[جواب مختصر حول مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد
أما بعد
فإن الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف من الأمور التي يتكرر عنها السؤال كل عام. وقد انقسم الناس في حكم ذلك ما بين مانع حاكم على الاحتفال بأنه بدعة أو محرم، وما بين مجيز لذلك مستحب له.
وهذه كلمة أحاول فيها بيان الحق في المسألة إن شاء الله.
فأقول:
من المسائل التي اتفق عليها المانعون والمجيزون أن النبي ﷺ وصحابته وتابعيهم لم يحتفلوا بمولد النبي ﷺ.
وأول من أحدث هذه المواد هم العبيديون.
وعليه فقد تمسك المانعون بهذا الأصل، وحكموا على هذا الفعل بأنه بدعة، بناء على تعريف البدعة في الشرع، وهو: طريقة في الدين مخترعة، يقصد بالسلوك عليها التقرب إلى الله سبحانه.
فالمولد متفق على أنه شيء محدث، وقد قام المقتضي لفعله في عهد النبي ﷺ، ومع ذلك لم يفعله، ولم يفعل ما يؤصل له، من إظهار فرح أو تعظيم لهذا اليوم كل عام كما يفعله بعض الناس الآن.
بل إن اختلاف العلماء في تحديد يوم مولد النبي ﷺ، وعدم وجود اتفاق من الصحابة -مثلا- على يوم معين لميلاده ﷺ يدل على أنهم لم يحتفلوا بهذا اليوم، ولم يخصوه بشعائر أو أعمال خاصة.
وفاعل المولد يقصد بذلك الأجر والثواب من الله تعالى بهذا الفعل، ويستحسن هذا الفعل شرعا، إذا فهذا الفعل بدعة.
ونستطيع القول إن هذه النقطة، بالإضافة إلى تحرير معنى العيد -كما سيأتي- هما الركيزة الأساسية عند المانعين من الاحتفال بالمولد.
وهذا أصل راسخ واضح منضبط في الشريعة.
وللمانعين أدلة وتفاصيل أخرى سيأتي بعضها خلال مناقشة أدلة المجيزين للاحتفال.
وللمانعين أدلة وتفاصيل أخرى سيأتي بعضها خلال مناقشة أدلة المجيزين للاحتفال.
أما المجيزون فإنهم أجازوا الاحتفال بالمولد منطلقين من أمور، قد تجتمع عندهم وقد تفترق، منها:
- أن الاحتفال من البدع، الحسنة.
- أن الاحتفال ليس عبادة.
- أن النبي ﷺ احتفل بيوم مولده من خلال صيام يوم الاثنين.
- أنه من باب تعظيم ومحبة النبي ﷺ وتعلم سيرته.
- ذكر نقول -صريحة أو محتملة- عن بعض العلماء في تجويز الاحتفال أو إقراره.
- أما النقطة الأولى، وهي قولهم: إن الاحتفال من البدع الحسنة؛ فهو قائم على تقسم البدعة إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة، أو على تقسيم البدعة إلى خمسة أقسام: محرمة، ومكروهة، ومباحة، ومستحبة، وواجبة.
قالوا: الاحتفال وإن كان لم يفعله النبي ﷺ فإنه من البدع الحسنة، فالفعل يشترط أن يكون مخالفا للشرع حتى نحكم عليه بأنه بدعة، والاحتفال بالمولد ليس مخالفا للشرع، ولا يوجد نص يحرمه.
وقد قال عمر رضي الله عنه عن صلاة التراويح جماعة: نعمت البدعة هذه. وجمع أبو بكر المصحف في مكان واحد، وزاد عثمان الأذان الأول يوم الجمعة، وهذه بدع حسنة، والمولد مثلها.
ويمكن الإجابة عن هذا من خلال أمور:
الأمر الأول: البدعة في اللغة هي مجرد الإحداث، أو الإتيان بشيء جديد، سواء كان من أمور الدين أو الدنيا، وعليه فالبدعة بالمعنى اللغوي ليست مذمومة بالكلية كما سيأتي التفصيل في ذلك.
الأمر الثاني: دلت النصوص الشرعية بوضوح على أن مجرد زيادة شيء في الدين بقصد التقرب إلى الله تعالى يعتبر مخالفة، وليس شرطا أن يأتي نص يحرم كل فعل محدَث، بل الأصل المنع من أي فعل يقصد به التقرب إلى الله تعالى إذا لم يكن لهذا الفعل مستند في الشرع.
ومن هذه النصوص قوله تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله)، فجعل مجرد التشريع بغير إذن من الشارع اعتداءً ومخالفة.
وقال ﷺ: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، فجعل مجرد الإحداث سببا في رد العمل وعدم قبوله، ولم يقيد ذلك بمخالفة نص خاص.
وأخبرنا سيدنا ونبينا محمد ﷺ أن كل البدع الدينية مذمومة، بقوله: «وكل بدعة ضلالة»، وهي صيغة عموم.
