الخميس، 22 سبتمبر 2016

خطر الإعراض عن ذكر الله

عناصر الخطبة:
- قصة آدم ونزوله إلى الأرض.
- الطريق الحقيقي للسعادة.
- حضارة الغرب.
- أهمية تحصين المجتمع المسلم من الأفكار الهدامة.


(ومن أعرض عن ذكري فإن له معشية ضنكا. ونحشره يوم القيامة أعمى)
هذه الآية الكريمة هي جزء من قصة تخص كل إنسان على هذه الأرض، إنها قصة نزول آدم عليه السلام من الجنة إلى هذه الأرض.. بعدما خلق الله تعالى آدم -فسواه وأحسن خلقه وفضّله وعلّمه- أمره ألا يقرب شجرة معينة في الجنة، ابتلاء له وامتحانا، فما كان من الشيطان إلا أن وسوس لآدم، فأغراه بالوعود الكاذبة، ومَنَّاه بالأماني إذا هو أكل من تلك الشجرة، كما قال تعالى حاكيا لنا كلام الشيطان لآدم: (وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين)، إنها طريقة الشيطان في إغواء ابن آدم، والتي استمر حدوثها فيما بعد.. ولما كان من طبيعة البشر النسيان والغفلة أطاع آدم الشيطان راغبا في الخير الذي وعده به إبليس، فأكل من الشجرة، وعصى ربه وغوى، ثم تاب الله عليه وهداه، ولكن أمره بأن ينزل إلى الأرض، أمره بأن يفارق دار النعيم المقيم إلى حين، أنزله إلى الأرض ويسر أمور العيش فيها، وجعلها ممهدة مستقرة صالحة للعيش.. لكن الله سبحانه كان رحيما رؤوفا بعباده، فإنه لما قضى بأن يسكنوا هذه الأرض إلى حين لم يتركهم هملا، بل أرسل إليهم رسلا وأنزل إليهم كتبا، تدلهم على الطريق القويم، وتهديهم إلى الصراط المستقيم، لأن الله تعالى يعلم أن النفس البشرية قد طبعت على الغفلة والنسيان والظلم -إلا من زكى نفسه-، ولأن الله تعالى يعلم أن الشيطان لم يفتر عن الوسوسة ومحاولة إضلال ابن آدم… لقد جعل الله تعالى هذه الدار مكانا للتكليف والامتحان والاختبار، فمن لزم أمر الله تعالى وتمسك بالهدى الذي نزلت به الكتب وأرسلت به الرسل، كان سعيدا في حياته على هذه الأرض، فائزا رابحا في الآخرة، وأما من عصى واتبع الشيطان وخالف الرسل، فقد توعّده الله تعالى بعقوبتين: أحدهما: أن تكون معشيته على هذه الأرض ضنكا، لا طمأنينة فيها ولا انشراح صدر، صدره ضيق ولو تنعم، ولو أكل وشرب وعمّر الدور وجمع الأموال، يضيق بنفسه وتضيق به نفسه حتى لا يجد لذلك مخرجا، وأما العقوبة الثانية: فهي العذاب في الآخرة، يحشر هذا المعرض أعمى يوم القيامة، جزاء لتعاميه عن الحق والهدى في الدنيا… لقد جمعت الآيات كل هذه المعاني بأوجز عبارة، وأبلغ إشارة حيث قال الله تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فإن له معشية ضنكا. ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى. وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى).
عباد الله! إن أبرز خطر على الإنسان في هذه الدنيا إذا أعرض عن العمل بالإسلام والتزام أوامر الله: هو أنه سيحيى حياة تعسية ضيقة، ولو توفرت له كل متع الدنيا وشهواتها، وهذا كتاب الله ناطق بذلك، والواقع يشهد، فكم من الناس لا تنفعه كل أمواله لتوفر له استقرارا وراحةً نفسية، كم من الأغنياء بنتحرون في الغرب، ألم توفر لهم المراكب الوثيرة والمباني العالية الجميلة، والخضرة اليانعة، والمياه الجارية، ألم توفر لهم تلك السعادة التي يجدها ذلك الفقير المسلم الذي يجلس بين عياله على قوت قليل.. إنه معنى لا يفهمه إلا من فهم الآيات السابقة.
عباد الله! إن الطريق الصحيحة التي تجلب السعادة في الدنيا لا تكون إلا بالاستقامة على أمر الله سبحانه، ثم بالأخذ بالأسباب الدنيوية الموصلة إلى ما ينفع الناس، وذلك بتعلم العلوم الدنيوية، والإتقان في العمل، والصبر حتى نبلغ الغاية.. ولقد أخذ المسلمون بذلك دهرا من الزمن فدانت لهم الدنيا، وبلغوا تقدما علميا كبيرا.
وفي هذا العصر، وبسبب الهزيمة النفسية التي لحقت بكثير من المسلمين، ينبهر كثير من الناس بما عند الغرب من تقدم علمي… نعم نحن لا  نشكك في ذلك التقدم، لكن ينبغي على المسلم إذا رأى ذلك التقدم العلمي أن يضع في اعتباره أمرين: أن ينظر إلى النواحي السلبية الأخرى عندهم وهي كثيرة، وأن يعلم أن مجرد التقدم العلمي ليس ممدوحا إذا كان قائما على الكفر بالله سبحانه.. إن الأمم الغابرة التي حدثنا القرآن عنها كانت أمما عظيمة في مقاييس الدنيا، بنت المدن وأعلت الأسوار وطافت البلاد.. لقد نحتت ثمود بيوتها في الجبال، وطافت عاد البلاد، وطغى فرعون وكون قوة عسكرية قوية… فهل نفعهم ذلك مع كفرهم… ما كان تقدمهم إلا سببا في زوالهم.
أما صور النقص والتقصير عند الغرب فكثيرة، سببها وأساسها أنهم ظنوا أن بإمكانهم أن يقودوا البشرية إلى السعادة دون الحاجة إلى الوحي المنزل من عند الله، فراحوا يسنون القوانين والتشريعات بما يناسب عقولهم بكل ما فيها من كبر وغرور وشهوات، فأفرز ذلك شيئا من التقدم الدنيوي الذي يغر بريقه بعض الناس… لكن تحت ذلك البريق عوامل وأسباب كفيلة بأن تدمر أي مجتمع ولو بعد حين، فانتشار الربا وأكل مال الناس بالباطل من أعظم صور الظلم، والظلم وجوده كفيل بأن يدمر أي أمة ولو كانت قوية، وانتشار الزنا والانشغال بالشهوات كفيل بتدمير النفوس وتشويهها، وانتشارُ التبرج وعدم ستر النساء قادهم إلى ظلم المرأة وجعلِها أداة للترويج للسلع، ووسيلة للتسلية والترفيه… نسب اغتصاب لا يمكن حصرها، مع عجز ظاهر عن معالجة هذه المشكلة.. إنهم يكتفون برفع شعار حقوق المرأة… وأما ما عندهم من تفكك اجتماعي فلا تسل عنه، لا الوالد يعرف ابنه، ولا الابن يعرف أباه… لقد حاولوا أن يصلوا إلى السعادة فأعلوا المباني، وجملوا الحدائق، فما ازدادت نفوسهم إلا ضيقا وتعاسة، فزادت نسب الانتحار عندهم كثيرا… لا تتعجب.. فعندما تفتن النفس بحب الدنيا وتخلو من الديانة ومراقبة الله تعالى فإنها سوف تتبع هواها، وبناء على هواها سوف تقرر ما تتبناه من عقيدة وفكر، ثم تشد ذلك البنيان وتقويه وكأنه فكر ناضج نافع للبشرية، وهذا هو الضلال بعينه، فتنظيم أمور الحياة بكل تفاصيلها يحتاج إلى علم تام، يحتاج إلى تجرد عن الرغبات الشخصية، وأنى لابن آدم أن يتجرد عن هواه! ومن أين له العلم التام بالتفاصيل، وبالحاضر والمستقبل!
(أفحكم الجاهلية يبغون. ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون)

