من معالم الشكر
عناصر الخطبة:
أحوال الناس بالنسبة لشكر النعمة.
الانقياد للطاعة من أهم معالم الشكر.
صور من تسليم الصالحين.
كيف نشكر النعمة؟
(وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذاب لشديد)
آية عظيمة من كتاب الله تعالى، يحكي الله تعالى فيها خطاب ووعظَ نبيِّ الله موسى عليه الصلاة والسلام لبني إسرائيل… فبعد أن ذكّرهم بنعمة الله تعالى عليهم لما نجاهم من فرعون وقومه وذلك في قوله: (وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم)، بعد أن ذكرهم بهذه النعمة العظيمة -وما أكثر النعم التي أنعمها الله على بني إسرائيل- بيّن لهم موسى عليه الصلاة والسلام أن النعم بلاء من الله تعالى، بلاء من جهة أن الناس ينقسمون إلى قسمين عندما يمن الله عليهم بالنعم: فالصنف الأول يشكر الله تعالى على نعمته، ويقابلها بالمحبة وبمزيد من الذل والخضوع والتواضع لله سبحانه، والصنف الثاني من الناس يكفر النعمة ولا يشكرها، فلا يرى للنعمة قيمة كبيرة، ولا تترك تلك النعمة في نفسه إلا مزيدا من التمرد على أوامر الله، والاجتراء على نواهيه، ولذلك قال لهم بعد ذلك: (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد)، وهي قاعدة عامة تشمل جميع الناس ولا تختص ببني إسرائيل…
عباد الله! إن التسليم لأوامر الله والانقياد لها، والتواضع لله، من أهم ما يدخل في شكر الله تعالى على نعمه، فهل كان هذا حال بني إسرائيل؟… لنتأمل قليلا في حالهم فإن الله تعالى قد قص علينا خبرهم في سور عدة، لنتعظ ونحذر مما وقعوا فيه… لقد بلغت نعم الله تعالى على بني إسرائيل مبلغا عظيما كبيرا، ولم يُعطِ اللهُ أحدا كالنعم التي أعطاها لبني إسرائيل في زمانهم، كما قال: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين)، وقال: (وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين)، وإن الله تعالى ليعلم مدى عتوهم وطغيانهم، لكنه سبحانه إذا أراد أن يجعل الظالم نكالا وعبرة للناس أمده بنعمه وأمهله ثم أخذه وعاقبه… لقد نجّى اللهُ تعالى بني إسرائيل من فرعون وقومه وشق لهم البحر يبسا، ومشوا فيه حتى نجوا، وتمَّمَ عليهم هذه النعمة فأغرق فرعون أمام أعينهم ليكون ذلك أشفى لصدورهم، فما كان منهم إلا أن عبدوا العجل… أنزل على موسى التوراة لتكون لهم هدى، فقالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، ثم حرفوها وبدلوا أوامر الله، واستحلوا الحرام، وحرموا الحلال… لقد أمرهم بدخول بيت المقدس مع موسى ووعدهم بالنصر الأكيد، فقالوا لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولما ضرب الله عليهم التيه عقوبة لهم، كان بهم رحيما فبعث الغمام ليظللهم، وأنزل عليهم المن والسلوى فقالوا نريد البقل والقثاء والبصل، ثم لما انتهى التيه وأرادوا دخول بيت المقدس، يسر لهم القتال وحبس لهم الشمس، وأمرهم أن يدخلوها خاضعين لله، شاكرين له على نعمائه، طالبين منه المغفرة والرحمة كما قال: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين)، فما كان منهم إلا أن حرفوا أمر الله تعالى كبرا واستهزاء فقالوا: حنطة، ودخلوا يزحفون على أدبارهم… كثيرة هي مواقفهم، وكثير هو طغيانهم… نفوس شيطانية متمردة عاتية، لا تحفظ نعمة ولا تشكر معروفا، فعاقبهم الله تعالى بعقوبات كثيرة، فضُربت عليهم الذلة والمسكنة، وسَلّط عليهم من يسومهم سوء العذاب، وشدد عليهم في شريعتهم، وقسّى قلوبهم، واستحقّوا سخط الله وغضبه إلى يوم الدين.
عباد الله! إن الله تعالى قد قصّ علينا قصة بني إسرائيل في مواضع كثيرة من كتابه وذلك لأنهم نموذج من الطغيان يتكرر في كل حين، لقد حذرنا الله تعالى من سلوك طريقتهم، فقال بعد أن ذكر قسما طويلا من قصصهم: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل)، وقال: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم)، وبين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ووضحه أحسن بيان فقال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه». قالوا: آليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!
هذا التحذير النبوي يحذرنا من سلوك تلك الطريق بمختلف تفاصيلها، يحذرنا من مقابلة نعمة الله تعالى بالاستخفاف والكبر، يحذرنا من التمرد والعتو على أوامر الله، يحذرنا من عدم التسليم والانقياد للشريعة، يحذرنا من تحريف الدين واستحلال الحرام… لا ديانة لمن لا تسليم ولا انقياد عنده للشرع.
عباد الله! بعد أن رأينا حال ذلك الجيل الشيطاني، فلنقارن ذلك الحال بحال المتقين الصالحين… هذا إمام المتقين عليه الصلاة والسلام في فتح مكة، يدخلها متخشعا متواضعا لله تعالى، قد طأطأ رأسه حتى كادت لحيته أن تمس الرحل الذي على ناقته، وكان أول ما فعل من شكر الله على هذه النعمة العظيمة أن حطم الأصنام والأوثان، مُعَلّما لنا التعامل الصحيح مع معالم الشرك والوثنية… حقها أن تحطم لا أن تُنْصَب وتُرَمَّم، ثم إنه عليه الصلاة والسلام عفا عمن أساء، ولم يعاقب من كانوا يؤذونه ويؤذون أصحابه.
أما الصحابة الكرام فقد كان التسليم من أهم معالم حياتهم الإيمانية، ها هو أبو بكر رضي الله عنه، في قصة الإسراء والمعراج يضع منهجا للتسليم لأمر الله تعالى، يسير عليه المتقون، قالوا له: إن صاحبك يقول إنه قد ذهب إلى بيت المقدس ورجع في الليلة نفسها، فقال: إن كان قال ذلك فقد صدق… انتهى الأمر! أأصدقه أنه يأتي بالخبر من السماء ولا أصدقه في مثل هذا. ولقد كانت هذه الصفة هي صفة الصحابة في كل الأمور، حُرِّمت عليهم الخمر، فألقوها في سكك المدينة حتى جرت فيها، بعد أن كانت محبوبة لهم… نزلت آية الحجاب فما برحت نساء الأنصار حتى شققن أستر ما عندهم من أقمشة وخرجن وكأن على رؤوسهن الغربان، نهاهم عن لحوم الحمر الأهلية فأكفؤوا القدور، حتى إنهم خلعوا نعالهم لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم قد خلع نعله في الصلاة، حتى بين لهم أنه ما خلعه إلا لأذى كان فيه.
إنه الجيل الصالح الذي أمرنا باتباعه، إنه طريق الهدى والنجاة عند الله سبحانه…
الخطبة الثانية
فإن شكر الله تعالى على نعمه له صور عدة، وأول ما ينبغي للمؤمن أن يحرص عليه عند حصول النعمة: أن يستشعر أن هذه النعمة قد حصلت من الله تعالى وحده، وأنه العبد ضعيف مربوب لا يملك من أمره شيئا، وهذا يورثه تواضعا وذلا ومحبة لصاحب النعمة سبحانه، فإذا استقر هذا المعنى في القلب ظهر ذلك على اللسان، بشكر الله تعالى وذكره والثناء عليه والتحدث بنعمة الله من غير استعلاء على الناس، فلا ينسب النعمة لقوته ولا لذكائه ومهارته وخبرته في الحياة ناسيا ومتجاهلا فضل الله عليه، لأن ذلك من شيم الطغاة كما قال تعالى عن هامان (قال إنما أوتيته على علم عندي). وشكر الناس على ما يسدونه من معروف هو من شكر الله تعالى، فإنهم أسباب يسخرهم الله، فيشكرهم العبد مع اعتقاد أنهم مجرد أسباب وأن الله تعالى هو مسدي النعمة حقيقة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «من لا يشكر الناس لا يشكر الله».
ثم إن على العبد أن يشكر الله تعالى بجوارحه، وذلك يكون بحسب النعمة، فإن كانت النعمة قوة في البدن سخر تلك الأعضاء في طاعة الله تعالى ومساعدة الضعفاء والحنو عليهم والتواضع لهم، وإن كانت النعمة مالا استعمله في الحلال ولم يستعمله في الحرام، ويتصدق على الفقراء والمساكين، وإن كانت النعمة علما علّم الناس ولم يَسْتَعْلِ عليهم ويحتقرْهم، وإن كانت النعمة جاها ومكانة سخَّرها في مساعدة الناس والشفاعة لهم وأصلح بين الناس… وهكذا يشكر الله في كل نعمة بما يناسبها، مع وجود أصل الخضوع والذل لله تعالى، فإذا فعل العبد ذلك منّ الله تعالى عليه وزاده من نعيمه، كما قال: (لئن شكرتم لأزيدنكم).