(فدعا ربه أني مغلوب فانتصر)
عناصر الخطبة:
- الله تعالى ينصر عباده عند شدة البلاء.
- الواجب التمسك بشريعة الإسلام في الرخاء والشدة.
إن من سنة الله تعالى في خلقه أن يبتلي عباده الصالحين، ليمحص قلوبهم، ويقوي يقينهم، وقد يبتليهم الله تعالى بالمصائب ليختبر إيمانهم… حتى إذا اشتدت عليهم المواقف، وعظهم عليهم الكروب فرج عنهم، ونصرهم على أعدائهم.
وكم في كتاب الله سبحانه، وفي قصص الأنبياء والصالحين، من تلك المشاهد التي يَنزل البلاء فيها على المؤمنين، فلا يكون منهم إلا الصبر والثبات على الدين، ثم ينزل الله عليهم نصره بعد شدة الضيق، وينزل عليهم فرجه في أحلك الظروف والمواقف.
ولنستعرض بعض تلك المشاهد، لنأخذ منها الأمل، ولنحاول أن نعرف ما هي الحال التي كان عليها أولئك الأنبياء.
وما أحوجنا إلى التأمل في تلك المواقف في ظل اشتداد البلاء علينا، وفي ظل استمرار تطاول اليهود وتجبرهم، وقتلهم لنا على مرأى ومسمع من البعيد والقريب، ودون أن يحسبوا حسابا لأحد.
لنتأمل في هذه القصص، ولنلاحظ كيف أن الله تعالى ينصر عباده عند شدة الكرب، وكيف أن النصر ينزل عليهم بعدما يظنون بُعد هذا النصر عنهم، كما قال تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب).
لنتأمل في قصة نوح عليه الصلاة والسلام، فإنه لما بذل جهده في دعوة قومه وجدالهم، ما وجد من أكثرهم إلا الصد والكبر، فدعا الله سبحانه (أني مغلوب فانتصر)، لقد بذلت جهدي، فانتصر لدينك، فأنت الناصر الحقيقي، لا ناصر غيرك.. فإذا بالنصر الإلهي ينزل، ويسخر الله سبحانه جنوده، فيغرق كل ظالم كافر على هذه الأرض، وينجي عباده المؤمنين.
وها هو نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام يأمره الله بذبح ولده، فيسمع ويطيع لأمره تعالى، ويهم بذبح فلذة كبده، فينزل عليه الفرج وقد أضجع ولده ليذبحه… (فلما أسلما وتله للجبين. وناديناه أن يا إبراهيم. قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبين. وفديناه بذبح عظيم).
ولما حطم إبراهيم عليه الصلاة الأصنام التي كان قومه يعبدونها، ليرد إليهم عقولهم التي لوثها الشرك والكفر، أرادوا أن يعاقبوه عليه الصلاة والسلام، فأججوا له النار ليلقوه فيها… وأي بلاء وكرب أعظم من هذا! فما كان جوابه عليه الصلاة والسلام إلا أن قال: حسبنا الله ونعم الوكيل… فجاء الفرج من ملك الملوك الذي يقول للشيء كن فيكون، وأمر النار أن تكون بردا وسلاما على إبراهيم.
موسى عليه الصلاة والسلام، جادل فرعون الطاغية، ودعاه إلى الله سبحانه، ودعاه إلى ترك المؤمنين من بني إسرائيل وإلى عدم ظلمهم، فما كان من فرعون إلا أن أراد القضاء على موسى ومن معه، فحشد جنوده، وتبع موسى وقومه، حتى كاد يدركهم، ولم يكن أمامهم إلا البحر، وهنا لما (تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون)… وإنه لموقف جلل، فرعون الطاغية القاتل السفاح من خلفهم مع جنوده، وأمامهم البحر، فإلى أين يذهبون، وإلى من يلجؤون؟ أجابهم موسى، فقال لهم: (كلا إن معي ربي سيهدين)، كلا، لا تقولوا ما تقولون ولا تيأسوا، إذا كان فرعون قريبا بجبروته، فإن الله تعالى أقرب بنصره وتأييده… وفي هذا الموقف العصيب يجيء الفرج والنصر، فيأمر الله تعالى موسى أن يضرب البحر بعصاه، فينشق البحر عن طريق يابسة صالحة للمسير، فينجو موسى وقومه، وينطبق البحر على فرعون وجنوده، ولا يقبل الله منه إيماننا ولا توبة في ذلك الوقت، وتنتهي بذلك قصة ذلك الطاغية، الذي ملأت قصصه المرعبة قلوب الناس.
… محمد ﷺ… وما أكثر المواقف التي جاء فيها نصر الله تعالى له بعدما اشتد الكرب، ومن أعظم هذه المواقف ما حصل معه في هجرته عليه الصلاة والسلام، لما لحق به المشركون، والتجأ إلى الغار مع صاحبه أبي بكر، فجاء الكفار ووقفوا على الغار، فأعمى الله أبصارهم، حتى قال أبو بكر للنبي ﷺ: لو نظر أحدهم إلى موقع قدمه لرآنا، فقال عليه الصلاة والسلام: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما».
وفي غزوة الخندق، لما اجتمعت أحزاب الكفر لغزو المدينة، وشكلت جيشا كبيرا حتى تقضي على الإسلام والمسلمين، وأمر النبي ﷺ بحفر الخندق، جاء الكفار وحاصروا المدينة، وصاروا يرمون المسلمين، والمسلمون مرابطون عند الخندق، قد أتعبهم الجوع، ونخر البرد عظامهم، وبلغ الخوف من بعضهم مبلغا كبيرا، وخان اليهود عهدهم، وبث المنافقون الإشاعات، وحاولوا تثبيط العزائم، ولنستمع إلى هذا الوصف القرآني لصعوبة ذلك الموقف، يقول الله تعالى: (إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا. هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا).
وفي خضم هذه الظروف القاسية، والظروف العصيبة، يسلط الله سبحانه الريح الباردة على معسكر الكفار، فتقتلع خيامهم، وتكفأ قدورهم، فيولون مدبرين، ويعودون من حيث أتوا.
فحري بنا أن نعلم أن نصر الله سبحانه آت، وأن الهموم والكروب إذا كثرت، فهي علامة على قرب النصر إن شاء الله.
الخطبة الثانية
إن هذه القصص كثيرة جدا، وإن الله تعالى ينصر ويفرج الكرب عن عباده الصالحين، بعدما يظنون أن النصر بات بعيدا… وهذه القصص كلها يجمع بينها أن أصحابها صدقوا الله تعالى، كانوا أصحاب إيمان راسخ، كان همهم نصرة الدين، وطريقتهم الامتثال والتسليم لأوامر الله تعالى، كانوا عبادا صالحين لله ﷻ في حياتهم كلها، كانوا صادقين في لجوئهم إلى الله عز وجل، لم يطلبوا النصر من غيره، ولا ركنوا إلى ظالم أو كافر.
إن الله تعالى لا ينصر إلا الصادقين الذين يعتصمون بدينه في الرخاء، ويلجؤون إليه في الشدة، كما قال النبي ﷺ لمعاذ: «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة».
أما وإن من الناس من ينابذ الشريعة ويحادها، فإذا كانت مصلحته في مرحلة ما قريبة منها صار من المنادين ببعض مفاهيمها لنيل أغرض معينة، وإن من لم يكن صادقا، ومن تعامل مع الشريعة على حسب حاجته، من دون تسليم وخضوع لها= فكيف سينصره الله تعالى… إن الواجب علينا أن نعود إلى الله سبحانه عودة صادقة، وأن نتمسك بالشريعة الإسلامية، التي فيها عزنا ومجدنا، وألا نكون كأولئك الذين لم يعرفوا الإسلام إلا لمصالحهم، كما قال تعالى عنهم: (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون. وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين. أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون. إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون. ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق