الخميس، 26 يناير 2017

الاستقامة

عناصر الخطبة:
  • الأمر بالاستقامة، وتعريفُها.
  • ثلاث معالم من معالم الاستقامة.
  • بين الاستقامة والحرية.

روى مسلم عن أبي عمرو سفيان بن عبد الله الثقفي، رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدا غيرك، قال: «قل آمنت بالله، ثم استقم».
في هذا الحديث -قليل الكلمات، عظيم المعنى-، صحابي جليل يسأل رسول الله ﷺ سؤالا قد يبدو غريبا للوهلة الأولى، لقد طلب من النبي ﷺ أن يدله على شيء يعمل به في الدين، سأله عن شيء يستمر عليه ولا يلتفت إلى غيره.. لقد كان هذا الصحابي الجليل قادما مع وفد إلى النبي ﷺ، ولحرصه على الخير ولضيق الوقت سأل النبي ﷺ هذا السؤال، فأجابه عليه الصلاة والسلام بجواب جامع، يشمل الإيمان والعقيدة، ويشمل الأعمال الصالحة، ويشمل الطريقة التي ينبغي أن يسير عليها في حياته، أخذ هذا الرجل الكلمة وذهب، ورواها لمن بعده حتى وصلت لنا، فكانت نورا يهتدي به كل من سلك طريق الهداية عبر السنين.
الاستقامة هي سلوك طريق الإسلام، من غير ميل عنه يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات، وترك المنكرات، من غير غلو ولا تقصير، مع الثبات على ذلك.
ولنقف مع هذا الحديث وقفة محاولين من خلاله أن نرى أهم معالم الاستقامة، التي أمرنا الله سبحانه بها، وأمرنا بها نبيُّه عليه الصلاة والسلام.
فأول معالم هذه الاستقامة هو الإيمان بالله، والذي بدأ النبي ﷺ به، والإيمان هو القاعدة التي تتأسس عليها الاستقامة، ولا يمكن للعبد أن يستقيم إلا إذا آمن بالله حقا.
وقوله عليه الصلاة والسلام: «قل آمنت بالله» يشمل كل أبواب العقيدة التي يجب على المسلم معرفتها، من توحيد الله سبحانه وإفراده بالعبادة، والإيمان بالملائكة والرسل والكتب واليوم الآخر والقدر… على العبد أن يؤمن بها إيمانا راسخا لا يتزحزح، وذلك لأن الاستقامة والثبات على الأعمال الصالحة لا يمكن أن يحصل إلا إذا كان عند المسلم إيمان قوي، وعقيدة راسخة، ويقين بأن دين الإسلام هو الدين الحق، وأن ما سواه باطل.
والذي ينظر في حال كثير من الناس في هذا الزمان، وبخاصة الشباب منهم، فإنه يلاحظ أن من أهم أسباب انصرافهم عن الطاعة هو عدم قوة الإيمان، وكيف لا يكون ذلك؟ ونحن نعيش في زمن مليء بالشهوات، مليء بالشبهات والأفكار المسمومة، وإذا كانت الاستقامة غير ممكنة بدون قوة الإيمان في زمن النبي ﷺ، فكيف بهذا الزمان الذي انتشرت فيه الأفكار التي تشكك في أصول الإيمان، من الإيمان بالله والرسالات، ونبوة سيدنا محمد على وجه الخصوص.. أفكار تشكك في سنته عليه الصلاة والسلام، وتشكك في ثوابت الإسلام، وهذه أفكار موجودة منتشرة في هذا الزمان، يستطيع أي طالب للشر أن يصل إليها بسهولة، وقد تدخل عليه هي من غير استئذان بواسطة وسائل التواصل، والذي يزيد الأمر سوءا وبلاء أن هذه الأفكار تدخل في أغلب الأحيان على نفوس لم تتحصن ضد هذه الأفكار، بل لا يوجد عندها ثقافة إسلامية كافية، بل لا يوجد عندها حتى ثقة واعتزاز بهذا الدين ورموزه، فإذا وردت هذه الشبهات على نفسية مهزومة غير مثقفة بثقافة الإسلام تمكنت منها وحرفتها عن الاستقامة، بل ربما عن الإسلام كله. 
المعلم الثاني من معالم هذه الاستقامة: هو عدم الالتفات إلى غير الوحي مصدرا لأخذ الدين، وهذا قد يؤخذ من قول الرجل: قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك. وهذا معلم مهم من معالم الاستقامة، فأصول الدين وثوابته واضحة جلية، لا تتغير ولا تتبدل عبر السنين، فمن ظن في نفسه نباهة وذكاء وراح يحرف ثوابت الدين بدعوى التجديد ومواكبة العصر، فأنكر الحدود مثلا، أو أنكر الحجاب، فليحتفظ بذكائه لنفسه، أو ليستعمل نباهته فيما ينفع المسلمين.
ومن أهم معالم الاستقامة كذلك: عدم الانحراف عن الطريق، وهذا يؤخذ من لفظ الاستقامة نفسه، وقد صرح به القرآن في قوله تعالى للنبي ﷺ: (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا)، والانحراف يكون بأحد أمرين: إما بالتفريط والتساهل، وإما بالإفراط والتشدد، ولا يبالي الشيطان بأيهما ظفر من العبد، أما التساهل فيكون بترك الواجبات أو فعل المحرمات، وأما الإفراط والتشدد فيكون بتحميل النفس ما لا تطيق من العبادة، بحيث يشق عليها الاستمرار، وهذا له آثار سيئة على الاستقامة، فالعبد مهما شدد على نفسه فإنه لن يبلغ مراده، قال النبي ﷺ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا»، وكذلك فإن العبد إذا حمل الإنسان نفسه من العبادة ما لا يحتمل فإنه قد يؤدي به إلى ترك العبادة، وقد جاء في الحديث «إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تُبَغِّض إلى نفسك عبادة الله».
ولذلك فإن الله تعالى قال في الآية: (فاستقم كما أمرت) أي: كما أمرك الله تعالى، فالاستقامة ليست تابعة للأهواء الشخصية، ولا للذوق، ولا لما يحبه الإنسان، بل هي تابعة لأوامر الله تعالى، ولو ترك الله تعالى الاستقامة لأهواء الناس، كل يستقيم بالطريقة التي يحبها لفسد الدين، ونحن نرى في هذا الزمان كثرة الدعاوى، فترى صاحب الطبع المتساهل يريد دينا يناسب تساهله وتفريطه، وترى صاحب الطبع الشديد يريد دينا يوافق شدته وغلظته، والدين بريء من الطرفين، فعلى العبد أن يوطن نفسه، ويخالف هواه وما يحب لأجل أمر الله سبحانه، وهذا هو المؤمن حقا. 
(إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعلمون)

