الأربعاء، 22 نوفمبر 2017

[جواب مختصر حول مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد 
أما بعد
فإن الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف من الأمور التي يتكرر عنها السؤال كل عام. وقد انقسم الناس في حكم ذلك ما بين مانع حاكم على الاحتفال بأنه بدعة أو محرم، وما بين مجيز لذلك مستحب له.
وهذه كلمة أحاول فيها بيان الحق في المسألة إن شاء الله.
فأقول: 
من المسائل التي اتفق عليها المانعون والمجيزون أن النبي ﷺ وصحابته وتابعيهم لم يحتفلوا بمولد النبي ﷺ.
وأول من أحدث هذه المواد هم العبيديون.
وعليه فقد تمسك المانعون بهذا الأصل، وحكموا على هذا الفعل بأنه بدعة، بناء على تعريف البدعة في الشرع، وهو: طريقة في الدين مخترعة، يقصد بالسلوك عليها التقرب إلى الله سبحانه. 
فالمولد متفق على أنه شيء محدث، وقد قام المقتضي لفعله في عهد النبي ﷺ، ومع ذلك لم يفعله، ولم يفعل ما يؤصل له، من إظهار فرح أو تعظيم لهذا اليوم كل عام كما يفعله بعض الناس الآن. 
بل إن اختلاف العلماء في تحديد يوم مولد النبي ﷺ، وعدم وجود اتفاق من الصحابة -مثلا- على يوم معين لميلاده ﷺ يدل على أنهم لم يحتفلوا بهذا اليوم، ولم يخصوه بشعائر أو أعمال خاصة. 
وفاعل المولد يقصد بذلك الأجر والثواب من الله تعالى بهذا الفعل، ويستحسن هذا الفعل شرعا، إذا فهذا الفعل بدعة.
ونستطيع القول إن هذه النقطة، بالإضافة إلى تحرير معنى العيد -كما سيأتي- هما الركيزة الأساسية عند المانعين من الاحتفال بالمولد.
وهذا أصل راسخ واضح منضبط في الشريعة.
وللمانعين أدلة وتفاصيل أخرى سيأتي بعضها خلال مناقشة أدلة المجيزين للاحتفال.

أما المجيزون فإنهم أجازوا الاحتفال بالمولد منطلقين من أمور، قد تجتمع عندهم وقد تفترق، منها:
  • أن الاحتفال من البدع، الحسنة.
  • أن الاحتفال ليس عبادة.
  • أن النبي ﷺ احتفل بيوم مولده من خلال صيام يوم الاثنين.
  • أنه من باب تعظيم ومحبة النبي ﷺ وتعلم سيرته.
  • ذكر نقول -صريحة أو محتملة- عن بعض العلماء في تجويز الاحتفال أو إقراره.

