ملة إبراهيم
عناصر الخطبة:
- فضل نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
- من هم أتباع إبراهيم حقا؟
- علاقتنا الدينية مع أهل الكتاب.
(قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبرهيم حنيفا وما كان من المشركين. قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين).
آيات عظيمة من آخر سورة الأنعام، يأمر الله تعالى فيها نبيه محمدا ﷺ بإعلان دينه وطريقته، يأمره بذكر منة الله تعالى عليه وعلى هذه الأمة، يأمره بأن يصرّح ويصدع بهذه الملة الإبراهيمية الحنيفية، المائلة البعيدة عن الشرك، ملة التوحيد، ملة الكفر بالطاغوت.. وبعد أن أمره بهذا البيان العام للملة، أمره أن يزيد هذا البيان تفصيلا، فقال: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له) ثم زاد ذلك المعنى تأكيدا فقال: (وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين).
تختصر هذه الآيات قصة طويلة، قصة قلوب أحبت خالقها، وتعلقت به، قصة نفوس تركت الدنيا ورغبت فيما عند الله.. إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أحب ربّه ومولاه، وأحبه الله واتخذه خليلا واجتباه.. إن محبة إبراهيم لله تعالى لم تكن مجرد دعوى، بل كانت محبة صادقة، لم تكن محبة عادية، كفر لأجلها بالأصنام وحطمها، وألقي في النار لأجل ذلك فحماه الله، عادى قومه وبني جلدته وأبغضهم وتبرأ منهم ومن دينهم لأنهم أشركوا بالله، إنها محبة جعلته يسلم أمره لربه، ترك زوجته وابنه في الصحراء، وهمّ بذبح ابنه تنفيذا لأمر الله، هاجر وقطع الصحاري والقفار، أمر فأطاع، وأحب الله فذل قلبه له، وخضعت له جوارحه، حتى مدحه الله سبحانه في كتابه وذَكَره ذكرا عطرا فقال: (وإبراهيم الذي وفّى)، وقال: (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين. شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم. وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين)، ثم بين الله ﷻ اتصالَ السبب ما بين إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم فقال: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين).. إذا هي ملة واحدة، دين واحد، دين التوحيد ونبذ الشرك بكل صوره، هو دين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام… لم يدع موسى قومه إلى الشرك ووصفِ الله تعالى بالنقائص والعيوب، بل دعاهم إلى التوحيد وإلى تعظيم الله تعالى والانقياد لأمره… لم يدع عيسى قومه إلى عبادة الصلبان، ولا إلى التثليث، ولا إلى طاعة الأحبار والرهبان في التحليل والتحريم، بل دعاهم إلى عبادة إله واحد، كما قال تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركرن).
عباد الله! لطالما حاول اليهود والنصارى الانتساب إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام ليعطوا الشرعية لباطلهم ودينهم المحرّف، الذي وضعه لهم أحبارهم وملوكهم وطواغيتهم، ولأن الانتساب إلى إبراهيم شرف عظيم وفضل كبير.. لقد ظنوا أن مجرد انتسابهم إلى آباء الصدق ينجيهم عند الله سبحانه؛ لكن الله تعالى حرمهم هذا الشرف والفضل، لماذا حرمهم منه؟ لأنهم ليسوا على ملة إبراهيم، فليسوا هم منه، ولو اتصلوا إليه بنسب، وإذا كان الله تعالى قد أمر إبراهيم بأن يتبرأ من أبيه وقومه لما كانوا على الشرك، فهل سيرضى أن ينتسب إليه عبدة الصلبان وأتباع الأحبار والرهبان؟! ولذلك فإن الله تعالى كرر في القرآن نفي الصلة بين أهل الكتاب وبين إبراهيم عليه الصلاة والسلاة، وأكد على براءته منهم، من ذلك قوله سبحانه: (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين)، وقال: (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما يعلمون)، وقال تعالى: (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين. قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم).
لقد نفى الله تعالى عنهم هذا الشرف والفضل وأعطاه لمن يستحقه، وهم المسلمون المتمسكون بالتوحيد من أتباع محمد ﷺ… هذا هو عدل الله سبحانه، وهذه هي حكمته البالغة، التي يكون فيها الحكم على الحقائق والمعاني، لا على الصور والدعاوى، لقد أكد الله سبحانه هذه الحقيقة في كتابه فقال: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا)، وأكد أن من كان مؤمنا بالتوحيد الذي أنزله الله تعالى، فإنه يكون مؤمنا بجميع الأنبياء، وهو المسلم الناجي عند الله تعالى، فقال: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين).
ولقد بين النبي ﷺ هذا الفضل والكرم الذي نالته أمة الإسلام بقوله: «مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استأجر أجراء فقال من يعمل لي من غدوة إلى نصف النهار على قيراط فعملت اليهود، ثم قال من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط فعملت النصارى، ثم قال من يعمل لي من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين فأنتم هم، فغضبت اليهود والنصارى: فقالوا ما لنا أكثر عملا وأقل عطاء؟ قال: هل نقصتكم من حقكم؟ قالوا: لا. قال فذلك فضلي أوتيه من أشاء. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ فَاخْتَلَفُوا فَهَدَانَا اللَّهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ، فَهَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ هَدَانَا اللَّهُ لَهُ»، قَالَ: «يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَالْيَوْمَ لَنَا، وَغَدًا لِلْيَهُودِ، وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى».
الخطبة الثانية
إن من أهم الأمور التي أمرنا الله سبحانه أن نتبه لها، هي أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى لم يكونوا يوما ولن يكونوا أحبابا للمسلمين، وأن الولاية والمحبة الدينية قد انقطعت بيننا بسبب إيماننا وكفرهم، فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين)، وبين لنا سبحانه أن اليهود والنصارى لن يرضوا عنا حتى نترك ديننا ونتبع ملتهم فقال: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير)، بل بين لنا سبحانه أنهم يحسدوننا على إيماننا، وعلى فضل الله تعالى علينا، وأنهم يتمنون أن نترك ديننا، فقال تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق)، وقال: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما).
عباد الله! إن هذه القاعدة ينبغي أن تكون حاضرة تمام الحضور في أذهاننا ونحن نتعامل معهم، ونحن نقيم واقعنا، ينبغي أن تكون حاضرة في تحليلاتنا للواقع، فما هو السياق الذي يمكن إن نفهم من خلاله كل ذلك العداء الظاهر فيه إلا السياق الديني، وهل كان عامل الدين غائبا في الحروب الصليبية قديما، بل هل كان غائبا في الحروب المعاصرة التي شنها أهل الكتاب على المسلمين، في فلسطين والعراق وسوريا وبورما وغيرها من بلاد الإسلام… هذه حقيقة عباد الله، حقيقة ساطعة كالشمس، لكن بعض العلمانيين العرب يحاولون دائما التشويش عليها، يحاولون إقناع الناس بأن صراعنا معهم ليس دينيا، وأنه الصراع سياسي بحت، وهذا نابع عدم رغبتهم في إدخال الدين في الصراع والحروب، لأنهم لا يؤمنون به أساسا للحكم، ولا يريدونه حكما يحكم بين الناس في حياتهم، لا في السلم ولا في الحرب، فوقعوا بسبب ذلك في ضلال سياسي، وهزيمة على الأرض، فلا هم قرؤوا الواقع بصورة سليمة، ولا هم نصروا بلادهم، ولا حرروا أوطانهم.