الخميس، 26 أبريل 2018

منزلة العمل في الإسلام
عناصر الخطبة:
  • صور من الأعمال النافعة للفرد والمجتمع.
  • صور من الاعتداء على أموال الناس.

(هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) 
يذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة عبادَه بنعمة عظيمة أنعم بها عليهم، وهي أنه جعل لهم الأرض مذللة ميسرة للمعيشة، سهلها لنعيش فيها، جعل فيها العيون، "وسلك فيها من السبل، وهيأها فيها من المنافع ومواضع الزروع والثمار"، ثم ذكرنا بمآلنا وأننا راجعون إليه سبحانه، في إشارة إلى أن العمل لا بد أن نراعي فيه حق الشريعة، وأننا لا بد كذلك أن نعمل لأجل هذا الدين. فما هي الأعمال التي يمكن أن تكون نافعة للمجتمع المسلم وللفرد المسلم؟ يمكننا أن نقف على أهمية العمل بالنسبة للإنسان، وللإنسان المسلم بشكل خاص من خلال أمور:
١- أن العمل هو السبب الأهم في الانتصار على الأعداء: أي أمة مهزومة تريد أن تنتصر وتأخذ حقها ممن ظلمها فلا بد أن تعمل، هذا العمل يتمثل في الأخذ بأسباب النصر، والإعداد التام للمعركة… لنقف مع موقف في سيرة النبي ﷺ لنرى كيف علمنا النبي ﷺ أن نعمل وأن نأخذ بالأسباب المادية للنصر… هذا الموقف هو في وصف جيش النبي ﷺ الذي خرح لفتح مكة، لقد كان جيشا شديد التسليح، جيشا أخذ بالأسباب في أدق تفاصيلها حتى أثار الرعب في قلوب الكفار، لقد أوقف النبي ﷺ أبا سفيان رضي الله عنه لينظر في قوة هذا الجيش، حتى يرسخ في قلبه صدق النبي ﷺ ونصر الله تعالى له، ها هو أبو سفيان ينظر ويتأمل في كتائب هذا الجيش، فتمر عليه كتيبة فيسأل العباس: من هؤلاء؟ فيقول له: سُلَيْمٌ، فيَقُولُ أبو سفيان: مَا لِي وَلِسُلَيْمٍ ؟ ثُمَّ تَمُرُّ قَبِيلَة أخرى، فَيَقُول: يَا عَبَّاسُ، مَا هَؤُلاءِ؟ فَيقُولُ: مُزَيْنَةُ، فَيَقُولُ: مَا لِي وَلِمُزَيْنَةَ؟ حَتَّى نَفِدَتِ الْقَبَائِلُ، مَا تَمُرُّ بِهِ قَبِيلَةٌ إِلَّا سَأَلَ العباس عَنْهَا، فَإِذَا أَخْبَرهُ بِهِمْ، قَال: مَا لِي وَلِبَنِي فُلانٍ، حَتَّى مَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ، وَفِيهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ، لا يُرَى مِنْهُمْ إِلَّا الْحَدَقُ مِنَ الْحَدِيدِ، قَال:  سُبْحَانَ اللَّهِ، يَا عَبَّاسُ، مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَال: قُلْتُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، قَال: مَا لأَحَدٍ بِهَؤُلاءِ قِبَلٌ وَلا طَاقَةٌ.
٢- ومن أجل الأعمال التي يمكن للإنسان أن يقوم بها في حياته القصيرة: هو العمل لأجل دين الإسلام، هذا العمل الذي يختصر السنين، ويرفع مرتبة الإنسان -إذا كان مخلصا- عند الله تعالى ولو قصر عمره… سعد بن معاذ رجل المواقف العظمة، رجل العمل لأجل دين الإسلام، أسلم وعمره ثلاثون سنة، ومات وعمره ست وثلاثون، لكنه قدم فيها الكثير، وكانت له فيها مواقف عظيمة، فمن مواقفه في العمل لأجل الإسلام أنه لما أسلم قال لقومه -بني عبد الأشهل-: كلامُ رجالِكم ونسائكم علي حرام حتى تُسلموا. فأسلموا جميعا.
سعد بن معاذ هو الذي قال للنبي ﷺ في معركة بدر: لو استعرضت بِنَا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بِنَا عدونا غدا، إنَّا لصُبُر عند الحرب صُدُق عند اللقاء لعل الله يريك فينا ما تقر به عينك.
سعد بن معاذ هو الذي سطر أعظم المواقف في البراءة من الموالي والأولياء من دون الله، وذلك لما حكمه رسول الله ﷺ في بني قريضة، فحكم فيهم بحكم الله ﷻ، مع أن بني قريضة كانوا حلفاء للأوس قبل الإسلام.
هذه المواقف وغيرها جعلت الست السنوات التي عاشها سعد في الإسلام جعلتها كالدهور الطويلة، وفيه يقول النبي ﷺ
: «اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ»، وتقول عائشة رضي الله عنها: ما كان أحدا أشد فقدا على المسلمين بعد رسول الله ﷺ وصاحبيه من سعد.
٣- ومن أهمية العمل: أنه سبب في بناء المجتمع، فالمجتمع الذي لا يعمل، المجتمع الذي لا يكون مستغنيا عن غيره في حاجاته الأساسية هو مجتمع ضعيف، لا بد أن يكون فريسة لغيره من الدول القوية، لقد بين النبي ﷺ أهمية الإتقان في العمل عموما فقال: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه»، وقال مبينا أهمية الزراعة مثلا: «ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة».
وقد امتثلت أمة الإسلام على مر العصور هذا الأمر، لأنها كانت تريد الحفاظ على دولة قوية تدافع وتنشر دين الإسلام، وهل يمكن أن تكون الدولة قوية إذا كانت عالة على غيرها في تأمين قوت أبنائها ونفقاتها؟!
ومما يبين أهمية العمل بالنسبة للفرد: ٤- أن العمل من أهم أسباب توفير المعيشة الكريمة، ويغنيه عن الطلب والسؤال، لقد عمل النبي ﷺ في رعي الغنم، وفي التجارة، وساعد عمه أبا طالب الذي لم يكن يملك الكثير من المال، عمل النبي ﷺ حتى لا يكون محتاجا لأحد، ولعل من حكمة الله تعالى في ذلك: أن لا يكون لأحد مِنةٌ عليه، وحتى لا يلحقه أي نقص أو مطعن عندما يبعث بالنبوة.
وعلى هذا كان الأنبياء من قبل، فما من نبي إلا وقد رعى الغنم، وقال عليه الصلاة والسلام: «ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده».
لقد بين النبي ﷺ أهمية هذا الاكتفاء عن الغير، وأهمية العمل لأجل تأمين معيشة كريمة للأولاد والأهل فقال ﷺ: «اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله».