- أما النقطة الأولى، وهي قولهم: إن الاحتفال من البدع الحسنة؛ فهو قائم على تقسم البدعة إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة، أو على تقسيم البدعة إلى خمسة أقسام: محرمة، ومكروهة، ومباحة، ومستحبة، وواجبة.
قالوا: الاحتفال وإن كان لم يفعله النبي ﷺ فإنه من البدع الحسنة، فالفعل يشترط أن يكون مخالفا للشرع حتى نحكم عليه بأنه بدعة، والاحتفال بالمولد ليس مخالفا للشرع، ولا يوجد نص يحرمه.
وقد قال عمر رضي الله عنه عن صلاة التراويح جماعة: نعمت البدعة هذه. وجمع أبو بكر المصحف في مكان واحد، وزاد عثمان الأذان الأول يوم الجمعة، وهذه بدع حسنة، والمولد مثلها.
ويمكن الإجابة عن هذا من خلال أمور:
الأمر الأول: البدعة في اللغة هي مجرد الإحداث، أو الإتيان بشيء جديد، سواء كان من أمور الدين أو الدنيا، وعليه فالبدعة بالمعنى اللغوي ليست مذمومة بالكلية كما سيأتي التفصيل في ذلك.
الأمر الثاني: دلت النصوص الشرعية بوضوح على أن مجرد زيادة شيء في الدين بقصد التقرب إلى الله تعالى يعتبر مخالفة، وليس شرطا أن يأتي نص يحرم كل فعل محدَث، بل الأصل المنع من أي فعل يقصد به التقرب إلى الله تعالى إذا لم يكن لهذا الفعل مستند في الشرع.
ومن هذه النصوص قوله تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله)، فجعل مجرد التشريع بغير إذن من الشارع اعتداءً ومخالفة.
وقال ﷺ: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، فجعل مجرد الإحداث سببا في رد العمل وعدم قبوله، ولم يقيد ذلك بمخالفة نص خاص.
وأخبرنا سيدنا ونبينا محمد ﷺ أن كل البدع الدينية مذمومة، بقوله: «وكل بدعة ضلالة»، وهي صيغة عموم.
وبناء على مثل هذه النصوص وضع العلماء تعريفهم للبدعة في اصطلاح الشرع بأنها: طريقة في الدين مخترعة، يقصد بالسلوك عليها التقرب إلى الله سبحانه. 
وعليه فكل إحداث في الدين يقصد به التقرب إلى الله فهو مذموم، وليس فيه حسن.
الأمر الثالث: ما ورد من تقسيم بعض العلماء إلى البدعة إلى خمسة أقسام قائمٌ في الغالب على المعنى اللغوي للبدعة، وهو مجرد الإحداث، فمن تأمل الأمثلة التي مثل بها بعضهم لكل قسم فإنه سيرى أنها ليس من البدع عند أحد، ولا تدخل في المعنى الاصلاحي للبدعة الذي سبق بيانه.
فمن ذلك أن بعض العلماء ذكر الرد على أهل الكفر مثالا على البدع الواجبة، قاصدا بذلك إحداث ردود على ما يجد من أفكار كفرية، أو الإتيان بردود جديدة على أفكار ضالة سابقة؛ وهذا ليس داخلا في تعريف البدعة الاصطلاحي، بل في البدعة اللغوية من جهة تجدد أفراده، وهناك كثير من النصوص تؤصل لمشروعية الرد على أهل الكفر والضلال.
ومن ذلك أن بعض العلماء ذكر إحداث المآكل والمشارب كمثال على البدع المباحة؛ وهذا ليس داخلا في تعريف البدعة الاصطلاحي كذلك، لأنه لا يراد به التقرب إلى الله سبحانه.
وهكذا من تأمل كثيرا من الأمثلة التي يذكرونها وجدها خارجة عن محل النزاع.
وهذا لا يعني عدم وجود من قسم هذا التقسم ومثل بما هو من البدع فعلا، لكن المراد هنا لفت النظر إلى أن الاعتماد على هذا التقسيم لا يسعف المجيزين في هذا المقام.
الأمر الرابع: قول عمر رضي الله عنه عن صلاة التروايح جماعة: "نعمت البدعة هذه"، أراد به المعنى اللغوي، فصلاة التراويح جماعة لا تدخل في تعريف البدعة الذي تقدم ذكره، لأن النبي ﷺ فعلها، ثم ترك صلاتها جماعة خوفا من أن تفرض على الناس، فعمر رضي الله عنه لم يأت بشيء جديد في هذا.
الأمر الخامس: فرق بين المصالح المرسلة وبين البدع، فالمصالح المرسلة -كجمع المصحف، وزيادة الأذان الأول يوم الجمعة- لم يقم المقتضي لها في عهد النبوة، ولم تكن حاجة لذلك، فلما جدت الأمور في عهد أبي بكر وخافوا على المصحف الضياع بعدما استحر القتل بالقراء جمعوا المصحف، وقول أبي بكر لعمر -لما اقترح عليه جمع المصحف-: "كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله ﷺ" يدل على استقرار هذا الأصل عند الصحابة، فلم يخرح الصحابة عن هذا الأصل إلا لأمور استجدت، لم تكن موجودة في عهد النبي ﷺ.
ومثل هذا يقال في إحداث الأذان الأول يوم الجمعة.
على أن النبي ﷺ قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي»، فجعل لما سنوه نوع خصوصية.
أما الاحتفال بمولد النبي ﷺ فقد كان المقتضي له قائما في عهده عليه الصلاة والسلام، كرفع مكانة النبي ﷺ وحبه وتقديره، ومع ذلك لم يفعله، ولم يرشد إليه، ولم يفعله الصحابة من بعده، وهم أشد الناس حبا وتعظيما له ﷺ.
الأمر الخامس: ما يذكرونه من إحداث بعض الصحابة لبعض العبادات، كقول ذلك الصحابي بعد الركوع: ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه… لا دلالة فيه على مرادهم، لأن النبي ﷺ أقرهم على ذلك، ونحن لا يوجد من يقرنا أو يمنعنا، فهم كانوا إذا فعلوا هذا يعلمون أن هناك نبيا يوحى إليه سوف يقوّم فعلهم إن كان خطأ.
ويبين ذلك أن النبي ﷺ كان ينهى في بعض الأحيان عن بعض ذلك، كما قصة الرجل الذي نذر أن يقوم ولا يقعد، وألا يستظل، وأن يصوم، فأمره النبي ﷺ أن يجلس، وأن يستظل، وأن يتم صومه.

- أما قولهم: إن الاحتفال بالمولد ليس عبادة، بل هو عادة، وعليه فلا يدخل في البدع.
فالجواب: أن مجيز الاحتفال إذا جمع في حجته بين أن الاحتفال من البدع الحسنة، وبين أنه ليس عبادة= فقد وقع في تناقض واضح، فإما أن يكون الاحتفال عبادة وإما أن يكون عادة.
وعليه فإن وجد من يحتج بأن الاحتفال هو عادة فقط، وأنه لا يقصد به الثواب، ولا التقرب إلى الله ﷻ= فالجواب عليه من خلال تحرير معنى العيد في الشريعة، وما هو موقف الشريعة من إحداث الأعياد، ويبين هذا أمران:
الأمر الأول: أخبرتنا النصوص الشرعية بأن الأعياد عند المسلمين ثلاثة أعياد فقط، عيد الفطر والأضحى ويوم الجمعة، ولم تفتح الشريعة الباب مشرعا أمام إحداث الأعياد، لأنها لم تعاملها معاملة العادة المحضة، بل جعلت لها بعدا دينيا من جهة المنع من إحداث شيء جديد منها.
يدل على ذلك منع النبي ﷺ أهل المدينة من الاحتفال بيومين كانوا يحتفلون بهما قبل الجاهلية، وقال: «قد أبدلكم الله خيرا منهما يوم العيد ويوم الفطر».
فقوله ﷺ: «قد أبدلكم» يفيد عدم إمكانية الجمع بين المبدل والمبدل منه، ولو لم يكن النهي عن الاحتفال بغير أعياد الإسلام مقصودا لما عبر بهذا اللفظ.
وقال ﷺ في حديث عائشة: «إن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا»، وهذا فيه حصر.
وقال ﷺ للرجل الذي نذر أن يذبح إبلا ببوانة: «فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟»
فإن قال قائل: الاحتفال بالمولد ليس عيدا، وأنا لم أجعله عيدا؛ فالجواب من خلال:
الأمر الثاني: وهو أن العيد اسم لما يعود ويتكرر على وجه معتاد، وذلك بأن يعود كل عام أو كل أسبوع في يوم معين.
والضابط الذي يضبط لنا معنى العيد من غيره أمران: التكرار، والاجتماع له وما يتبع ذلك من عادات أو عبادات.
قال ابن تيمية: فالعيد يجمع أموراً: منها يوم عائد كيوم الفطر ويوم الجمعة، ومنها اجتماع فيه، ومنها: أعمال تتبع ذلك من العبادات والعادات.
وعليه فكل اجتماع في يوم يتكرر كل عام مثلا، مع تخصيصه باجتماع أو تعظيم فهو عيد، وإن لم يسمِّه صاحبُه عيدا.
وهذا يشمل ما كان لمناسبات دينية كالمولد والإسراء والمعراج، أو مناسبات دنيوية كيوم الاستقلال، أو أعياد الميلاد الفردية. 
ويشمل كذلك ما كان أصله من الأعياد تشبها بالكفار، وما كان حادثا من بعض أهل الإسلام.
وحكمها جميعا أنها أعياد زائدة على أعياد الإسلام، فالأصل أن الاحتفال بها ممنوع، لما تقدم.

