خطر الإعراض عن ذكر الله
عناصر الخطبة:
- قصة آدم ونزوله إلى الأرض.
- الطريق الحقيقي للسعادة.
- حضارة الغرب.
- أهمية تحصين المجتمع المسلم من الأفكار الهدامة.
(ومن أعرض عن ذكري فإن له معشية ضنكا. ونحشره يوم القيامة أعمى)
هذه الآية الكريمة هي جزء من قصة تخص كل إنسان على هذه الأرض، إنها قصة نزول آدم عليه السلام من الجنة إلى هذه الأرض.. بعدما خلق الله تعالى آدم -فسواه وأحسن خلقه وفضّله وعلّمه- أمره ألا يقرب شجرة معينة في الجنة، ابتلاء له وامتحانا، فما كان من الشيطان إلا أن وسوس لآدم، فأغراه بالوعود الكاذبة، ومَنَّاه بالأماني إذا هو أكل من تلك الشجرة، كما قال تعالى حاكيا لنا كلام الشيطان لآدم: (وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين)، إنها طريقة الشيطان في إغواء ابن آدم، والتي استمر حدوثها فيما بعد.. ولما كان من طبيعة البشر النسيان والغفلة أطاع آدم الشيطان راغبا في الخير الذي وعده به إبليس، فأكل من الشجرة، وعصى ربه وغوى، ثم تاب الله عليه وهداه، ولكن أمره بأن ينزل إلى الأرض، أمره بأن يفارق دار النعيم المقيم إلى حين، أنزله إلى الأرض ويسر أمور العيش فيها، وجعلها ممهدة مستقرة صالحة للعيش.. لكن الله سبحانه كان رحيما رؤوفا بعباده، فإنه لما قضى بأن يسكنوا هذه الأرض إلى حين لم يتركهم هملا، بل أرسل إليهم رسلا وأنزل إليهم كتبا، تدلهم على الطريق القويم، وتهديهم إلى الصراط المستقيم، لأن الله تعالى يعلم أن النفس البشرية قد طبعت على الغفلة والنسيان والظلم -إلا من زكى نفسه-، ولأن الله تعالى يعلم أن الشيطان لم يفتر عن الوسوسة ومحاولة إضلال ابن آدم… لقد جعل الله تعالى هذه الدار مكانا للتكليف والامتحان والاختبار، فمن لزم أمر الله تعالى وتمسك بالهدى الذي نزلت به الكتب وأرسلت به الرسل، كان سعيدا في حياته على هذه الأرض، فائزا رابحا في الآخرة، وأما من عصى واتبع الشيطان وخالف الرسل، فقد توعّده الله تعالى بعقوبتين: أحدهما: أن تكون معشيته على هذه الأرض ضنكا، لا طمأنينة فيها ولا انشراح صدر، صدره ضيق ولو تنعم، ولو أكل وشرب وعمّر الدور وجمع الأموال، يضيق بنفسه وتضيق به نفسه حتى لا يجد لذلك مخرجا، وأما العقوبة الثانية: فهي العذاب في الآخرة، يحشر هذا المعرض أعمى يوم القيامة، جزاء لتعاميه عن الحق والهدى في الدنيا… لقد جمعت الآيات كل هذه المعاني بأوجز عبارة، وأبلغ إشارة حيث قال الله تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فإن له معشية ضنكا. ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى. وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى).
عباد الله! إن أبرز خطر على الإنسان في هذه الدنيا إذا أعرض عن العمل بالإسلام والتزام أوامر الله: هو أنه سيحيى حياة تعسية ضيقة، ولو توفرت له كل متع الدنيا وشهواتها، وهذا كتاب الله ناطق بذلك، والواقع يشهد، فكم من الناس لا تنفعه كل أمواله لتوفر له استقرارا وراحةً نفسية، كم من الأغنياء بنتحرون في الغرب، ألم توفر لهم المراكب الوثيرة والمباني العالية الجميلة، والخضرة اليانعة، والمياه الجارية، ألم توفر لهم تلك السعادة التي يجدها ذلك الفقير المسلم الذي يجلس بين عياله على قوت قليل.. إنه معنى لا يفهمه إلا من فهم الآيات السابقة.
عباد الله! إن الطريق الصحيحة التي تجلب السعادة في الدنيا لا تكون إلا بالاستقامة على أمر الله سبحانه، ثم بالأخذ بالأسباب الدنيوية الموصلة إلى ما ينفع الناس، وذلك بتعلم العلوم الدنيوية، والإتقان في العمل، والصبر حتى نبلغ الغاية.. ولقد أخذ المسلمون بذلك دهرا من الزمن فدانت لهم الدنيا، وبلغوا تقدما علميا كبيرا.
وفي هذا العصر، وبسبب الهزيمة النفسية التي لحقت بكثير من المسلمين، ينبهر كثير من الناس بما عند الغرب من تقدم علمي… نعم نحن لا نشكك في ذلك التقدم، لكن ينبغي على المسلم إذا رأى ذلك التقدم العلمي أن يضع في اعتباره أمرين: أن ينظر إلى النواحي السلبية الأخرى عندهم وهي كثيرة، وأن يعلم أن مجرد التقدم العلمي ليس ممدوحا إذا كان قائما على الكفر بالله سبحانه.. إن الأمم الغابرة التي حدثنا القرآن عنها كانت أمما عظيمة في مقاييس الدنيا، بنت المدن وأعلت الأسوار وطافت البلاد.. لقد نحتت ثمود بيوتها في الجبال، وطافت عاد البلاد، وطغى فرعون وكون قوة عسكرية قوية… فهل نفعهم ذلك مع كفرهم… ما كان تقدمهم إلا سببا في زوالهم.
أما صور النقص والتقصير عند الغرب فكثيرة، سببها وأساسها أنهم ظنوا أن بإمكانهم أن يقودوا البشرية إلى السعادة دون الحاجة إلى الوحي المنزل من عند الله، فراحوا يسنون القوانين والتشريعات بما يناسب عقولهم بكل ما فيها من كبر وغرور وشهوات، فأفرز ذلك شيئا من التقدم الدنيوي الذي يغر بريقه بعض الناس… لكن تحت ذلك البريق عوامل وأسباب كفيلة بأن تدمر أي مجتمع ولو بعد حين، فانتشار الربا وأكل مال الناس بالباطل من أعظم صور الظلم، والظلم وجوده كفيل بأن يدمر أي أمة ولو كانت قوية، وانتشار الزنا والانشغال بالشهوات كفيل بتدمير النفوس وتشويهها، وانتشارُ التبرج وعدم ستر النساء قادهم إلى ظلم المرأة وجعلِها أداة للترويج للسلع، ووسيلة للتسلية والترفيه… نسب اغتصاب لا يمكن حصرها، مع عجز ظاهر عن معالجة هذه المشكلة.. إنهم يكتفون برفع شعار حقوق المرأة… وأما ما عندهم من تفكك اجتماعي فلا تسل عنه، لا الوالد يعرف ابنه، ولا الابن يعرف أباه… لقد حاولوا أن يصلوا إلى السعادة فأعلوا المباني، وجملوا الحدائق، فما ازدادت نفوسهم إلا ضيقا وتعاسة، فزادت نسب الانتحار عندهم كثيرا… لا تتعجب.. فعندما تفتن النفس بحب الدنيا وتخلو من الديانة ومراقبة الله تعالى فإنها سوف تتبع هواها، وبناء على هواها سوف تقرر ما تتبناه من عقيدة وفكر، ثم تشد ذلك البنيان وتقويه وكأنه فكر ناضج نافع للبشرية، وهذا هو الضلال بعينه، فتنظيم أمور الحياة بكل تفاصيلها يحتاج إلى علم تام، يحتاج إلى تجرد عن الرغبات الشخصية، وأنى لابن آدم أن يتجرد عن هواه! ومن أين له العلم التام بالتفاصيل، وبالحاضر والمستقبل!
(أفحكم الجاهلية يبغون. ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون)
الثانية
في هذه الدنيا.. ما أكثر من يحاول الإصلاح فيفسد أكثر مما يصلح، يحاول التقدم بتقليد غيره، لكنه لا يحسن التقليد، ولا يريد أن يبقى على ما كان عليه، فلا هو بلغ التقدم الحضاري، ولا هو بقي على ما كان عليه، وهذا هو حال العلمانيين العرب، إنهم لم يفهموا من حضارة الغرب إلا أن الغربيين تركوا دينهم، وجعلوا النساء تتبرج، لم يفهموا من حضارة الغرب إلا أنهم شربوا الخمور وأنشاؤوا بيوت الدعارة، ونسوا الأمور التي تتعلق بالعلم لأنها أمور صعبة وتحتاج إلى وقت، وكان هذا هو ملخص رؤيتهم للسعادة، فتركوا الدين وحرفوه، ودعوا إلى تحرير المرأة من الحجاب والدين، وباعوا الخمور ونشروا الرذيلة، ثم أجاعوا الناس وظلموهم ودمروا البلاد الإسلامية، ثم وقفوا وقالوا: هذه هي الحضارة، وهذا هو التقدم، فلم يفلحوا في الدنيا، ولم يسلم لهم دينهم… وهذا كله أثر من آثار الهزيمة النفسية والجهل الذي يعشيه أولئك الناس… والخلاص والنجاة مما نحن فيه عباد الله! أن نعتصم بدين الله وأن نتمسك به في ظل الهجمات الشرسة التي يتعرض لها الإسلام، وبخاصة الحروب الثقافية والفكرية التي تهدف إلى تغيير وتحريف مفاهيم الإسلام الأساسية لتوافق حضارة الغرب، وعلينا أن ننتبه إلى أبنائنا بشكل خاص، فإنهم هم أمل هذه الأمة في المستقبل، فلنربهم على أصول هذا الدين الصحيح، فلنربهم على العزة والكرامة.. على الاعتزاز بتاريخ أمة الإسلام.. عرفوهم -بأنفسكم- على أبطال الإسلام المجاهدين، وعلى الصحابة الفاتحين، بثوا فيهم الثقة بدينهم.. حصنوهم ضد الأفكار الهدامة.. لعل الله يكتب النصر على أيدهم.