الثانية
في هذه الدنيا.. ما أكثر من يحاول الإصلاح فيفسد أكثر مما يصلح، يحاول التقدم بتقليد غيره، لكنه لا يحسن التقليد، ولا يريد أن يبقى على ما كان عليه، فلا هو بلغ التقدم الحضاري، ولا هو بقي على ما كان عليه، وهذا هو حال العلمانيين العرب، إنهم لم يفهموا من حضارة الغرب إلا أن الغربيين تركوا دينهم، وجعلوا النساء تتبرج، لم يفهموا من حضارة الغرب إلا أنهم شربوا الخمور وأنشاؤوا بيوت الدعارة، ونسوا الأمور التي تتعلق بالعلم لأنها أمور صعبة وتحتاج إلى وقت، وكان هذا هو ملخص رؤيتهم للسعادة، فتركوا الدين وحرفوه، ودعوا إلى تحرير المرأة من الحجاب والدين، وباعوا الخمور ونشروا الرذيلة، ثم أجاعوا الناس وظلموهم ودمروا البلاد الإسلامية، ثم وقفوا وقالوا: هذه هي الحضارة، وهذا هو التقدم، فلم يفلحوا في الدنيا، ولم يسلم لهم دينهم… وهذا كله أثر من آثار الهزيمة النفسية والجهل الذي يعشيه أولئك الناس… والخلاص والنجاة مما نحن فيه عباد الله! أن نعتصم بدين الله وأن نتمسك به في ظل الهجمات الشرسة التي يتعرض لها الإسلام، وبخاصة الحروب الثقافية والفكرية التي تهدف إلى تغيير وتحريف مفاهيم الإسلام الأساسية لتوافق حضارة الغرب، وعلينا أن ننتبه إلى أبنائنا بشكل خاص، فإنهم هم أمل هذه الأمة في المستقبل، فلنربهم على أصول هذا الدين الصحيح، فلنربهم على العزة والكرامة.. على الاعتزاز بتاريخ أمة الإسلام.. عرفوهم -بأنفسكم- على أبطال الإسلام المجاهدين، وعلى الصحابة الفاتحين، بثوا فيهم الثقة بدينهم.. حصنوهم ضد الأفكار الهدامة.. لعل الله يكتب النصر على أيدهم.