الخطبة الثانية:
ما كان المال محببا جدا إلى النفوس، ولا يستغني عنه أحد، فإن الإسلام قد شرع تشريعات مهمة لتحفظ هذا المال، وقد تقدم معنا حث الإسلام على العمل عموما، وعلى كسب المال من طرق الحلال خصوصا.
وفي المقابل فقد حذر الإسلام تحذيرا شديدا من الاعتداء على أموال الناس وأخذها بغير حق، وحذر من أصناف من الناس ركنت إلى الدعة والراحة، وأحبت أن تأخذ تعب غيرها… هذه صورة من صور أولئك المعتدين على الأموال، يخبرنا القرآن عنها: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعداب أليم. يوم يحمى عليها في جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا من كنزتم لأنفسكم فذوقوا من كنتم تكسبون). فبين لنا أن الطبقة الفاسدة من رجال الكنيسة كانت تأكل أموال الناس بالباطل باسم الدين.
ومن هذه الفئات التي تأكل أموال الناس بالباطل كذلك: المستبدون والظلمة، قال تعالى: (إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم)، وهو موجود قديما وحديثا، قال تعالى في وصف ملك ظالم قديما: (وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا)، وقال ﷺ في بيان حرمة المكوس والضرائب: «لا يدخل الجنة صاحب مكس».
ومن ذلك أكل مال اليتيم: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا).
ومن ذلك أكل الربا: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين).  
ومن ذلك: الغش والتدليس في البيع والشراء: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ،  فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَال: «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ»؟ قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي»

ومن ذلك: أخذ أموال الناس بقصد السلف والدين، مع إضمار النية بعدم السداد: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَها يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ الله».

الخميس، 12 أبريل 2018

الإسراء.. عبر وعظات
عناصر الخطبة:
  • فضل بيت المقدس.
  • فوائد من موقف صلاة النبي ﷺ بالأنبياء.
  • تسليم الصديق رضي الله عنه للشريعة.
(سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير)
في مثل هذه الأيام المباركة قبل مئات السنين، أشرقت هذه البلاد، وأنارت بأن وطئتها أقدام محمد ﷺ، في رحلة عظيمة، رحلة مليئة بالمعجزات والأحداث، مليئة بالعظمة.. هي رحلة تاريخية بحق، وقعت بعد عدد من الصعاب التي مرّ بها نبينا ﷺ في مكة.. صعاب تدك الجبال الرواسي، تحمّلها محمد ﷺ لأجل نشر دين الإسلام.
إن الله تعالى يصطفي -لحكمة يعلمها- بعض البلاد فيباركها ويفضلها على غيرها؛ وإن هذه الأرض المباركة أرضَ فلسطين من أكثر هذه البلاد بركة، وأقدمها علاقة بالأنبياء، فالله سبحانه نجى إليها إبراهيم ولوطا وأخبرنا ببركتها فقال: (ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين)… لقد بقيت هذه الأرض على علاقة وطيدة بالأنبياء والمرسلين؛ وها هو محمد ﷺ سيدهم وخاتمهم يأتي إليها، ويزيد هذا المكان شرفا إلى شرفه.
أحداث هذه الرحلة كثيرة، لكن بحسبنا أن نقف على موقفين منها، لنحاول أن نأخذ منهما العبر والفوائد.
أما الموقف الأول فإنه موقف عظيم عجيب، وهو صلاة نبينا محمد ﷺ إماما بالأنبياء في المسجد الأقصى، وهذا الموقف فيه الكثير من العبر والفوائد.
فمنها: أن الأنبياء جميعا قد استقوا من معين واحد، فكلهم دعوا إلى توحيد الله تعالى وتعظيمه، ودعوا إلى عبادة الله، ومكارم الأخلاق… هذه هي دعوتهم الواحدة: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت)، ولذلك فقد اصطفوا كلهم في صلاة واحدة خلف إمام واحد هو محمد ﷺ.
لكن المعنى الصحيح لقولنا: إن دين الأنبياء واحد، هو أنهم جميعا دعوا إلى التوحيد، فأما التحريفات التي قام بها كثير ممن خالفوا أنبياءهم فليست من هذا الدين الواحد، وليس بيننا وبينها أي تقارب ولا ارتباط، فقول النصارى بالتثليث والشرك ليس من دين عيسى، وانتقاص اليهود من جناب الله سبحانه ليس من دين موسى، بل هو كفر بالله العظيم.
إن صلاته عليه الصلاة والسلام بالأنبياء فيها رسالة لأتباعهم بوجوب اتباعهم لهذا النبي الخاتم، فإذا كانوا تابعين لأنبيائهم حقا فإنه يجب عليهم اتباع محمد ﷺ: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لمَا آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين. فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) 
ومن هذه الفوائد: أن الله تعالى لم يخص هذه الأرض لأهل عرق معين ولا بجنس معين، وإنما هي لعباده الصالحين، والأرض جميعا لله تعالى يعطي الحق فيها لعباده الصالحين: (ولقد كبتنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)، وأرض بيت المقدس أرض مباركة عند الله ﷻ، الحق فيها لأتباع الدين المرضي عند الله جل وعلا .. قد تدور الدائرة عليهم اختبارا وابتلاء ولكن العاقبة لهم (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين).
لقد انتقل محمد ﷺ من جزيرة العرب إلى هذه الأرض التي لم يسكنها من قبل، وهنا ذابت القوميات، هنا ذابت العصبيات، هنا سادت العقيدة، وسادت التعاليم الربانية التي تجمع بين الأعراق المختلفة، والأجناس المتباينة وتذيبها في بوتقة العبودية والخضوع لله ﷻ وعلا.
ومن هذه الفوائد: أن إمامة النبي ﷺ بالأنبياء فيها إشارة إلى انتقال عهدة ومفاتيح هذه الأرض إلى الأمة المحمدية، وأنهم هم أصحاب الحق فيها بصفتهم أتباع الدين الحق، الدين الخاتم المهيمن على بقية الأديان. 
ولقد مهد النبي ﷺ في حياته لهذا الأمر فسَيَّر الجيوش إلى تخوم الشام، وكان آخرها بعث أسامة الذي مات عنه النبي ﷺ وأنفذه أبو بكر، ثم لم يزل الصحابة رضي الله عنهم يتوغلون في بلاد الشام قاصدين بيت المقدس إلى أن تم لهم ذلك في عهد عمر بن الخطاب… كل هذا امتثال منهم لهذا الدين، وإدراك لأهمية هذه الأرض بالنسبة للمسلمين، بل إدراك لأحقيتهم بها دون غيرهم.
ولقد سارت أمة الإسلام في تاريخها على هذا النهج، فحافظت على هذه الأرض واهتمت بها، ولم تكن لتضيع منهم إلا في أحوال ضعف تمر بها الأمة، مع خيانة بعض الناس فيها.
وهنا لا ننسى شهداءنا وأسرانا الذين انطلقوا من هذه العقيدة، فهبوا مدافيعن عن هذه الأرض الإسلامية المباركة، وقدموا دمائهم، وحريتهم فداء لهذا المبدأ العظيم.
ومن هذه الفوائد: أن صلاة النبي ﷺ بالأنبياء فيها إشارة إلى أهمية العامل الديني للأمة التي سوف تتولى أمانة هذه الأرض، وإذا كان الله تعالى إنما ينصر المؤمنين إذا اتقوا وأخذوا بالأسباب، فإن هذه الأرض من أجلى الصور التي تظهر فيها هذه السنة الكونية: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)، ونصر الله تعالى يكون بالتزام دينه، وهذا الالتزام يكون بالالتزام بالدين كله، فهو التزام بالعقيدة الصحيحة.. محافظة على الصلاة وشعائر الإسلام الظاهرة، تحكيم للشريعة، أخلاق فاضلة، ولاء للمؤمنين وبراءة وعدمُ موالاةٍ للكافرين، أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، محاربة للظلم والفساد، محاربة للفواحش والمنكرات.
إن نسيان هذا العامل قد أودى بنا إلى حال سيئة، حالٍ لا تحتاج إلى وصف ولا بيان فكلنا يرى ويسمع، لكن العجب أن بعض الناس لا يحب إلا أن يسير مسرعا نحو الهاوية، فيوالي الكفار بحجة أنهم يحبون الخير لنا، وينشر أسوأ ما في ثقافة الغرب بحجة التقدم الحضاري، ويحارب الفضيلة بحجة التحرر والتقدم، وهذا كله ضلال في الطريق وانحراف عن الجادة، لا يوصل إلا إلى الشقاء في الدنيا والآخرة: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا).
الخطبة الثانية
الموقف الثاني يتعلق بشيء حدث بعد رجوع النبي ﷺ من هذه الرحلة المباركة، موقف إيماني عظيم، صدر من رجل عظيم هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فإن النبي ﷺ لما أخبر كفار قريش بأمر الإسراء قوبل بحملة استهزاء واستنكار كبيرين، وكلنا يعلم أثر هذا على النفس البشرية، فكم من الناس يود لو أظهر الحق ولكنه يخاف الناس ولومهم، فما بالنا بذلك الموقف العصيب… لقد شق أبو بكر كل تلك الظلمات، وخالف توقعات الكفار، فأصم آذاناهم بعبارته الشامخة، الملئية بمعاني التسليم والانقياد للشريعة: إن كان قال ذلك فقد صدق… ما أعظمها من كلمة وما أكثر فوائدها، لكن لنأخذ منها قبسة واحدة تتعلق بأهمية الانطلاق من التسليم للدين والتمسك به في التعامل مع العدوان، كم يحتاج المسلمون إلى استحضار مثل هذا الموقف في وجه حملات التشويه والطعن التي تنال الإسلام، وكم نحن بحاجة إلى استحضار معاني العزة التي فيه لنجعل انتماءنا واحدا، لنعرف عدونا من يكون.

ها هي سوريا جرح نازف منذ سنوات، ومع ذلك نرى كثيرا من المسلمين لا يعرفون أين الطريق، فبعضهم يرى النصر مع أمريكا، وبعضهم يرى النصر مع روسيا وذنبها بشار… لكن الطريق الصحيح هو في الرجوع إلى هذه الأمة، في إحياء هذه الأمة وإيقاظها من سباتها… هذه الأمة قد قادت العالم منذ زمن ليس بالبعيد، عندما كانت تحكم شريعة ربها، وكان لها كيان يجمعها ويدافع عنها… لسنا بعيدين عن ذلك، وليس هذا حلما مستحيلا، بل هو وعد رباني بالنصر لعباده الصالحين الآخذين بالأسباب: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون).