فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ…
عناصر الخطبة:
- صفات المحرفين لدين الله من بني إسرائيل.
- علاج هذا المرض.
- التحذير من سلوك طريقهم.
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}
آية كريمة من سووة الأعراف، تحدثنا عن بني إسرائيل، وتصف لنا مشهدا من تلك المشاهد الفظيعة التي كان دين الله تعالى يحرف فيها.. هذه الآية جاءت في أواخر آيات كثيرة تتحدث عن بني إسرائيل في سورة الأعراف، تبين طغيانهم، وتصف نفوسهم، وتخبرنا بأفعالهم الشيطانية، وقد سبق هذه الآية قوله تعالى: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا ۖ مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ ۖ وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي أنه ﷻ قد فرق بني إسرائيل في الأرض عقوبة لهم، وأنهم كانوا في ذلك الوقت قسمين ظاهرين: قسم صالح، وقسم دون ذلك، فيهم المقتصد، وفيهم العاصي المتمرد، ثم قال تعالى: (فخلف من بعدهم خلف…) أنه قد جاء بعد ذلك الجيل الذين فيهم الصالح والطالح، خلف آخر لا خير فيهم… ولكن لماذا لم يكن فيهم خير؟ ولماذا غلب الشر عليهم؟ لقد ذكرت لنا الآية الكريمة عدة صفات لأولئك المجرمين الذين حرفوا دين الله تعالى، فالصفة الأولى: جاءت في قوله تعالى: (ورثوا الكتاب) أي ورثوا دراسة التوراة أو الإنجيل، ورثوها عمن سبقهم.. ولكن ماذا فعلوا فيما ورثوه، هل كانوا كالعلماء الصالحين الذين قال النبي ﷺ فيهم: «العلماء ورثة الأنبياء»؟… كلا لم يكونوا مثلهم.. لقد حملوا تلك الكتب، ودرسوا ما فيها، وفهموه وعقلوه.. ثم حرفوه وكتموه وأضلوا الناس لأجل المال وعرض الدنيا الزائل، كما قال تعالى: (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ)، لقد وصفت لنا هذه الجملة حالا عجيبة لنفوس أولئك المجرمين، ولعل في دخولنا إلى تلك النفوس لنفهمها نفعا لنا، حتى لا تخدعنا نفوسنا كما خدعتهم وأمّلتْهم، نفوسُهم.. لقد كتموا دين الله تعالى فلم يبلغوه، وحرفوا نصوص التوراة والإنحيل، وأخذوا الرشاوي عند القضاء بين الناس.. لماذا؟ لأجل المال، لأجل الدنيا، (يأخذون عرض هذا الأدنى)، وهذا فيه بيان أن المال والدينا كان لهما أثر كبير في تحريف دين بني إسرائيل، وأن التحريف كان لإرضاء من كانت الدنيا والمال في أيديهم.. لقد كانوا يفعلون ذلك باستمرار، كما قال: (وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه).. ليست شهوة عابرة، أو نزوة أخذت القليل من دينهم، بل كانت نفوس أولئك الأحبار والرهبان من شر النفوس وأكثرها حرصا على الدنيا، وأكثرها شرها للمال والمناصب.. ولكن في خضم هذه الحرص يبرز شيء عجيب، قد يستغربه من لا يعرف كيف يتسلل الشر إلى النفوس، ولا يعرف كيف يجر الشيطان بني آدم إلى ظلمات العصيان.. في أثناء هذا الوصف يقول الله سبحانه: (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) لقد منَّوْا نفوسهم بالتوبة فيما بعد، كانوا يحرفون الدين ويأخذون المال، ثم يقولون: سوف نتوب، ثم يأتيهم المال مرة أخرى فيحرفون الدين.. وكم نحن بحاجة عباد الله! لنقف مع هذا المشهد.. هل كان في نفوسهم بقايا من خير تحضُّهم على الرجوع والتوبة.. أم أن هذه مرحلة يمر بها من المنحرف أول الأمر إلى أن يستمرئ التحريف فيصير بعد ذلك شيطانا في مسلاخ إنسان.. قد يكون، لكننا نريد هنا أن نعرف أن الشر على اختلاف أنواعه لا يظهر للناس لابسا ثوب الشر، لا يوجد مفسد يقول للناس: أنا مفسد؛ بل يقول أنا مصلح. ولا يوجد داع إلى الكفر يقول أنا داع إلى الكفر؛ بل يقول: أنا داع إلى حقيقة الإيمان. ولا يوجد فاجر يقول: أنا فاجر؛ بل يقول: أنا التقي النقي. وإذا تأملنا في كتاب ربنا وجدنا لذلك أمثلة عدة، فالله تعالى قال عن المنافقين: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون)، وذكر عن المبغضين لتحكيم الشريعة أنهم قالوا: (إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا)، بل إن فرعون -وهو إمام الطغاة وقدوتهم- قال عن موسى: (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)، وهذه طريقة الشيطان وأتباعه في كل حين.. فلا تظنوا عباد الله أن حفلات التحريف التي كان يقيمها بنو إسرائيل كانت بدون ستار ديني، وغطاء من الإيمان والتقوى.. وإن الضلال إذا تمكن من النفس أعماها عن رؤية الحق والهدى، كما قال تعالى: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. أولئك الذين الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه..) أما النفوس الطاهرة فإن الله تعالى يعطيها من النور ما تميز به بين الحق والباطل، وتبصر به نور الحق الساطع..