الخطبة الثانية
في هذا الزمان الذي طغت فيه المفاهيم العلمانية والغربية عند كثير من الناس، يرى البعض بأن مفهوم الاستقامة فيه تقييد لما يسمونه بالحرية الشخصية، لأنه يمنع الإنسان عن بعض رغباته؛ والحق أن هذا الفهم ناشيء عن عدم فهم لطبيعة دين الإسلام، وعن غفلة عن طبيعة البشر، أما دين الإسلام فإنه مبني على العبودية لله سبحانه، وعلى الخضوع التام لأوامره، فإذا آمن الإنسان بأن الله تعالى هو الذي خلق الخلق وحده، وأنه دبّر أمور الخلق بمن فيهم البشر، وإذا آمن بأنه يجب عليه أن يخضع لله سبحانه، فإن من الأمور المتحتمة عليه أن يخضع جميع تصرفاته لهذا الخالق، فيفعل ما يأمر به، ويترك ما ينهى عنه، وهذه نتيجة طبيعية للإيمان، ولا يصح إيمان عبد يزعم أنه يُؤْمِن بالله ثم يقول: لا أريد أن ألتزم برسالته للبشر، ومن جهة أخرى فإن سعادة العبد لا تكون إلا بالخضوع لخالقه، ولا يجد راحة إلا في كونه عبدا لله سبحانه، ذلك لأن الإنسان فيه ضعف وحاجة وفقر لا ينفك عنه، وطبيعته وفطرته تملي عليه أن يتعلق ويخضع لشيء أعظم منه، فإذا خضع وتعلق بالله فاز في الدنيا والآخرة، وإن لم يتعلق بالله تعلق بشيء آخر ولا بد، وذلك لما جُبل عليه من حب الكمال والتعلق به، قال ابن القيم رحمه الله: "لا سبيل إلى السعادة و الفلاح في الدنيا و الآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب من الخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا ينال رضى الله البتة إلا على أيديهم، فالطيب من الأعمال والأقوال
والأخلاق ليس إلا هديهم، وما جاؤوا به فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها والروح إلى حياتها". 
عباد الله! إن قوما لم يفهموا هذا الأمر، فظنوا أن تمردهم على أوامر الله يجلب لهم السعادة، وظنوا أنه باستطاعتهم أن يكونوا مؤمنين بالله مع كونهم لا يسلّمون لأمر الله ولا يخضعون لشرعه، وقد رد الله تعالى على هؤلاء، وجعل إيمانهم مجرد زعم لا حقيقة له، فقال: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا. وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا). 
لقد ظنوا أن الشريعة أغلال وآصار، وأنهم إن تخلصوا منها فإنهم سيكونون أحرارا، لقد ظنوا أن الحرية تكون بالكفر بالله سبحانه، وبنشر الإلحاد بين الناس، وبإشاعة الفواحش بينهم، لقد ظنوا هذا، لكنهم لما تحرروا بزعمهم من العبودية لله صاروا عبيدا لغيره، فبعضهم صار عبدا لنفسه وهواه، وبعضهم صار عبدا لمن يقلده ويتبعه ويقتدي به في الباطل، وبعضهم صار عبدا للشيطان، ورحم الله ابن القيم لما قال:
هربوا من الرق الذي خلقوا له  فبُلوا برق النفس والشيطان









ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق