينهم فما يزيدهم ذلك إلا عتوا، لقد رأوا عدوهم الذي سامهم سوء العذاب يغرق ويبتلع الماء، وتُغرغر روحه أمام عيونهم، فلما وصلوا إلى البر عبدوا العجل! فلعنة الله على النفوس الشيطانية الخبيثة.. لذلك فإنهم لا يستحقون أن يفرحوا بهذه المناسبة، وهذا إليه إشارة في قول النبي ﷺ: «نحن أحق بموسى منكم».
ومن الدروس المستفادة من تشريع صوم يوم عاشوراء: التأكيد على الصلة والانتماء بين هذه الأمة، وبين كل الأنبياء، فنحن أمة تؤمن بكل أنبياء الله تعالى، تؤمن بأنهم دعوا أقوامهم إلى التوحيد وإفراد الله بالعبادة، دعوهم إلى تعظيم الله ﷻ، إلا أن كثيرا من تلك الأمم -كاليهود والنصارى- لم يثبتوا على الدين الحق الذي أنزله الله إليهم، بل حرفوا وبدلوا بعدهم، فالنصارى حرفوا دين التوحيد الذي أنزل على عيسى فقالوا بالتثليث، وغلوا في تعظيم رهبانهم، وأطاعوا أحبارهم في تحريفهم لدين الله تعالى، وفي تحريم الحلال، وتحليل الحرام، واليهود بدلوا دين التوحيد الذي أنزل على موسى عليه السلام، فعبدوا أحبارهم من دون الله، ووصفوا الله سبحانه بالنقائص، وأظهروا قبح نفوسهم وخبثها لكل الأمم.. إن النبي ﷺ اختصر علينا كل هذه المعاني لما قال: «نحن أحق بموسى منكم»، صدقت يا رسول الله! نحن أحق بموسى وعيسى ونوح وإبراهيم، نحن الذين نؤمن بدين التوحيد الذي بُعث به جميعُ الأنبياء (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) نحن الذين لا نفرق بين الأنبياء فنؤمن بهم جميعا (لا نفرق بين أحد من رسله)، نحن الذين نعظمهم ونبجلهم.. عباد الله! إن هذه الصلة وهذا الانتماء إلى أهل الإيمان في كل زمان ينبغي أن يقوي في قلوبنا عقيدة الولاء لكل مسلم مهما كان عرقه أو لونه، فرابطة الإسلام هي التي تجمع بين المسلمين، وهي التي تعطيهم القوة، هذه الصلة التي حاول أعداء المسلمين والعلمانيون قطعها، حاولوا استبدالها بمفاهيم الوطنية، حاولوا أن يحلوا محلها العروبة، حاولوا أن يربطوا المسلمين بحضارات بائدة أهلكها الله تعالى، لا يبالون بأي شيء يربطون به المسلمين، المهم أن يبعدوهم عن انتمائهم للإسلام، عن الجسد الواحد للأمة؛ لأنهم بذلك يخلخلون عقيدة المسلمين، ويضعفون قوتهم في وقت واحد.. عباد الله! إن هذه الدعوات العلمانية لا تزيد المسلمين إلا ضعفا وتخلفا وتأخرا عن ركب الحضاراة والتقدم.. (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا).
الخطبة الثانية:
إن النبي ﷺ كان حريصا على زرع عقيدة النصر في نفوس الصحابة، لأن هذا هو وعد الله تعالى للمؤمنين الآخذين بأسباب النصر.. في أحلك الظروف، وأصعب الأوقات، وأشد الكربات ما كانوا يجدون من النبي ﷺ إلا تبشيرا بالنصر، ها هو عليه الصلاة والسلام يبشر خباب بن الأرت وأصحابه لما شكوا له ظلم قريش وتعذيبها لهم فيقول ﷺ: «والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون»، ولما اجتمعت أحزاب الكفار حول المدينة وحاصرتها، وحفر المسلمون الخندق، استعانوا بالنبي ﷺ على صخرة أعيتهم، فأخذ عليه الصلاة والسلام الفأس، وضربها ضربه فذهب ثلثها فقال ﷺ: «الله أَكْبَرُ فُتِحَتْ فَارِسُ»، ثُمَّ ضَرَبَ أُخْرَى مِثْلَهَا فَقَال: «الله أكبر فُتِحَتِ الرُّومُ»، ثُمَّ ضَرَبَ أُخْرَى مِثْلَهَا فَقَال: «الله أَكْبَرُ وَجَاءَ الله بِحِمْيَرَ أَعْوَانًا وَأَنْصَارًا».
وما أكثر الأحاديث التي تبشر بانتصار الإسلام وتعلمنا أن هذا الأمر حتمي لا جدال فيه، وما علينا إلا أن نتحرك ونصلح أنفسنا ونأخذ بالأسباب، والله تعالى ناصرنا، قال ﷺ: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر».
فاللهم أقر عيوننا بنصر مؤزر، وتولنا برحمتك..