- قولهم: إن النبي ﷺ كان يصوم يوم الاثنين، وهذا احتفال بمولده، فقد روى مسلم عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَقَالَ: «فِيهِ وُلِدْتُ وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ».
وروى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ».
فالجواب من وجوه:
الأول: أن النبي ﷺ صام يوم الاثنين لفضله، فهو يوم ترفع فيه الأعمال، ويوم ولد فيه النبي ﷺ، ويوم أنزل فيه الوحي على النبي ﷺ، فسبب صيامه أساسا هو فضل هذا اليوم، بدليل أنه كان يصوم معه الخميس.
والشريعة تخص الأوقات الفاضلة بأمور فاضلة لتزيد من شرف الجهتين، كما خصت شهر رمضان بالصيام، لكونه ظرفا لنزول القرآن.
الثاني: من صام بالنية المتقدمة فلا حرج عليه في ذلك إذا لم يخصصه بيوم معين في السنة، فالنبي ﷺ لم يفعل ذلك، ولم يرشد إليه.
الثالث: ليس في الصيام معنى الاجتماع الذي في العيد، وليس فيه أي شبه بالاحتفال بالمولد.

- أما ما يذكرونه من نصوص عامة في محبة النبي ﷺ ومكانته، وأهمية تعلم سيرته؛ فهذا ليس محل النزاع، بل كل مسلم يسلّم بهذه الأمور.
وهذه الأمور لا دلالة فيها على مشروعية الاحتفال. 

- وأما ما يذكرونه من كلام لبعض العلماء؛ فنحن لا ننكر وجود من يجيز ذلك، لكن المراد هنا بيان الصواب في هذه المسألة، وطريقة ذلك تكون بالرجوع إلى النصوص ابتداء، ثم الاستشهاد بأقوال العلماء.
وإذا كانت الحجة في أقوال العلماء ابتداء فإن هناك نقولا كذلك عن علماء متقدمين ومتأخرين في المنع من الاحتفال.

وختاما أود التنبيه إلى أن منع الاحتفال هو من باب تعظيم شريعة النبي ﷺ واتباع أثره، وليس فيه أي انتقاص من منزلة النبي ﷺ كما يحاول البعض أن يدلس لتشويه موقف المانعين من الاحتفال.

والله أعلم.

الجمعة، 17 نوفمبر 2017

عبادة التفكر
عناصر الخطبة:
  • أهمية التفكر في مخلوقات الله ﷻ. 
  • التفكر في أحوال الأمم الغابرة.
أخرج ابن حبان عن ابن عمير أنه قال لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله ﷺ قال: فسكتت، ثمّ قالت: لمّا كانت ليلة من اللّيالي قال رسول الله ﷺ: «يا عائشة، ذريني أتعبّد اللّيلة لربّي». قلت: والله إنّي لأحبّ قربك وأحبّ ما سرّك. قالت: فقام فتطهّر، ثمّ قام يصلّي. قالت: فلم يزل يبكي حتّى بلّ حجره، قالت: ثمّ بكى فلم يزل يبكي حتّى بلّ لحيته، قالت: ثمّ بكى فلم يزل يبكي حتّى بلّ الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصّلاة، فلمّا رآه يبكي. قال: يا رسول الله لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم وما تأخّر؟ قال: «أفلا أكون عبدا شكورا، لقد نزلت عليّ اللّيلة آية، ويل لمن قرأها ولم يتفكّر فيها: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْباب.
صفة عظيمة من أهم صفات المؤمنين، وعبادة كريمة لطالما حرص عليها أصحاب اليقين… إنها عبادة التفكر.. التفكر في مخلوقات الله سبحانه، والتفكر في أحوال الدنيا، طلبا لليقين، وطلبا للموعظة، وطلبا لعلو الهمة في العمل الصالح.
التفكر -عباد الله- هو أن يكرر الإنسان التفكير فيما يراه حوله من المخلوقات، وفيما يحدث حوله من حوادث، فيما مر ومضى من أحوال الأمم الغابرة… وإن من رحمة الله تعالى بخلقه أن جعل سبيل الوصول إلى معرفته وتقوية الإيمان به أمرا يسيرا، فأدلة خلق الله تعالى للكون بين أيدينا، نراها ونسمعها، وسنة الله في خلقه حاضرة في تواريخ الأمم، وهوان الدنيا وسرعة ذهابها أمر ظاهر، ولكن كثيرا من الناس يغفلون عن التفكر في هذه الآيات مع عظمها، وذلك لأن الإنسان إذا اعتاد رؤية شيء معين فإنه يغفل عما فيه من دقة خلق، ويغفل عما فيه من دلائل وآيات، ويغفل عما فيه من مواعظ تحرك القلوب، ولا يزيل هذه الغفلة إلا تكرار التأمل والتفكر في هذه الأمور.
لذلك فقد أمرنا الله تعالى أن نتفكر في مخلوقاته، ومدح عباده الذين يتصفون بهذه الصفة.. لم يرد الله ﷻ من عبده المؤمن أن يكون قاسي القلب غافلا عما يوجد حوله من آيات ودلائل. بل يريد من عبده أن يكون دائم الفكرة والتأمل فيما يراه ويسمعه.
والأمور التي أمرنا الله تعالى أن نتفكر فيها كثيرة، وكل منها يؤدي إلى نتيجة إيمانية، أو سلوكية مختلفة. فمن هذه الأور التي حثنا الله تعاىلى على التفكر فيها: التفكر في المخلوقات وما فيها من إبداع خلق، حتى نصل إلى اليقين وقوة الإيمان بأن هذه المخلوقات لا بد لها من خالق عليم قدير قوي حكيم. 
ولنتأمل في هذه الآيات التي تلاها النبي ﷺ وبكى ليلة كاملة متفكرا فيها، وقال: «ويل لن قرأها ولم يتفكر فيها». يقول سبحانه في آخر سورة آل عمران: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ . رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ. ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيآتنا وتوفنا مع الأبرار…). فقد ذكرت هذه الآيات أن من صفات أصحاب العقول الراجحة أنهم يتفكرون في خلق السماوات والأرض وما فيهما من عجائب الخلق، وأنهم يأخذون منها دلائل على وجوده سبحانه، لتقوية إيمانهم ويقينهم، وأن هذا التفكر ترك عليهم أثرا، ظهر من خلال إقبالهم على العبادة كما في قوله: (الذين يذكرون الله قياما وقعودا)، ولما علموا عظيم قدرة الله تعالى جعلهم هذا يخافون اليوم الآخر وما فيه من أهوال، ثم ترك عليهم هذا التفكر أثرا في سرعة استجابتهم للحق وتسليمهم لأوامر هذا الخالق العظيم، كما قال عنهم: (ربنا إننا سمعنا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا…).
وقد ذكر الله تعالى في القرآن كثيرا من المخلوقات التي نراها حولنا، وهي من أعظم الأدلة على وجوده وكماله سبحانه، فذكر الشمس والقمر، والليل والنهار، إنزال المطر وإخراج النبات بسببه، وذكر الرعد والبرق، والسحاب والنجوم، وتسخير الرياح لذلك، وتسخيرها لسير السفن في البحر، وذكر خلق الإنسان من عدم، وحثنا على التفكر في الزواج، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم، وجعْلِ الليل سكنا لنا، وذكر لنا المراحل التي يمر الإنسان بها في حياته، وتفضيل بعض الناس على بعضهم في الرزق، وذكر لنا النحل والإبل والجبال، وغير ذلك. 
وما أجمل ما قاله الإمام الشافعي لما سئل عن دليل وجود الله تعالى فقال: هذه ورقة التوت، تأكله الدود فيخرح منها الحرير، وتأكله النحل فيخرج منها العسل، وتأكلة الشاة والبقر والأنعام فيخرج منها الروث، وتأكله الظباء فيخرح منها المسك.. كل هذا والتوت شيء واحد.
عباد الله! إن من كان في قبله غفلة أو هوى، لا تنفعه هذا الآيات التي يراها ويسمعها من حوله، لذلك قد أنكر الله تعالى على الكفار عدم اتعاظهم بهذه الآيات موجها لهم إلى التفكر فيها فقال: (أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون. وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون. وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون. وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون).
لكن أصحاب القلوب القاسية يحاولون الهرب من هذه الدلالات التي تقنع العقل، وتدخل إلى القلب رغما عنه.. وفي هذا الزمن يحاولون رد أي ظاهرة إلى تفسيرات علمية ترجعها إلى أي سبب.. المهم أن لا يقولوا: هي من عند الخالق العظيم، ومشكلتهم ليست في ذكر السبب العلمي، فالإسلام علمنا أن كل شيء مما نراه حولنا له سبب، لكن من هو الذي يخلق هذا السبب؟ من الذي يجعله سببا؟ هنا يقف الملاحدة، ويحالون الفرار، يقولون: الزلازل تحدث بسبب تحرك طبقات الأرض، نعم هذا سبب، فمن الذي يحركها؟ من الذي يخلق هذا السبب؟ يقولون: المطر يأتي بسبب اختلاف الضغط الجوي، نعم هذا صحيح، فمن الذي يخلق هذا السبب؟ ومن الذي يجعل الكون يسير بهذا النظام؟ ومن الذي أتقن خلق الإنسان؟ أكل هذا جاءت به صدفة عمياء؟! (تعالى الله عما يشركون).
الخطبة الثانية
عباد الله! إن من أهم الأمور التي أمرنا الله تعالى أن نتفكر فيها: التفكر في أسباب هلاك الأمم الغابرة.. أمم بلغت من التطور الحضاري قمته، وبلغت من القوة ما بلغت، مع ذلك أُفنيت في لمح البصر.. إنهم لم يشكروا الله سبحانه على نعمة القوة والتقدم، بل سخروها في سبيل الشرك ونشر الفواحش والمعاصي، فأبادهم الله تعالى.. ولقد حثنا القرآن على أخذ الموعظة من هذه الأحداث التاريخية في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون. ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوؤى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون).

إننا إن عجزنا عن أخذ العبرة من التاريخ فما هي فائدة عقولنا، وإذا لم نعلم أن المصائب والزلازل وانقطاع المطر قد تكون عقوبات أو إنذارات من الله تعالى فما فائدة علومنا..  هل سنستجلب رحمة الله تعالى بالمعاصي؟ هل سنجلبها بسب الله تعالى؟ أم بتحيكم غير شريتعه؟ أم بنشر الفواحش؟ أو بإفساد الشباب والفتيات بالاختلاط المحرم؟ أم بإقامة الحفلات الماجنة؟ أم بظلم بعضنا لبعض؟ أم بالجبروت والطغيان؟ لكن الإشكال ليس في عدم وجود العقول والقلوب، فالعقول والقلوب موجودة.. لكن الإشكال هو في عدم استخدام هذه العقول وهذه القلوب بالطريقة الصحيحة، حتى غدت كأنها غير موجودة، قال تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).

الخميس، 9 نوفمبر 2017

الشوق إلى لقاء الله ﷻ 
عناصر الخطبة:
  • ما هو الشوق إلى لقاء الله ﷻ.
  • الشوق إلى لقاء الله تعالى من صفات الصالحين.
  • الشوق إلى لقاء الله من أسباب علو الهمة.
عن السائب بن مالك، قال: كنا جلوسا في المسجد، فدخل عمار بن ياسر فصلى صلاة أخفها، فمر بنا فقيل له: يا أبا اليقظان: خففت الصلاة. فقال: أوَ خَفيفةً رأيتموها؟ قلنا: نعم. قال: أما إني قد دعوت فيها بدعاء قد سمعته من رسول الله ﷺ، ثم مضى فاتبعه السائب فسأله عن الدعاء، ثم رجع فأخبرهم بالدعاء: «اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْينِي مَا عَلِمْتَ الْحَياةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ وَأَسْألُكَ خَشْيَتَكَ فِي الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لاَ يَنْفَدُ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لاَ تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ المَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَأَسْأَلَكَ الشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غيرِ ضَرَّاءٍ مُضِّرَةٍ، وَلاَ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإيِمَانِ، وَاجْعَلنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ».
دعاء نبوي عظيم، اشتمل على معاني كثيرة، يطول فيها الكلام، ويفنى في بيانها المداد، لكننا نريد من نقطف ثمرة واحدة من هذه الحديقة الغناء، ونحاول أن نتكلم عن معنى عظيم واحد، من المعاني الكثيرة التي اشتمل عليها هذا الحديث ألا وهو: الشوق إلى لقاء الله سبحانه وتعالى.. هذا المقام الإيماني العالي، الذي عبر عنه النبي ﷺ في هذا الدعاء من خلال أكثر جملة، فقال في أول الدعاء: «أَحْينِي مَا عَلِمْتَ الْحَياةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي»، وقال في آخره: «وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَأَسْأَلَكَ الشَّوْقَ إِلَى لِقَائِك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة».
عباد الله! أتدرون ما هو الشوق إلى الله تعالى؟ هو أن يحب العبدُ ربَّه، ثم تزيد هذه المحبة في قلبه على كل ملاذ الدنيا وشهواتها، حتى إنه ليتمنى أن يخرج سريعا من هذه الدنيا، لا لشيء إلا ليلقى الله ﷻ، ولذلك فإن النبي ﷺ لما ذكر الشوق إلى لقاء الله تعالى قال: «في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة»، فالضراء هي ما يلحق الإنسان من مصائب في هذه الدنيا، والفتنة هي انتشار العصيان لله تعالى في الأرض وانتشار الفتن حتى يخاف العبدُ على دينه.. هذان السببان هما ما يدعوان إلى تمني الموت في الغالب: أن يتمنى الإنسان الموت لمصيبة وضيق نزل به، وأن يتمناه خوفا على دينه من الفتن، لكن ليس هذا ما أراده النبي ﷺ، فالشوق إلى لقاء الله هو أن تقوى تلك المحبةُ في قلب العبد، حتى يشتاق إلى لقاء الله، لشدة محبته لله وليس لأي سبب آخر.
إذا وصل العبد إلى هذه المرتبة الإيمانية فقد وصل إلى النعيم الدنيوي، وعاش في ريح الجنة قبل أن يدخلها، ولذلك كان بعض الصالحين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف.
وسر هذا الشوق هو تغلّب محبة الله تعالى على محبة الدنيا، فالقلب إذا كان غارقا في الدنيا وشهواتها لا يمكنه إدراك هذه المعاني، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ . أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
وإن الشوق إلى لقاء الله تعالى هو من صفات صفوة عباد الله وخيرهم، ها هو النبي ﷺ يرى المطر نازلا فيحسر ثيابه عن جسده الشريف ليصيبه المطر، فيُسْألُ عن هذا فيقول: «إنّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِربِّه».
وازداد شوقه لربه في آخر حياته، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: «إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ». فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا! فَعَجِبْنَا لَهُ، وَقَالَ النَّاس: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هُوَ الْمُخَيَّرُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمُنَا بِهِ.
وها هو موسى عليه الصلاج والسلام يتعجل إلى لقاء الله تعالى فقيول: (وعجلت إليم رب لترضى)، بل ويطلب منه أن يراه شوقا إليه فيقول: (رب أرني أنظر إليك)، ويسأله الله تعالى عن عصاه (وما تلك بيمنك يا موسى) فيطيل الجواب استئنانا بالكلام مع الله تعالى فيقول: (هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غني ولي فيها مآرب أخرى).
ولما حضرت بلالَ بنَ أبي رباحٍ الوفاةُ وغشيته سكرات الموت قالت امرأته: واكرباه، فقال لها بلال: بل وافرحاه، غداً ألقى الأحبة محمداً وحزبه. ويقول الحسن: والذي نفسي بيده ما أصبح في هذه القرية من مؤمن إلا وقد أصبح مهموماً محزونًا، ففروا إلى ربكم وافزعوا إليه؛ فإنه ليس لمؤمن راحة دون لقائه. ويقول عبد الله بن زكريا: لو خيرت بين أن أعيش مائة سنة في طاعة الله أو أقبض في يومي هذا أو في ساعتي هذه؛ لاخترت أن أقبض في يومي هذا وساعتي هذه شوقا إلى الله وإلى رسوله ﷺ وإلى الصالحين من عباده.  وقال يحيى بن معاذ: يخرج العارف من الدنيا ولا يقضي وطره من شيئين: بكاؤه على نفسه، وشوقه إلى ربه. وقال ذو النون: ما طَابَتِ الدنيا إلا بِذِكْرِه، ولا طَابَتِ الآخرة إلا بِعَفْوِه، ولا طَابَتِ الجنة إلا بِرؤيته.
إنه شوق يبقى مع المؤمنين حتى بعد دخولهم إلى جنان النعيم، فعَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: تَلاَ رَسُولُ الله ﷺ هَذِهِ الآيَةَ: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) قَالَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ نَادَى مُنَاد: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ الله مَوْعِدًا يُحِبُّ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ. فَيَقُولُونَ وَمَا هُوَ؟ أَلَمْ يُثَقِّلْ الله مَوَازِينَنَا؟ وَيُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَيُخْرِجْنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَوَالله مَا أَعْطَاهُمْ الله شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْه».
الخطبة الثانية
إن محبة الله ﷻ والشوق إلى لقائه هي من أكثر الدواعي التي تدعو الإنسان إلى العمل الصالح والجد، يقول ابن القيم: فالشَّوق يَحْمِل المشتاق على الْجِدّ في السير إلى مَحْبَوبِه، ويُقَرِّب عليه الطريق، ويَطْوِي له البعيد، ويُهَوّن عليه الآلام والْمَشَاقّ، وهو مِن أعظم نِعْمَة أنْعَم الله بها على عَبْدِه.
في معركة بدر صاح النبي ﷺ في أصحابه وقال لهم: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض، والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر؛ إلا أدخله الله الجنة». فألقى عميرُ بنُ الحُمَامِ تمراتٍ كانت في يده وقال: والله إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات.. فقاتل حتى قتل.
وتأملوا قصة أبي الدحداح كيف حرك الشوق قلبه وألبسه حب البذل والعطاء اشتياقاً للأجر العظيم من الله، فعن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿ مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ﴾ قال أبو الدحداح الأنصاري: وإن الله يريد منا القرض؟ قال النبي ﷺ: «نعم يا أبا الدحداح». قال: أرني يدك يا رسول الله، قال فناوله رسول الله يده، قال فإني أقرضت ربي حائطي قال: حائطه له ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها. قال فجاء أبو الدحداح فنادي يا أم الدحداح! قالت: لبيك، قال: أخرجي من الحائط فإني أقرضته ربي عز وجل.

إن محبة الله تعالى ومحبة من يحبونه تجبر ما عند المؤمن من نقص في الأعمال الصالحة، وتجعله في مصاف الصالحين، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً قََالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: «وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ؟» قَالَ: لاَ، إِلاَّ أَنِّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، قَال: «فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ».قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ بَعْدَ الإِسْلاَمِ  فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «إِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ». قَالَ: فَأَنَا أُحِبُّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ، لِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ كُنْتُ لاَ أَعْمَلْ بِعَمَلِهِمْ.