وإذا كانت الإنسان يعرف الحق ويبتعد عنه لأجل الدنيا، فالسبيل إلى رده إلى الحق هو الوعظ والتذكير والتخويف من العذاب.. لقد خُتمت هذه الآية يتذكير علماء بني إسرائيل بالميثاق الذي أُخذ عليهم، (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فيه) وهذا الميثاق هو المذكور في قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون).
ثم ذكّرهم الله سبحانه بأن الدار الآخرة بما فيها من نعيم دائم خير من هذا العرض الزائل الذي حرصوا عليه، وهل يوجد عاقل يفضل الزائل على الدائم (والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون).
وفي قوله تعالى: (خير للذين يتقون) فائدتان عظيمتان: ففيها تعريض بأولئك الأحبار أنهم ليسوا بأتقياء، وفيها بيان للعلاج الجامع لأمراض النفوس والقلوب، وهي التقوى، فالتقوى تمنع هذا الحرص على الدنيا، وتقود العبد إلى السعادة في الدارين ﴿وَلَو أَنَّ أَهلَ الكِتابِ آمَنوا وَاتَّقَوا لَكَفَّرنا عَنهُم سَيِّئَاتِهِم وَلَأَدخَلناهُم جَنّاتِ النَّعيمِ . وَلَو أَنَّهُم أَقامُوا التَّوراةَ وَالإِنجيلَ وَما أُنزِلَ إِلَيهِم مِن رَبِّهِم لَأَكَلوا مِن فَوقِهِم وَمِن تَحتِ أَرجُلِهِم مِنهُم أُمَّةٌ مُقتَصِدَةٌ وَكَثيرٌ مِنهُم ساءَ ما يَعمَلونَ﴾
الخطبة الثانية
هذه القصة التي ذكرها لنا القرآن، وكل قصص القرآن، ليس المراد منها التسلية أو السرد التاريخي للأحداث؛ بل المراد منها أخذ العبرة والموعظة، والمراد منها الحذر من الوقوع فيما وقع فيه أولئك المفسدون لأديان الناس وعقولهم.. ونظرة سريعة بين المسلمين في هذا الزمان سوف ترينا كثيرا من الأشقياء الذين ما رضيت نفوسهم إلا أن تتبع بني إسرائيل حذو القذة بالقذة، ومن ضمن صور هذا الاتباع، اتباعهم في تحريف الدين.. فالمشهد الذي رأيناه هو مشهد يتكرر بكثرة في هذا الزمان، وحتى تعلم هذا فأنت لست بحاجة إلا أن تشاهد وتسمع بعض المنتسبين إلى العلم وتستحضر في ذهنك تلك الحفلات التي كان دين الله يحرف فيها على أيدي الأحبار والرهبان، لقد رضوا بفتات الدنيا فراحوا يفصلون دينا يوافق الغرب وأذنابهم، لقد صرنا نشهد تعديا على ثوابت الإسلام ومسلماته، حتى إنك إذا نظرت نظرة عامة إلى ذلك الدين وجدت معالمه ليست هي معالم الإسلام، فدينهم الذي يريدون ليس فيه ولاء ولا براء، ولا تكفير لليهود والنصارى والملاحدة، ليس فيه تحكيم للشريعة، ليس فيه جهاد، ليس فيه عزة ولا شرف، لا حجاب، ولا وقوامة للرجل على المرأة، مساوة بين الرجل والمرأة في الميراث، وسماح لها بالزواج من الكافر، الخمر والربا عندهم ليس من المحرمات.. إلى غير ذلك من الحريف الظاهر لدين الإسلام.. وكل هذا -كما قدمنا- لا يقدم للناس على أنه تحريف للدين، بل هم يحرصون على إيجاد الغطاء الإسلامي لهذا التحريف، تارة يقولون: هذا تجديد وإصلاح، ولا نريد الجمود على التراث، وتارة يقولون: نريد أن نجعل عقولنا حاكمة على نصوص الوحي، وتارة يقولون: السنة والأحاديث النبوية ليست بحجة، ثم يقولون: دعونا نفسر القرآن كما نشاء، واتركوا أقوال المفسرين.. فكانت النتيجة كما رأينا، سير على خطى بني إسرائيل..
لكن أنى لهم ذلك، إن هذا الدين ليس كالأديان السابقة، إن هذا الدين قادر على الوقوف في وجه كل تلك الحركات المنحرفة، لأن الله تعالى قد تكفل بحفظ هذا الدين، كما قال تعالى: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) وإذا تكفل الله تعالى بنصر هذا الدين فهذا يلزم منه أن سوف يحفظ معالمه ومفاهيمه من التحريف، وقال عليه الصلاة والسلام: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين».
فأمة الإسلام لا ينعدم فيها الخير، ولا يخلو فيها زمان من قائل بالحق، فأولئك الخبث -ولو كثروا- فإنهم إلى زوال، وأمرهم إلى اضمحلال، والله تعالى ناصر دينه، ورافع كلمته..