وبناء على مثل هذه النصوص وضع العلماء تعريفهم للبدعة في اصطلاح الشرع بأنها: طريقة في الدين مخترعة، يقصد بالسلوك عليها التقرب إلى الله سبحانه.
وعليه فكل إحداث في الدين يقصد به التقرب إلى الله فهو مذموم، وليس فيه حسن.
الأمر الثالث: ما ورد من تقسيم بعض العلماء إلى البدعة إلى خمسة أقسام قائمٌ في الغالب على المعنى اللغوي للبدعة، وهو مجرد الإحداث، فمن تأمل الأمثلة التي مثل بها بعضهم لكل قسم فإنه سيرى أنها ليس من البدع عند أحد، ولا تدخل في المعنى الاصلاحي للبدعة الذي سبق بيانه.
فمن ذلك أن بعض العلماء ذكر الرد على أهل الكفر مثالا على البدع الواجبة، قاصدا بذلك إحداث ردود على ما يجد من أفكار كفرية، أو الإتيان بردود جديدة على أفكار ضالة سابقة؛ وهذا ليس داخلا في تعريف البدعة الاصطلاحي، بل في البدعة اللغوية من جهة تجدد أفراده، وهناك كثير من النصوص تؤصل لمشروعية الرد على أهل الكفر والضلال.
ومن ذلك أن بعض العلماء ذكر إحداث المآكل والمشارب كمثال على البدع المباحة؛ وهذا ليس داخلا في تعريف البدعة الاصطلاحي كذلك، لأنه لا يراد به التقرب إلى الله سبحانه.
وهكذا من تأمل كثيرا من الأمثلة التي يذكرونها وجدها خارجة عن محل النزاع.
وهذا لا يعني عدم وجود من قسم هذا التقسم ومثل بما هو من البدع فعلا، لكن المراد هنا لفت النظر إلى أن الاعتماد على هذا التقسيم لا يسعف المجيزين في هذا المقام.
الأمر الرابع: قول عمر رضي الله عنه عن صلاة التروايح جماعة: "نعمت البدعة هذه"، أراد به المعنى اللغوي، فصلاة التراويح جماعة لا تدخل في تعريف البدعة الذي تقدم ذكره، لأن النبي ﷺ فعلها، ثم ترك صلاتها جماعة خوفا من أن تفرض على الناس، فعمر رضي الله عنه لم يأت بشيء جديد في هذا.
الأمر الخامس: فرق بين المصالح المرسلة وبين البدع، فالمصالح المرسلة -كجمع المصحف، وزيادة الأذان الأول يوم الجمعة- لم يقم المقتضي لها في عهد النبوة، ولم تكن حاجة لذلك، فلما جدت الأمور في عهد أبي بكر وخافوا على المصحف الضياع بعدما استحر القتل بالقراء جمعوا المصحف، وقول أبي بكر لعمر -لما اقترح عليه جمع المصحف-: "كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله ﷺ" يدل على استقرار هذا الأصل عند الصحابة، فلم يخرح الصحابة عن هذا الأصل إلا لأمور استجدت، لم تكن موجودة في عهد النبي ﷺ.
ومثل هذا يقال في إحداث الأذان الأول يوم الجمعة.
على أن النبي ﷺ قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي»، فجعل لما سنوه نوع خصوصية.
أما الاحتفال بمولد النبي ﷺ فقد كان المقتضي له قائما في عهده عليه الصلاة والسلام، كرفع مكانة النبي ﷺ وحبه وتقديره، ومع ذلك لم يفعله، ولم يرشد إليه، ولم يفعله الصحابة من بعده، وهم أشد الناس حبا وتعظيما له ﷺ.
الأمر الخامس: ما يذكرونه من إحداث بعض الصحابة لبعض العبادات، كقول ذلك الصحابي بعد الركوع: ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه… لا دلالة فيه على مرادهم، لأن النبي ﷺ أقرهم على ذلك، ونحن لا يوجد من يقرنا أو يمنعنا، فهم كانوا إذا فعلوا هذا يعلمون أن هناك نبيا يوحى إليه سوف يقوّم فعلهم إن كان خطأ.
ويبين ذلك أن النبي ﷺ كان ينهى في بعض الأحيان عن بعض ذلك، كما قصة الرجل الذي نذر أن يقوم ولا يقعد، وألا يستظل، وأن يصوم، فأمره النبي ﷺ أن يجلس، وأن يستظل، وأن يتم صومه.
- أما قولهم: إن الاحتفال بالمولد ليس عبادة، بل هو عادة، وعليه فلا يدخل في البدع.
فالجواب: أن مجيز الاحتفال إذا جمع في حجته بين أن الاحتفال من البدع الحسنة، وبين أنه ليس عبادة= فقد وقع في تناقض واضح، فإما أن يكون الاحتفال عبادة وإما أن يكون عادة.
