الخميس، 17 أغسطس 2017

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ…
عناصر الخطبة: 
  • صفات المحرفين لدين الله من بني إسرائيل.
  • علاج هذا المرض.
  • التحذير من سلوك طريقهم.

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}
آية كريمة من سووة الأعراف، تحدثنا عن بني إسرائيل، وتصف لنا مشهدا من تلك المشاهد الفظيعة التي كان دين الله تعالى يحرف فيها.. هذه الآية جاءت في أواخر آيات كثيرة تتحدث عن بني إسرائيل في سورة الأعراف، تبين طغيانهم، وتصف نفوسهم، وتخبرنا بأفعالهم الشيطانية، وقد سبق هذه الآية قوله تعالى: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا ۖ مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ ۖ وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي أنه ﷻ قد فرق بني إسرائيل في الأرض عقوبة لهم، وأنهم كانوا في ذلك الوقت قسمين ظاهرين: قسم صالح، وقسم دون ذلك، فيهم المقتصد، وفيهم العاصي المتمرد، ثم قال تعالى: (فخلف من بعدهم خلف…) أنه قد جاء بعد ذلك الجيل الذين فيهم الصالح والطالح، خلف آخر لا خير فيهم… ولكن لماذا لم يكن فيهم خير؟ ولماذا غلب الشر عليهم؟ لقد ذكرت لنا الآية الكريمة عدة صفات لأولئك المجرمين الذين حرفوا دين الله تعالى، فالصفة الأولى: جاءت في قوله تعالى: (ورثوا الكتاب) أي ورثوا دراسة التوراة أو الإنجيل، ورثوها عمن سبقهم.. ولكن ماذا فعلوا فيما ورثوه، هل كانوا كالعلماء الصالحين الذين قال النبي ﷺ فيهم: «العلماء ورثة الأنبياء»؟… كلا لم يكونوا مثلهم.. لقد حملوا تلك الكتب، ودرسوا ما فيها، وفهموه وعقلوه.. ثم حرفوه وكتموه وأضلوا الناس لأجل المال وعرض الدنيا الزائل، كما قال تعالى: (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ)، لقد وصفت لنا هذه الجملة حالا عجيبة لنفوس أولئك المجرمين، ولعل في دخولنا إلى تلك النفوس لنفهمها نفعا لنا، حتى لا تخدعنا نفوسنا كما خدعتهم وأمّلتْهم، نفوسُهم.. لقد كتموا دين الله تعالى فلم يبلغوه، وحرفوا نصوص التوراة والإنحيل، وأخذوا الرشاوي عند القضاء بين الناس.. لماذا؟ لأجل المال، لأجل الدنيا، (يأخذون عرض هذا الأدنى)، وهذا فيه بيان أن المال والدينا كان لهما أثر كبير في تحريف دين بني إسرائيل، وأن التحريف كان لإرضاء من كانت الدنيا والمال في أيديهم.. لقد كانوا يفعلون ذلك باستمرار، كما قال: (وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه).. ليست شهوة عابرة، أو نزوة أخذت القليل من دينهم، بل كانت نفوس أولئك الأحبار والرهبان من شر النفوس وأكثرها حرصا على الدنيا، وأكثرها شرها للمال والمناصب.. ولكن في خضم هذه الحرص يبرز شيء عجيب، قد يستغربه من لا يعرف كيف يتسلل الشر إلى النفوس، ولا يعرف كيف يجر الشيطان بني آدم إلى ظلمات العصيان.. في أثناء هذا الوصف يقول الله سبحانه: (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) لقد منَّوْا نفوسهم بالتوبة فيما بعد، كانوا يحرفون الدين ويأخذون المال، ثم يقولون: سوف نتوب، ثم يأتيهم المال مرة أخرى فيحرفون الدين.. وكم نحن بحاجة عباد الله! لنقف مع هذا المشهد.. هل كان في نفوسهم بقايا من خير تحضُّهم على الرجوع والتوبة.. أم أن هذه مرحلة يمر بها من المنحرف أول الأمر إلى أن يستمرئ التحريف فيصير بعد ذلك شيطانا في مسلاخ إنسان.. قد يكون، لكننا نريد هنا أن نعرف أن الشر على اختلاف أنواعه لا يظهر للناس لابسا ثوب الشر، لا يوجد مفسد يقول للناس: أنا مفسد؛ بل يقول أنا مصلح. ولا يوجد داع إلى الكفر يقول أنا داع إلى الكفر؛ بل يقول: أنا داع إلى حقيقة الإيمان. ولا يوجد فاجر يقول: أنا فاجر؛ بل يقول: أنا التقي النقي. وإذا تأملنا في كتاب ربنا وجدنا لذلك أمثلة عدة، فالله تعالى قال عن المنافقين: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون)، وذكر عن المبغضين لتحكيم الشريعة أنهم قالوا: (إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا)، بل إن فرعون -وهو إمام الطغاة وقدوتهم- قال عن موسى: (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)، وهذه طريقة الشيطان وأتباعه في كل حين.. فلا تظنوا عباد الله أن حفلات التحريف التي كان يقيمها بنو إسرائيل كانت بدون ستار ديني، وغطاء من الإيمان والتقوى.. وإن الضلال إذا تمكن من النفس أعماها عن رؤية الحق والهدى، كما قال تعالى: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. أولئك الذين الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه..) أما النفوس الطاهرة فإن الله تعالى يعطيها من النور ما تميز به بين الحق والباطل، وتبصر به نور الحق الساطع.. 
وإذا كانت الإنسان يعرف الحق ويبتعد عنه لأجل الدنيا، فالسبيل إلى رده إلى الحق هو الوعظ والتذكير والتخويف من العذاب.. لقد خُتمت هذه الآية يتذكير علماء بني إسرائيل بالميثاق الذي أُخذ عليهم، (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فيه) وهذا الميثاق هو المذكور في قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون).
ثم ذكّرهم الله سبحانه بأن الدار الآخرة بما فيها من نعيم دائم خير من هذا العرض الزائل الذي حرصوا عليه، وهل يوجد عاقل يفضل الزائل على الدائم (والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون).
وفي قوله تعالى: (خير للذين يتقون) فائدتان عظيمتان: ففيها تعريض بأولئك الأحبار أنهم ليسوا بأتقياء، وفيها بيان للعلاج الجامع لأمراض النفوس والقلوب، وهي التقوى، فالتقوى تمنع هذا الحرص على الدنيا، وتقود العبد إلى السعادة في الدارين ﴿وَلَو أَنَّ أَهلَ الكِتابِ آمَنوا وَاتَّقَوا لَكَفَّرنا عَنهُم سَيِّئَاتِهِم وَلَأَدخَلناهُم جَنّاتِ النَّعيمِ . وَلَو أَنَّهُم أَقامُوا التَّوراةَ وَالإِنجيلَ وَما أُنزِلَ إِلَيهِم مِن رَبِّهِم لَأَكَلوا مِن فَوقِهِم وَمِن تَحتِ أَرجُلِهِم مِنهُم أُمَّةٌ مُقتَصِدَةٌ وَكَثيرٌ مِنهُم ساءَ ما يَعمَلونَ﴾ 
الخطبة الثانية 
هذه القصة التي ذكرها لنا القرآن، وكل قصص القرآن، ليس المراد منها التسلية أو السرد التاريخي للأحداث؛ بل المراد منها أخذ العبرة والموعظة، والمراد منها الحذر من الوقوع فيما وقع فيه أولئك المفسدون لأديان الناس وعقولهم.. ونظرة سريعة بين المسلمين في هذا الزمان سوف ترينا كثيرا من الأشقياء الذين ما رضيت نفوسهم إلا أن تتبع بني إسرائيل حذو القذة بالقذة، ومن ضمن صور هذا الاتباع، اتباعهم في تحريف الدين.. فالمشهد الذي رأيناه هو مشهد يتكرر بكثرة في هذا الزمان، وحتى تعلم هذا فأنت لست بحاجة إلا أن تشاهد وتسمع بعض المنتسبين إلى العلم وتستحضر في ذهنك تلك الحفلات التي كان دين الله يحرف فيها على أيدي الأحبار والرهبان، لقد رضوا بفتات الدنيا فراحوا يفصلون دينا يوافق الغرب وأذنابهم، لقد صرنا نشهد تعديا على ثوابت الإسلام ومسلماته، حتى إنك إذا نظرت نظرة عامة إلى ذلك الدين وجدت معالمه ليست هي معالم الإسلام، فدينهم الذي يريدون ليس فيه ولاء ولا براء، ولا تكفير لليهود والنصارى والملاحدة، ليس فيه تحكيم للشريعة، ليس فيه جهاد، ليس فيه عزة ولا شرف، لا حجاب، ولا وقوامة للرجل على المرأة، مساوة بين الرجل والمرأة في الميراث، وسماح لها بالزواج من الكافر، الخمر والربا عندهم ليس من المحرمات.. إلى غير ذلك من الحريف الظاهر لدين الإسلام.. وكل هذا -كما قدمنا- لا يقدم للناس على أنه تحريف للدين، بل هم يحرصون على إيجاد الغطاء الإسلامي لهذا التحريف، تارة يقولون: هذا تجديد وإصلاح، ولا نريد الجمود على التراث، وتارة يقولون: نريد أن نجعل عقولنا حاكمة على نصوص الوحي، وتارة يقولون: السنة والأحاديث النبوية ليست بحجة، ثم يقولون: دعونا نفسر القرآن كما نشاء، واتركوا أقوال المفسرين.. فكانت النتيجة كما رأينا، سير على خطى بني إسرائيل..
لكن أنى لهم ذلك، إن هذا الدين ليس كالأديان السابقة، إن هذا الدين قادر على الوقوف في وجه كل تلك الحركات المنحرفة، لأن الله تعالى قد تكفل بحفظ هذا الدين، كما قال تعالى: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) وإذا تكفل الله تعالى بنصر هذا الدين فهذا يلزم منه أن سوف يحفظ معالمه ومفاهيمه من التحريف، وقال عليه الصلاة والسلام: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين»

فأمة الإسلام لا ينعدم فيها الخير، ولا يخلو فيها زمان من قائل بالحق، فأولئك الخبث -ولو كثروا- فإنهم إلى زوال، وأمرهم إلى اضمحلال، والله تعالى ناصر دينه، ورافع كلمته..

السبت، 12 أغسطس 2017

هل الجنة للمسلمين فقط؟
سؤال يطرح في وسائل التواصل لتبادل "وجهات النظر" حوله، بل قد رأيت بعض الشاشات التلفزيونية التي تجوب أسواق المسلمين (فقط) باحثة عن جواب لهذا السؤال.
من يسأل هذا السؤال؟
هذا السؤال سؤال يطرحه الليبراليون بهدف هز عقيدة الولاء والبراء عند المسلمين، ويتابعهم طرحه بعض الناس جهلا، وتأثرا بثقافة الغرب.
الأرضية التي يَرِد عليها هذا السؤال
الواقع المؤسف أن مُنشِئي هذا السؤال قد عرفوا في أي مرحلة يطرحون هذا السؤال، فإنهم لطالما روجوا دعوات عدم تكفير اليهود والنصارى، وطالما روجوا "الوجه الإنساني" للغرب، سواء أكان على صعيد الأفراد، أو على صعيد الدول، وطالما هزوا ثقة المسلمين بأنفسهم من خلال عقد مقارنات حضارية وتكنولوجية و"ثقافية" بين المسلمين وبين الغرب، محاولين من خلالها إثبات أن الغرب نموذج فريد من البشر، لا يستطيع الإنسان المسلم أن يرتقي إليه…
ومع انتعالهم بعض من يتمسح بالعلم الشرعي، وأخذ كلام منهم حول عدم تكفير اليهود والنصارى، تحت شعارات التسامح وقبول الآخر، حتى وصل الحال ببعضهم إلى الكف عن وصف مشركي قريش بأنهم كفار، في مشهد يعيد إلى الذهن صورة أحبار ورهبان بني إسرائيل وهم يحرفون دين الله تعالى لأجل الدنيا.
أقول: في ظل هذه الحرب الفكرية، والتي سُبقت واقترنت بالحروب العسكرية، والتي رسخت ضعف عقيدة الولاء والبراء في نفوس الناس.. جاء هذا السؤال المدروس بطريقة نفسية، ليَرِد على نفوس تتردى ما بين الجهل والإحباط والخجل من هذا الدين.
سؤال منسوج بخيوط الإرهاب الفكري.. 
فأقول ابتداء وقبل كل شيء.. أخي المسلم، لا يرهبنك السؤال، وقل بكل ثقة: نعم الجنة للمسلمين فقط.
ما هو الأساس الذي يدخل عليه الإنسان الجنة؟
الإجابة على سؤال: (هل الجنة للمسلمين فقط؟) مبني على هذه المسألة: ما هو الأساس الذي يدخل عليه الإنسان الجنة.
ومن البدهي أن تكون الإجابة: إن الذي يريد أن يدخل الجنة التي خلقها الله تعالى فلا بد أن يكون طائعا له مرضيا له ﷻ.
والأعمال الصالحة التي يمكن أن يقوم بها الإنسان كثيرة جدا، ما بين عبادة، أو إحسان إلى الفقراء والمساكين أو مساعدة الناس.. لكن هل كل عمل مقبول عند الله تعالى؟ وهل نحن نتقرب إلى الله تعالى كما نشاء نحن، أو كما يشاء هو؟
الإجابة الفطرية العقلانية: بل كما يشاء هو سبحانه.
حسنا! إذا كنا نتقرب إليه كما يشاء فإن الله تعالى لا يقبل أي عمل صالح إذا لم يكن أساسه التوحيد، فمهما كثرت الأعمال الصالحة فإنها لا تنفع عند الله تعالى إذا لم يكن صاحبها موحدا لله تعالى، كافرا بكل ما يُعبَد من دونه، متابعا لأنبيائه ورسله.
وهذا الأصل دل عليه الوحي، ودل عليه العقل… أما الوحي فقد أخبرنا الله تعالى أنه لم يقبل نفقات المنافقين بسبب كفرهم، فقال تعالى: (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله ورسوله)، فمع أن النفقة عمل صالح لكن الله تعالى لم يقبلها، ولم يعطهم عليها الثواب لأنهم كفار، ولم يحققوا الأساس الذي تقبل عليه الأعمال..
ومن الأدلة على هذا قوله تعالى: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا)، فجعل عدم الشرك مع وجود العمل الصالح شرطا للعمل الذي ينفع في الآخرة.
وها هو النبي ﷺ يخبر بأن حاتما الطائي المعروف بكرمه وجوده، يخبر أنه من أهل النار، لأنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين.
ويخبر عن عمه أبي طالب أنه من أهل النار، لأنه مات على الكفر؛ مع أنه حمى النبي ﷺ ودافع عنه.. لكنه دافع عنه بدافع الحميّة والقرابة.
وأما العقل فإنك لو كنت صاحب مصنع، وكلفت عاملا عندك بعمل مهم، وقلت له: ابذل جهدك وأريد أن تنجز لي هذا العمل بإتقان.. فذهب هذا العامل وشغل نفسه بعمل آخر، وبذل جهده وتعب فيه، فهل ستقبل منه؟ وهل ستكون مسرورا بما فعل؟
بالتأكيد لا.
وهكذا كل عمل صالح يكون صاحبه كافرا فإنه غير مقبول عند الله تعالى، ولا يثاب صاحبه، ولا يكون سببا لدخوله الجنة.
فالكافر لم يقدر الله حق قدره، ولم يعظمه حق التعظيم، لأن هذا الكافر: 
- إما أن يكون مؤمنا بوجود الله تعالى لكنه يجعل معه آلهة أخرى، كحال اليهود والنصارى ومشركي قريش، بل هذا أكثر شرك الأمم، وكفى بهذا انتقاصا لله تعالى، وقد يزيد بعض الكفار على ذلك فيصفون الله تعالى بالعيوب والنقائص كما فعل اليهود.
- وإما ألا يؤمن بوجود الله تعالى كالملاحدة والدهريين.
فكل هؤلاء لا يقبل الله منهم أي عمل صالح، لأنهم لم يحققوا الأساس الذي تقبل عليه الأعمال كما تقدم.
ولكن هل في هذا ظلم؟
لا ظلم في هذا، ويوضح هذا أمران:
الأول: أن الله تعالى قد طلب منا مطلوبا أساسيا، وأخبرنا أن الأعمال الصالحة لا تقبل بدونه. فمن ترك هذا الأصل، واشتغل بالأعمال الصالحة فإنه لم يأت بالمطلوب منه، فلا يستحق دخول الجنة.
الثاني: أن الله تعالى يجزي هذا الكافر على هذه الأعمال في الدنيا، فيعطيه من المال والصحة والقوة أو الذكر الحسن ما يكون جزاءه وثوابه في هذه الدنيا، أما في الآخرة فلا جنة له.
فما حال الأمم السابقة؟
حال الأمم السابقة جارٍ على هذا الأصل، فمن كان منهم موحدا، متابعا لنبيه في وقته كان مسلما ومن أهل الجنة، وهؤلاء الذين أخبر الله تعالى عنهم بقوله: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
وهذا يقال في كل من كان موجودا قبل بعثة النبي محمد ﷺ، وأما بعد بعثته فلا يقبل عند الله تعالى إلا التوحيد مع اتباع هذا النبي.
لأنه الله تعالى جعل رسالته خاتمة الرسالات، وجعلها ناسخة لما قبلها، كما قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْه)، وقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ. فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
وقال النبي : «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لاَ يَسْمَعُ بِي أحد من هذه الأمة لا يَهُودِيٌّ، وَلاَ نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَّ كانَ مِنْ أَصْحَابِ النار». رواه مسلم
هذا فضلا عن وقوع التحريف في كتب اليهود النصارى، والآيات التي أخبرتنا بهذا التحريف معروفة، منها قوله تعالى: (يحرفون الكلم عن مواضعه).
الأبعاد الحقيقية لهذا السؤال
من خلال بعض الإجابات التي سمعتها فإن بعض الناس كانوا يقولون: إن أهل الديانات السماوية يدخلون الجنة. وبعضهم يقول: كل من يعمل الأعمال الجيدة سوف يدخل الجنة.
لكن إذا رجعنا إلى طبيعة من أنشأ هذا السؤال، هل هذه الإجابات مرضية مقبولة بالنسبة له؟ 
وبمعنى أوضح: هل تتفق هذه الإجابات مع النموذج الغربي الحالي، والذي من أهم مكوناته: حرية العقيدة، وحرية التصرف؟ هل سيقبل منك أن الملحد -مثلا- لن يدخل الجنة؟ 
وبمعنى أقرب: هل وجود الجنة يمثل "فكرة" مقبولة في ظل الحضارة المادية التي لا تؤمن إلا بالمحسوسات، ولا تؤمن بالغيب، بل الغالب عليها الإلحاد؟
وإذا استثنينا أولئك الذين يقلدون غيرهم في طرح هذا السؤال، فنستطيع أن نقول: إن كثيرا من الذين يطرحرن هذا السؤال لا يؤمنون أصلا بالجنة، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. 
وهدفهم هو زعزعة عقيدة المسلم، بضرب هذه المنطقة الحساسة الهشة عند كثير من الناس.
ختاما…
لا أجد مناصا من أن أبين أن هذا "السؤال" ليس مجرد سؤال تُطرح فيه وجهة نظر، وليست هذه المسألة محلا لـ"الاجتهاد"، بل هي مسألة من أساسيات العقيدة، التي لا يصح الإيمان إلا بها، لأنها من المسائل التي نطق بها القرآن بشكل واضح وصريح: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)، (إن الذين عند الله الإسلام).

والحمد لله رب العالمين.

الخميس، 10 أغسطس 2017

شرح حديث «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى»

عناصر الخطبة:
- أهمية الدعاء.
- معنى الهدى والتقى.
- معنى العفاف والغنى.

(وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين)
الدعاء من أهم معالم عبادة الله سبحانه وتعالى، وهو من أهم ما يميز العبد القريب من الله تعالى من العبد البعيد عنه وعن رحمته، وعبادة الله سبحانه مبنية على ركنين عظيمين؛ وهما: المحبة والتعظيم.. محبة الله سبحانه، مع تعظيمه وإجلاله ﷻ.
إذا علمنا هذا عباد الله وعلمنا أن الدعاء هو من أكثر العبادات التي يظهر فيها تعظيم العبد لربه، وخضوعه ومحبته= علمنا أن الدعاء عبادة من أعظم العبادات وأحبها إلى الله تعالى، ولأهمية الدعاء قال النبي ﷺ في ذلك: «الدعاء هو العبادة»… ومن تأمل في قوله تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان) يلحظ فيها معاني القرب والمحبة التي تكون في الدعاء، فإنه تعالى قال في هذه الآية: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب…) فأتى بالجواب مباشرة، ولم يقل: فقل لهم إني قريب، وهذا فيه إشارة إلى معاني القرب والمحبة الموجودة في الدعاء، ثم إن الآية جاء فيها استخدام ضمير المتكلم المفرد في أربع مواضع، وهي: (عبادي)، و(عني)، و(فإني)، و(دعان)، وهذا كله يؤكد أن الله تعالى يحب هذه العبادة، ويحب أن يتقرب عباده إليه بها، وأن يظهروا له سبحانه التذلل والخضوع والمحبة والتقرب.
ولهذا عباد الله! ولأجل الفضائل الكثيرة الواردة في الدعاء فإن النبي ﷺ كان كثير الدعاء لله سبحانه، كثير التذلل له، والأدعية التي كان النبي ﷺ يدعو بها كانت تحمل الكثير من المعاني مع قلة ألفاظها، فهي أدعية جامعة لخيري الدنيا والآخرة، وهي خير ما يدعو به المسلمُ ربَّه ﷻ.
ولنقف وقفة يسيرة مع دعاء عظيم من أدعية النبي ﷺ.. فقد أخرج مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله ﷺ يقول: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى». وقول ابن مسعود رضي الله عنه: (كان رسول الله ﷺ يقول) يدل على أن النبي ﷺ كان يكثر من قول هذا الدعاء، وإذا كان النبي ﷺ يكثر من هذا الدعاء الجليل، وهو الذي صعد إلى أعلى درجات العبودية لله تعالى، وبلغ الغاية في هذه الأمور المذكورة في الحديث فما أحوج العبد المقصر إلى الإكثار من هذا الدعاء واللهَج به.
إن العبد بحاجة دائمة إلى ربه تبارك وتعالى، بحاجة له ليهديه ويسدده إلى الصراط المستقيم، وبحاجة له ليقيم له أمر هذه الدنيا ويسهل عيشه فيها. ومتى ظن العبد أنه قد يستغني عن الله تعالى في لحظة من لحظاته، فقد خاب وخسر، ومتى اعتمد العبد على قوته ولم يستعن بالله تعالى في كل شؤونه فقد وقع في الغفلة، وربما اغتر بالنفس الضعيفة الأمارة بالسوء.
وإذا تأملنا هذا الدعاء العظيم وجدناه جامعا لخير الدنيا والآخرة، مشتملا على ما ينفع العبد في دينه ودنياه، فالهدى والتقى بهما يصلح دين العبد، والعفاف والغنى تستقيم بهما حياته.
أما الهدى فإنه عنوان الفلاح في الأمور الإيمانية الاعتقادية، والهداية تشمل أمرين: الهداية بمعنى التمييز بين الحق والباطل، ومعرفة الصواب من الخطأ، والحلال من الحرام. والأمر الثاني هو الهداية والتوفيق للالتزام بذلك العلم الذي علمه العبد، وذلك بسلوك طريق الحق واجتناب الباطل، وفعل الحلال والبعد عن الحرام. 
ولا يتم أمر الهداية إلا بهذين الأمرين، والعبد محتاج إلى الله سبحانه لتحقيقهما، فكم من الناس من يضل ويعمى عن الصراط المستقيم، لأنه يقدم هواه وميوله الشخصية على تعاليم الدين، فلا يستطيع أن يرى من الدين إلا ما يوافق هواه ورغباته، فهذا لم ير الحق أصلا، وأمثال هؤلاء كثر، وسبل الضلال كثيرة في هذا الزمان وفي كل زمان؛ فمنهم من يرى أن الدين هو ما يوافق عقله فقط، ومنهم من يرى أن الدين هو ما يدل إليه الذوق والوجد، ومنهم من يرى أن الدين هو ما يمليه الظالم، ومنهم من يرى أن الدين لا يتعارض مع اتباع الغرب في العلمانية والكفر.. في صور كثيرة من الهوى، وسبل وطرق كثيرة تصب في مهاوي الردى.
وأما الجانب الآخر من الهداية فهو يتعلق بالتطبيق والفعل، بعد التمييز والتوفيقِ لمعرفة الحق من الباطل، فكم من الناس من يعرف الصواب ثم لا يتبعُه ولا يفعلُه لأنه يقدم مصلحة المال أو الشهوة أو الجاه على اتباع الحق… كم من الناس من يعلم أن الصلاة فرض ولا يصلي، وكم من الناس من يعلم أن الربا حرام ولا يجتنبه… فالعبد مطلوب منه أن يأخذ بأسباب الاستقامة وترك المعصية ثم يستعين بالله تعالى ويعلق قلبه به، ويسأله الهداية، فإن القلوب بين يديه، قال تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين)، وقال: (من يهد الله فهو المهتدي) وهذا لا يعني أن يقيم العبد على المعصية بحجة أن الهداية بيد الله تعالى، فالهداية لها أسباب لا بد للعبد أن يفعلها، وهو محاسب عليها، والله تعالى مسبب الأسباب، يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يشاء بعدله.
ومن أهم هذه الأسباب الجالبة للهداية: التقوى، وهو الأمر الثاني الذي طلبه النبي ﷺ في هذا الدعاء، والتقوى هي: فعل ما أمر الله تعالى به طلبا للثواب، وترك ما نهى عنه خوفا من العقاب، وهي خصلة جامعة للعمل بالدين كله.. قد أمر الله تعالى بها في كتابه في آيات كثيرة، فقال: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا)، (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)، وأمر بها النبي ﷺ، وتسابق الصالحون إلى تحقيقها.. هي المعيار الذي يتفاضل الناس على أساسه، فأكثرهم تقوى أكرمهم عند الله سبحانه، وأقربهم منه منزلة. والتقوى لها درجات كثيرة، فمن الناس من يقتصر على أقل درجاتها فيفعل الواجب، ويترك الحرام، لكنه لا يكثر من النوافل، ومنهم من يفعل الواجب ويكثر من النوافل والمستحبات، ويجتنب الحرام والمكروهات، والناس متفاوتون في تحقيقها تفاوتا شديدا، منهم السابقون، ومنهم المقتصدون، ومنهم الظالم لنفسه.

٢ في تتمة هذا الدعاء الجليل يطلب النبيُّ ﷺ من ربه ﷻ أمرين عظيمين؛ وهما: العفاف والغنى، وإذا كان دين العبد يصلح بالهدى والتقى، فإن الدنيا تستقيم له بالعفاف والغنى.
أما العفاف فهو: التنزه عما لا يباح، والكف عنه. وهو يشمل أمورا كثيرة، من أهمها أمران: أما الأول فهو الكف عما لا يليق مما يخدش الحياء، أو يخدش العرض، أو يدنس الشرف، وهذا يشمل كل ما يمس الحياء، فليس المراد هنا ترك الزنا فقط، بل يدخل في العفاف: البعد عن مواطن الريبة والاختلاط المحرم بين الرجال والنساء، ويدخل فيه محافظة المرأة في حجابها والتزامها بشروطه.. ومن تأمل في واقعنا نزف دما على حال كثير من شبابنا وفتايتنا.. لقد عمل الغرب وأتباعهم على بث ثقافة الاختلاط ورفع الحواجز بين الذكور والإناث، وعملوا على نزع الحياء من فتياتنا، وعملوا على هز قداسة الحجاب عندهن، حتى صار ألعوبة وموضة.. حتى صار أداة لإظهار الجمال بعدما كان أداة لستر الجمال، وكم يتقطع القلب عندما يرى تلك الدورات المختلطة التي تقيمها تلك الجمعيات التغريبية، والتي يغيب فيها الحياء، وترتفع فيها الحواجز بين الرجال والنساء، فالحذرَ الحذرَ عباد الله، ولا يغرنكم حسن شعاراتهم، ولا بريق دنياهم. 
والأمر الثاني الذي يدخل في العفاف: العفاف عما في أيدي الناس، وترك الطلب من الناس والتعرض لهم، وترك التطلع إلى ما في أيديهم من الدنيا، كما قال تعالى: (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا).. لا تقل لماذا فلان عنده كذا وكذا من الدنيا، وأنا ليس عندي، بل كن غني النفس، عالي الهمة.. وهذه هي الخصلة الرابعة المذكورة في هذا الحديث؛ وهي الغنى، والمراد بالغنى هنا غنى النفس، والاستغناء عن الناس، فهذا هو الغنى الحقيقي.. المعنى الأساسي في الغنى هو الاستغناء عن الناس، فمتى استغنى العبد عن الناس، ولم يتطلع إلى ما في أيديهم فهو الغني، وإن كان لا يملك دينارا واحدا، وأي نعمة أعظم من هذه النعمة! وصدق النبي ﷺ عندما قال: «من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا».. فاستعن بالله وتذكر قول النبي ﷺ: «ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله».