الخميس، 10 أغسطس 2017

شرح حديث «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى»

عناصر الخطبة:
- أهمية الدعاء.
- معنى الهدى والتقى.
- معنى العفاف والغنى.

(وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين)
الدعاء من أهم معالم عبادة الله سبحانه وتعالى، وهو من أهم ما يميز العبد القريب من الله تعالى من العبد البعيد عنه وعن رحمته، وعبادة الله سبحانه مبنية على ركنين عظيمين؛ وهما: المحبة والتعظيم.. محبة الله سبحانه، مع تعظيمه وإجلاله ﷻ.
إذا علمنا هذا عباد الله وعلمنا أن الدعاء هو من أكثر العبادات التي يظهر فيها تعظيم العبد لربه، وخضوعه ومحبته= علمنا أن الدعاء عبادة من أعظم العبادات وأحبها إلى الله تعالى، ولأهمية الدعاء قال النبي ﷺ في ذلك: «الدعاء هو العبادة»… ومن تأمل في قوله تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان) يلحظ فيها معاني القرب والمحبة التي تكون في الدعاء، فإنه تعالى قال في هذه الآية: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب…) فأتى بالجواب مباشرة، ولم يقل: فقل لهم إني قريب، وهذا فيه إشارة إلى معاني القرب والمحبة الموجودة في الدعاء، ثم إن الآية جاء فيها استخدام ضمير المتكلم المفرد في أربع مواضع، وهي: (عبادي)، و(عني)، و(فإني)، و(دعان)، وهذا كله يؤكد أن الله تعالى يحب هذه العبادة، ويحب أن يتقرب عباده إليه بها، وأن يظهروا له سبحانه التذلل والخضوع والمحبة والتقرب.
ولهذا عباد الله! ولأجل الفضائل الكثيرة الواردة في الدعاء فإن النبي ﷺ كان كثير الدعاء لله سبحانه، كثير التذلل له، والأدعية التي كان النبي ﷺ يدعو بها كانت تحمل الكثير من المعاني مع قلة ألفاظها، فهي أدعية جامعة لخيري الدنيا والآخرة، وهي خير ما يدعو به المسلمُ ربَّه ﷻ.
ولنقف وقفة يسيرة مع دعاء عظيم من أدعية النبي ﷺ.. فقد أخرج مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله ﷺ يقول: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى». وقول ابن مسعود رضي الله عنه: (كان رسول الله ﷺ يقول) يدل على أن النبي ﷺ كان يكثر من قول هذا الدعاء، وإذا كان النبي ﷺ يكثر من هذا الدعاء الجليل، وهو الذي صعد إلى أعلى درجات العبودية لله تعالى، وبلغ الغاية في هذه الأمور المذكورة في الحديث فما أحوج العبد المقصر إلى الإكثار من هذا الدعاء واللهَج به.
إن العبد بحاجة دائمة إلى ربه تبارك وتعالى، بحاجة له ليهديه ويسدده إلى الصراط المستقيم، وبحاجة له ليقيم له أمر هذه الدنيا ويسهل عيشه فيها. ومتى ظن العبد أنه قد يستغني عن الله تعالى في لحظة من لحظاته، فقد خاب وخسر، ومتى اعتمد العبد على قوته ولم يستعن بالله تعالى في كل شؤونه فقد وقع في الغفلة، وربما اغتر بالنفس الضعيفة الأمارة بالسوء.
وإذا تأملنا هذا الدعاء العظيم وجدناه جامعا لخير الدنيا والآخرة، مشتملا على ما ينفع العبد في دينه ودنياه، فالهدى والتقى بهما يصلح دين العبد، والعفاف والغنى تستقيم بهما حياته.
أما الهدى فإنه عنوان الفلاح في الأمور الإيمانية الاعتقادية، والهداية تشمل أمرين: الهداية بمعنى التمييز بين الحق والباطل، ومعرفة الصواب من الخطأ، والحلال من الحرام. والأمر الثاني هو الهداية والتوفيق للالتزام بذلك العلم الذي علمه العبد، وذلك بسلوك طريق الحق واجتناب الباطل، وفعل الحلال والبعد عن الحرام. 
ولا يتم أمر الهداية إلا بهذين الأمرين، والعبد محتاج إلى الله سبحانه لتحقيقهما، فكم من الناس من يضل ويعمى عن الصراط المستقيم، لأنه يقدم هواه وميوله الشخصية على تعاليم الدين، فلا يستطيع أن يرى من الدين إلا ما يوافق هواه ورغباته، فهذا لم ير الحق أصلا، وأمثال هؤلاء كثر، وسبل الضلال كثيرة في هذا الزمان وفي كل زمان؛ فمنهم من يرى أن الدين هو ما يوافق عقله فقط، ومنهم من يرى أن الدين هو ما يدل إليه الذوق والوجد، ومنهم من يرى أن الدين هو ما يمليه الظالم، ومنهم من يرى أن الدين لا يتعارض مع اتباع الغرب في العلمانية والكفر.. في صور كثيرة من الهوى، وسبل وطرق كثيرة تصب في مهاوي الردى.
وأما الجانب الآخر من الهداية فهو يتعلق بالتطبيق والفعل، بعد التمييز والتوفيقِ لمعرفة الحق من الباطل، فكم من الناس من يعرف الصواب ثم لا يتبعُه ولا يفعلُه لأنه يقدم مصلحة المال أو الشهوة أو الجاه على اتباع الحق… كم من الناس من يعلم أن الصلاة فرض ولا يصلي، وكم من الناس من يعلم أن الربا حرام ولا يجتنبه… فالعبد مطلوب منه أن يأخذ بأسباب الاستقامة وترك المعصية ثم يستعين بالله تعالى ويعلق قلبه به، ويسأله الهداية، فإن القلوب بين يديه، قال تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين)، وقال: (من يهد الله فهو المهتدي) وهذا لا يعني أن يقيم العبد على المعصية بحجة أن الهداية بيد الله تعالى، فالهداية لها أسباب لا بد للعبد أن يفعلها، وهو محاسب عليها، والله تعالى مسبب الأسباب، يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يشاء بعدله.
ومن أهم هذه الأسباب الجالبة للهداية: التقوى، وهو الأمر الثاني الذي طلبه النبي ﷺ في هذا الدعاء، والتقوى هي: فعل ما أمر الله تعالى به طلبا للثواب، وترك ما نهى عنه خوفا من العقاب، وهي خصلة جامعة للعمل بالدين كله.. قد أمر الله تعالى بها في كتابه في آيات كثيرة، فقال: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا)، (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)، وأمر بها النبي ﷺ، وتسابق الصالحون إلى تحقيقها.. هي المعيار الذي يتفاضل الناس على أساسه، فأكثرهم تقوى أكرمهم عند الله سبحانه، وأقربهم منه منزلة. والتقوى لها درجات كثيرة، فمن الناس من يقتصر على أقل درجاتها فيفعل الواجب، ويترك الحرام، لكنه لا يكثر من النوافل، ومنهم من يفعل الواجب ويكثر من النوافل والمستحبات، ويجتنب الحرام والمكروهات، والناس متفاوتون في تحقيقها تفاوتا شديدا، منهم السابقون، ومنهم المقتصدون، ومنهم الظالم لنفسه.