الأحد، 11 سبتمبر 2016

خطبة عيد الأضحى ١٤٣٧

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، توجهت له القلوب حبا وإقبالا، وخضعت له الرقاب عبودية وإجلالا، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، وإمام الحنفاء الموحدين، وعلى آله وأصحابه المجاهدين الفاتحين.
أما بعد فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى..
الله أكبر..
نحمده سبحانه حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه أن بلغنا هذا اليوم العظيم، يوم الحج الأكبر، يوم النحر، يوم الطاعات والقُربات، يوم إعلان ذكر الله تعالى وشعائره.. 
لقد من الله علينا بشهود أول هذا الشهر الفضيل، وشهدنا بالأمس يوم عرفات، يوم المغفرة والرحمة والعتق من النيران، وها نحن اليوم نشهد عيد الأضحى خير أيام العام، يومٌ يقوم فيه حجاج بيت الله الحرام بأكثر أفعال الحج، يحمدون الله ويكبرونه على نعمائه، ويفرح فيه المسلمون بعامة بفضل الله ورحمته، يتسامحون ويتحابون ويتواصلون، فالحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه.
الله أكبر..
لقد أنزل الله تعالى آدم إلى هذه الأرض، وجعل له ذرية يتكاثرون فيها، لكنه لم يتركهم هملا، ولم يدعهم فيها يظلم بعضهم بعضا بغير يوم يرجعون فيه إلى الحَكَم العدل، أرسل إليهم رسله تترى، بعث في كل أمة رسولا يأمر بطاعة الله وتوحيده والخضوع لجلاله، يحذرهم من عواقب إسخاطه في الدنيا والآخرة، فلا زالت الأنبياء تُبعث إلى البشرية، فمصدق ناصر للأنبياء، ومكذب هالك في الدنيا والآخرة، إلى أن جاءت فترة خلت من الرسل، فيها بقايا قليلة من الهدى، مع بقايا كثيرة محرفة من كتب أهل الكتاب، أشرك الناس بربهم، وتحاكموا إلى غير شريعته.. بغى بعضهم على بعض، وظلم بعضهم بعضا.. حتى بعث الله لهم بآخر أنبيائه ورسله، أيده بالمعجزات، وأرسله بالحجج والبراهين والبينات، ففتح الله به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا.
الله أكبر..
لقد ترك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هذه الأمة على المحجة البيضاء الواضحة، والملة المستقيمة الناصحة، بين الحلال والحرام، ولم يمت عليه الصلاة والسلام إلا وقد بين كل كبيرة وصغيرة في دين الله سبحانه.
الله أكبر..
لقد قدر الله سبحانه -لحكم كثيرة-  وجود المفسدين والمجرمين الذين يحاولون دائما تحريف دين الله تعالى، كل بحسب رغبته وشهوته، كل يزعم أنه مغترف من معين الدين، وفي واقع الأمر ما هو إلا مغترف من مستنقع هواه، ووحل شهوته وطغواه، إلا أن الله تعالى قد تكفل الله سبحانه بحفظ هذا الدين، فيسر له من يدافع عنه في كل مكان وحين، يردون عنه عبث العابثين، ولهو المبطلين.
الله أكبر..
لقد حاول أعداء الدين هزيمة دين الإسلام عن طريق القتل والتضييق والسجن والحصار، فما نالوا من عزيمة، وما خلخلوا عقيدة، وما رأوا إلا أجسادا تحن إلى الدماء، ونفوسا تشتاق للقاء باريها.. حتى راحوا يبثون فينا من بني جلدتنا من يعادي هذا الدين ويكيد له تحت شعارات براقة، يرفعون شعار الخوف عن الدين من التحريف، مقتدين بإمام الطغاة فرعون لما قال عن موسى: (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد).. فتسلحوا عباد الله بهذا الدين، وتمسكوا بثوابته، ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
واعلموا أن هذا الدين منصور رغم أنوف المجرمين، وظاهر ولو كره الكافرون، منصور بنا أو بغيرنا ولو بعد حين.
(ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون) 
الثانية
هذا اليوم يوم عظيم مبارك، فاغتنموا من بركاته، وتسابقوا إلـ خيراته، وإن التسامح بين المسلمين، وعفو بعضهم عن بعض، وإزالة الأحقاد والضغائن من أهم ما يجلب للمسلم الأجور والحسنات، فتراحموا عباد الله فإن التراحم من صفات عباد الله الصالحين كما قال تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم)، وقال عليه الصلاة والسلام: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»، وقال:«لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلام بينكم». وعن عبد الله بن عمرو قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: «كل مخموم القلب، صدوق اللسان» قالوا: فما مخموم القلب؟ قال: «هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد».
الله أكبر..
عليكم ببر الوالدين وصلة الأرحام، والإحسان إلى الأيتام، وذلك عمل يعجِّل الله ثوابه في الدنيا مع ما يدخر الله لصاحبه في الآخرة من حسن الثواب، كما أن العقوق والقطيعة ومنع الخير مما يعجل الله عقوبته في الدنيا، مع ما يؤجل لصاحبه في الآخرة من أليم العقاب.
وإياكم ومعصية الله سبحانه، امنعوا نساءكم وبناتكم من  التبرج والتساهل في الحجاب في هذه الأيام، ذكروهن وعظوهن فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على ذلك.
اللهم أعنا على ذكرك….. اللهم انصر الإسلام والمسلمين وأذل…..
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا…..وارقنا شفاعة نبيك ومرافقته في الجنان

الجمعة، 2 سبتمبر 2016

عشر ذي الحجة

عناصر الخطبة:
فضل عشر ذي الحجة، والحث على الطاعة فيها.
بعض أحكام الأضحية.

(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)
يعيش الإنسان في هذه الحياة الدنيا سائرا إلى الله سبحانه.. سائرا سيرًا حثيثا إلى أجله ونهايته، وإن العاقل الموفق هو الذي يعمر هذه الفترة القصيرة التي يعيشها في الدنيا، ويجعلها ساعات للطاعة، تكون سببا لينال مغفرة الله جل وعلا، ويفوز برضوانه وبجنات النعيم.
وإن من منة الله تعالى على هذه الأمة أنه لما جعل أعمارها قصيرة محدودة، أبدلها عن ذلك بمواسم وأيامٍ فاضلة مباركة، يُنزِلُ فيها كرمَه، ويُعَمِّمُ فيها نعمَه.. يرفع بها الدرجات، ويفتح أبواب الخيرات.. أيام يدعو الله تعالى فيها المؤمنين إلى الجد والتشمير، إلى المسارعة إلى فضله ورضوانه.
وإن من أهم تلك المواسم المباركة وأعظمها خيرا وفضلا: الأيامَ العشر الأولى من شهر ذي الحجة الحرام.. إنها أيام عظمت نصوص الشرع قدرَها وأعظمت من مكانتَها.. شهد النبي صلى الله عليه وسلم بأنها خير أيام الدنيا..
وكيف لا تكون خير الأيام وفيها تحج القلوب والأبدان إلى مهبط الوحي والتنزيل، وكيف لا تكون كذلك وقد أقسم الله سبحانه بها فقال: (والفجر وليال عشر)، وكيف لا تكون كذلك وقد اجتمع فيها من الطاعات ما لم يجتمع في غيرها، أيام فيها الصلاة والصيام وقراءة القرآن والصدقة والحج والأضاحي، أيام فيها يوم عرفة، أيام فيها يوم النحر، يوم عيد الأضحى، الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: «أعظم الأيام عند الله يوم النحر».
يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عنها وعن فضلها فيقول: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام». قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء».. يخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن العبادات والأعمال الصالحة في هذه الأيام كالصلاة والصيام والصدقة والصلة والإحسان.. يخبر أنها أحب الأعمال إلى الله تعالى، وأن أجرها في هذه الأيام أعظم وأكبر من غيرها من العبادات الفاضلة، وفي هذا حث عظيم وكبير للأمة على المبادرة إلى اغتنام هذه الأيام في الأعمال الصالحة.. ولما كان الصحابة قد تربوا على أن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، وأنه من أحب الأعمال إلى الله تعالى،  سألوا النبي صلى الله عليه وسلم سؤال المستفهم المتعلم، تساءلوا: هل العبادات في هذه الأيام خير من الجهاد في سبيل الله، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنها أفضل من الجهاد، ثم استثنى من ذلك حالة واحدة لا يساويها عمل صالح من نوافل العبادات.. إذا خرج المسلم مجاهدا في سبيل الله ومعه سلاحه ومركبه، ثم قتل في المعركة فجاد بروحه، وأخذ سلاحه، وأفضى إلى الله سبحانه فقيرا إلا من رضوانه، معدما إلا من رحمته، فهذا والله لا مماثل له في العبادات.
إنها أيام إعلان العبودية لله تعالى، أيام الثناء والتمجيد له سبحانه، يجهر المسلمون فيها بالتكبير، ويكثرون من الذكر والتسبيح والتهليل، كما قال سبحانه: (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام). وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أيام أعظم عند الله ولا أحبُّ إليه العملُ فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد». وقال البخاري: كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرها. وقال: وكان عمر يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً. وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه، وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعاً.
يغفل كثير من الناس عن هذه الأيام، ويظنون أنها أيام كغيرها من أيام العام، وقد تبين من خلال الآيات والأحاديث التي ذكرناها أنها أيام عظيمة، فضلها لا يقل عن فضل العشر الأواخر من رمضان، فيستحب فيها الإقبال على العبادات بشكل عام، كل بحسب قدرته، فالصلاة والصيام والصدقة والقرآن، والصلة والبر والإحسان وغيرها كلها ميادينُ يتسابق فيها المؤمنون إلى رضوان الله تعالى.
ومن المهم أن يستقبل العبد هذه الأيام بتوبة نصوح، وعودة إلى الطاعة، وترك للمعاصي كلها، فهذا هو عنوان الفلاح، فإن الله يوفق العبد الطائع المقبل عليه لطاعات أخرى، ويعاقب العاصي المعرض عنه بالحرمان منها.. فشدوا الهمم وتنسموا عليل الطاعة، لعل الله تعالى أن يفيض علينا من رحماته، ويسبغ علينا فضله، ويصلح دنيانا وأخرانا، (فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين).

فإن من أفضل الأعمال في هذا الموسم أن يذبح المسلم أضحية، يريق دمها تقربا إلى الله تعالى، والنحر وذبح الأضاحي من أجل العبادات التي تدل على محبة العبد لربه، حتى إن الله تعالى خصها بالذكر مع الصلاة، فقال: (فصل لربك وانحر) وقال: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين)، فيسن لمن وجد سعة من مال أن يضحي بأضحية عن نفسه وأهل بيته، توسعة على نفسه وعلى الفقراء والمحتاجين.
ومن الأحكام المتعلقة بذلك: أنه يلزم من أراد أن يضحي أن يمسك عن قص شعره وأظفاره ابتداء من أول يوم من أيام ذي الحجة إلى أن يذبح أضحيته، لقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعر وأظفاره» وهذا الحكم خاص بمن يريد أن يضحي، ولا يشمل  غيره من أهل بيته، ثم إنه ليس المقصود أن يحرم إحرما كاملا، بل المراد عدم قص الشعر والأظفار فقط، ولا شيء غير ذلك، ومن فعل ذلك ناسيا أو جاهلا فلا شيء عليه وأضحيته صحيحة، ومن نوى أن يذبح بعد دخول أيام من شهر ذي الحجة، فإن يمسك من وقت نيته، ولا شيء عليه فيما سبق من الأيام.
ويبدأ وقت ذبح الأضحية من بعد صلاة العيد، وينتهي مع غروب آخر يوم من أيام التشريق، وهو يوم الثالث عشر من ذي الحجة.

وبعد عباد الله! هذه الأيام قد أقبلت حاملة معها الخيرات، فأقبلوا على الطاعة، وارغبوا فيما عند الله سبحانه..