وعليه فإن وجد من يحتج بأن الاحتفال هو عادة فقط، وأنه لا يقصد به الثواب، ولا التقرب إلى الله ﷻ= فالجواب عليه من خلال تحرير معنى العيد في الشريعة، وما هو موقف الشريعة من إحداث الأعياد، ويبين هذا أمران:
الأمر الأول: أخبرتنا النصوص الشرعية بأن الأعياد عند المسلمين ثلاثة أعياد فقط، عيد الفطر والأضحى ويوم الجمعة، ولم تفتح الشريعة الباب مشرعا أمام إحداث الأعياد، لأنها لم تعاملها معاملة العادة المحضة، بل جعلت لها بعدا دينيا من جهة المنع من إحداث شيء جديد منها.
يدل على ذلك منع النبي ﷺ أهل المدينة من الاحتفال بيومين كانوا يحتفلون بهما قبل الجاهلية، وقال: «قد أبدلكم الله خيرا منهما يوم العيد ويوم الفطر».
فقوله ﷺ: «قد أبدلكم» يفيد عدم إمكانية الجمع بين المبدل والمبدل منه، ولو لم يكن النهي عن الاحتفال بغير أعياد الإسلام مقصودا لما عبر بهذا اللفظ.
وقال ﷺ في حديث عائشة: «إن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا»، وهذا فيه حصر.
وقال ﷺ للرجل الذي نذر أن يذبح إبلا ببوانة: «فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟»
فإن قال قائل: الاحتفال بالمولد ليس عيدا، وأنا لم أجعله عيدا؛ فالجواب من خلال:
الأمر الثاني: وهو أن العيد اسم لما يعود ويتكرر على وجه معتاد، وذلك بأن يعود كل عام أو كل أسبوع في يوم معين.
والضابط الذي يضبط لنا معنى العيد من غيره أمران: التكرار، والاجتماع له وما يتبع ذلك من عادات أو عبادات.
قال ابن تيمية: فالعيد يجمع أموراً: منها يوم عائد كيوم الفطر ويوم الجمعة، ومنها اجتماع فيه، ومنها: أعمال تتبع ذلك من العبادات والعادات.
وعليه فكل اجتماع في يوم يتكرر كل عام مثلا، مع تخصيصه باجتماع أو تعظيم فهو عيد، وإن لم يسمِّه صاحبُه عيدا.
وهذا يشمل ما كان لمناسبات دينية كالمولد والإسراء والمعراج، أو مناسبات دنيوية كيوم الاستقلال، أو أعياد الميلاد الفردية.
ويشمل كذلك ما كان أصله من الأعياد تشبها بالكفار، وما كان حادثا من بعض أهل الإسلام.
وحكمها جميعا أنها أعياد زائدة على أعياد الإسلام، فالأصل أن الاحتفال بها ممنوع، لما تقدم.
- قولهم: إن النبي ﷺ كان يصوم يوم الاثنين، وهذا احتفال بمولده، فقد روى مسلم عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَقَالَ: «فِيهِ وُلِدْتُ وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ».
وروى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ».
فالجواب من وجوه:
الأول: أن النبي ﷺ صام يوم الاثنين لفضله، فهو يوم ترفع فيه الأعمال، ويوم ولد فيه النبي ﷺ، ويوم أنزل فيه الوحي على النبي ﷺ، فسبب صيامه أساسا هو فضل هذا اليوم، بدليل أنه كان يصوم معه الخميس.
والشريعة تخص الأوقات الفاضلة بأمور فاضلة لتزيد من شرف الجهتين، كما خصت شهر رمضان بالصيام، لكونه ظرفا لنزول القرآن.
الثاني: من صام بالنية المتقدمة فلا حرج عليه في ذلك إذا لم يخصصه بيوم معين في السنة، فالنبي ﷺ لم يفعل ذلك، ولم يرشد إليه.
الثالث: ليس في الصيام معنى الاجتماع الذي في العيد، وليس فيه أي شبه بالاحتفال بالمولد.
- أما ما يذكرونه من نصوص عامة في محبة النبي ﷺ ومكانته، وأهمية تعلم سيرته؛ فهذا ليس محل النزاع، بل كل مسلم يسلّم بهذه الأمور.
وهذه الأمور لا دلالة فيها على مشروعية الاحتفال.
- وأما ما يذكرونه من كلام لبعض العلماء؛ فنحن لا ننكر وجود من يجيز ذلك، لكن المراد هنا بيان الصواب في هذه المسألة، وطريقة ذلك تكون بالرجوع إلى النصوص ابتداء، ثم الاستشهاد بأقوال العلماء.
وإذا كانت الحجة في أقوال العلماء ابتداء فإن هناك نقولا كذلك عن علماء متقدمين ومتأخرين في المنع من الاحتفال.
وختاما أود التنبيه إلى أن منع الاحتفال هو من باب تعظيم شريعة النبي ﷺ واتباع أثره، وليس فيه أي انتقاص من منزلة النبي ﷺ كما يحاول البعض أن يدلس لتشويه موقف المانعين من الاحتفال.
والله أعلم.