٢ في تتمة هذا الدعاء الجليل يطلب النبيُّ ﷺ من ربه ﷻ أمرين عظيمين؛ وهما: العفاف والغنى، وإذا كان دين العبد يصلح بالهدى والتقى، فإن الدنيا تستقيم له بالعفاف والغنى.
أما العفاف فهو: التنزه عما لا يباح، والكف عنه. وهو يشمل أمورا كثيرة، من أهمها أمران: أما الأول فهو الكف عما لا يليق مما يخدش الحياء، أو يخدش العرض، أو يدنس الشرف، وهذا يشمل كل ما يمس الحياء، فليس المراد هنا ترك الزنا فقط، بل يدخل في العفاف: البعد عن مواطن الريبة والاختلاط المحرم بين الرجال والنساء، ويدخل فيه محافظة المرأة في حجابها والتزامها بشروطه.. ومن تأمل في واقعنا نزف دما على حال كثير من شبابنا وفتايتنا.. لقد عمل الغرب وأتباعهم على بث ثقافة الاختلاط ورفع الحواجز بين الذكور والإناث، وعملوا على نزع الحياء من فتياتنا، وعملوا على هز قداسة الحجاب عندهن، حتى صار ألعوبة وموضة.. حتى صار أداة لإظهار الجمال بعدما كان أداة لستر الجمال، وكم يتقطع القلب عندما يرى تلك الدورات المختلطة التي تقيمها تلك الجمعيات التغريبية، والتي يغيب فيها الحياء، وترتفع فيها الحواجز بين الرجال والنساء، فالحذرَ الحذرَ عباد الله، ولا يغرنكم حسن شعاراتهم، ولا بريق دنياهم. 
والأمر الثاني الذي يدخل في العفاف: العفاف عما في أيدي الناس، وترك الطلب من الناس والتعرض لهم، وترك التطلع إلى ما في أيديهم من الدنيا، كما قال تعالى: (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا).. لا تقل لماذا فلان عنده كذا وكذا من الدنيا، وأنا ليس عندي، بل كن غني النفس، عالي الهمة.. وهذه هي الخصلة الرابعة المذكورة في هذا الحديث؛ وهي الغنى، والمراد بالغنى هنا غنى النفس، والاستغناء عن الناس، فهذا هو الغنى الحقيقي.. المعنى الأساسي في الغنى هو الاستغناء عن الناس، فمتى استغنى العبد عن الناس، ولم يتطلع إلى ما في أيديهم فهو الغني، وإن كان لا يملك دينارا واحدا، وأي نعمة أعظم من هذه النعمة! وصدق النبي ﷺ عندما قال: «من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا».. فاستعن بالله وتذكر قول النبي ﷺ: «ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله».



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق