الخميس، 10 يناير 2019

التسامح.. معالم وحدود

في سنة ٨٩٧ للهجرة، وفي مثل هذه الأيام، سقطت آخر دولة من دول المسلمين في الأندلس.. أبو عبد الله محمد بن الأحمر الصغير، آخر ملوك غرناطة، كان نموذجا من نماذج الذل التي حكمت الأندلس في أواخر عهد المسلمين بها.. في فترة انتشر فيها مولاة النصارى بين حكام تلك البلاد، أكثروا فيها من تقديم النتازلات لملوك النصارى.. في فترة انتشر فيها الفحش والمعاصي في تلك البلاد.. ترك هذا الرجل غرناطة للنصارى، ولكنه أراد أن يأخذ منهم العهود والمواثيق بأنهم لن يتعرضوا للمسلمين، فأعطوه ما يريد من عهود ومواثيق، لكنها كانت وعودا كاذبة، وهو بدوره وافق عليها، وكأنه لا يعلم غدرهم وحقدهم على المسلمين، ولكن إذا علمنا مدى الضعف والذل الذي وصل إليه أمثاله من حكام تلك البلاد لما كان هذا غريبا.
خرج من غرناطة ووقف على تلة تشرف على قصر الحمراء ثم بكى، بكى ذلك المجد الذي قد ولى، حتى قالت له أمه عائشة الحرة: أجل؛ فلتبك كالنساء مُلْكًا لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال… كان هذا آخر عهد حكم المسلمين للأندلس، لتبدأ بعدها مآسي القتل والتعذيب في محاكم التفتيش، وحملات التنصير الإجباري.. وأما عهد وميثاق ذلك الملك المتسامح فلا قيمة لها عندهم.
قصة سقوط الأندلس فيها الكثير من العبر والفوائد، والذي نريده من هذه القصة فقط: الوقوف على صورة من الصور الذل والضعف والمهانة التي يحاول بعض الناس أن يسوقوها اليوم بين المسلمين، تحت غطاء شعارات براقة، كالتسامح وقبول الآخر، فهذه القصة فيها نتيجة مرة من نتائج فهم تسامح الإسلامي بالشكل الخاطئ.
فما هو التسامح في دين الإسلام؟ وما حدوده؟ ومع من يكون؟
هل عدم تكفير الكافر -مثلا- من التسامح؟ بل هل مشاركة النصارى في أعيادهم، والصلاة في كنائسهم من التسامح؟
اعلموا أولا -عباد الله- أن المسلمين ينبغي أن يتعاملوا مع أصحاب الأديان الأخرى بناء على أن دين الإسلام هو الدين الحق، وأن ما سواه باطل، قال تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام)، وقال: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)، وهذا الأصل العظيم ينبني عليه أحكام شرعية عملية مهمة… لكن المقصود هنا أن هذا الأصل ينبغي أن يكون واضحا قبل الحديث عن أي تعامل يتعامل به المسلم مع الكافر.. كونوا على يقين بأن أي نظرة تحاول أن تضع الإسلام مع غير من الأديان أو الأفكار على طاولة واحدة، وعلى مستوى واحد= كونوا على يقين أن من يروج لهذا فإنه لم يفهم دين الإسلام… كيف يستوي من يوحد الله مع من يشرك به؟! وكيف يستوي من ينزه الله تعالى عن النقائص مع من لا يقدر الله حق قدرة؟! وكيف يستوي من يعظم الحق، مع من لا يرى للحق قيمة خاصة؟!
وبناء على أن دين الإسلام هو الدين الحق وأن ما سواه باطل، وبناء على أن دين الإسلام دين رحمة ورأفة، يدعو إلى إخراج الناس من الظلمات إلى النور، فإنه أمرنا بأن نعامل بعض الكفار معاملة حسنة طمعا في إسلامهم وإنقاذهم من النار، وإظهارا لمحاسن الإسلام وتشريعاته.
ولكن حتى لا يفهم بعض الناس هذا التسامح بصورة خاطئة فلا بد من التنبيه على أمور:
الأول: أن التسامح يكون في حسن المعاملة وفيما لا يخالف الأحكام الشرعية، ولا يكون أبدا في العقيدة.. وحسن المعاملة كأن نتكلم بالكلام اللطيف اللين الرفيق وأن نتجنب الشدة، كما قال تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون).. فتأملوا كيف جمعت الآية بين حسن الأسلوب، وبين الجهر بالحق، فأمرت بالأسلوب الحسن، وأمرتنا أن نتدرج مع المخالف رفقا به، فننتقل من الأمور المشتركة بيننا إلى أن نقيم الحجة عليه فيما خالف فيه الحق..فأمرتنا الآية أن نقول لهم: نحن نؤمن بما أنزل إلينا وما أنزل إليكم،أي: أما تحريفكم الذي باشرتموه بأيديكم فلا نؤمن به..ونقول لهم: إلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون، أي: أنكم مشركون، مخالفون للعقل والفطرة التي توجب أن تكون العبادة خالصة للإله الواحد، الذي خلق ورزق ودبر أمور الكون.
فمع أنهم كفار مشركون إلا أننا يمكننا أن نعبر عن هذا المعنى بأسلوب آخر يوصل الفكرة نفسها إذا كنا نخاطبهم وندعوهم ونتكلم معهم، ولكن دون أن نستخدم العبارات التي يفهم منها أن دينهم صحيح أو أنهم أصحاب عقيدة سليمة مقبولة عند الله.. فلاحظوا كيف كان حسن المعاملة في الكلام والألفاظ،وأما عند تقرير حالهم وبيان عقيدتهم فإنهم كفار مشركون، كما قال تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة).
إذا علمنا هذا علمنا أن من يقول: إن أهل الكتاب ليسوا بكفار، أو يقول: إن دينهم دين صحيح، أو يدخل إلى كنائسهم ويقر عقيدتهم ثم يقول هذا من تسامح الإسلام، = علمنا أنه كاذب في دعواه، وأنه لم يفهم التسامح في الإسلام، بل لم يفهم الإسلام من أصله.
التنبيه الثاني: أننا لما نعامل الكفار تلك المعاملة الحسنة فينبغي أن نضع في نيتنا هدايتهم، والرفق بنفوسهم إلى أن نوصلهم إلى الهدى والنور.. فكم جلبت المعاملة الحسنة من أناس إلى الإسلام، وكم هدأت العبارة الرقيقة من نفوس عاتية، وكم ألانت من قلوب جافية.. من يقرأ سيرة النبي ﷺ يقف على عدة حوادث، يأتي فيها رجل ويسلم ثم يقول للنبي ﷺ: لقد كنت أبغض الناس إليّ والآن أنت أحب الناس إليّ.. ومن أعظم أسباب هذا التحول هو حسنُ معاملة النبي ﷺ لهم.
ها هو ﷺ يدخل على غلام يهودي كان يخدمه، فمرض الغلام  فَأَتَاهُ النَّبِيُّ ﷺ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ!!» فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ! فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ وَهُوَ يَقُول: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ». هذا هو تسامح النبي ﷺ الذي يدخل الناس في الدين، وليس ذلك التسامح الذي يخرج الناس منه.. (يريدون ليطفؤوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون).

الخطبة الثانية
التنبيه الثالث: أن كل ما تقدم فإنه يستثنى منه العدو الذي يؤذي المسلمين، أو نخاف أن يؤذي المسلمين، فهذا لا تسامح معه، كما قال تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)، فالذي يريد يوالي العدو الذي يؤذي المسلمين فإنه هو مجرم ظالم، ولو لبس مسوح الضأن، وبكى بعيون الأطفال.
إن الله تعالى جعل الشدة على أعدائه من صفات الأولياء الصالحين، الذين يحبهم ويجبونه، كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم)، وقال: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم).
عباد الله! من أراد أن يتسامح فليظهر تسامحه مع المسلمين أولا، بحسن معاملتهم، وتعظيم دينهم وتراثهم وثقافتهم.. إن كثيرا ممن يوطئون فرشهم للكفار بدعوى التسامح لا نرى لتسامحم أثرا عند التعامل مع المسلمين، فلا نرى إلا البطش والقتل والتجويع.... واعلموا عباد الله! أن معنى التسامح الصحيح الذي جاء في الدين هو شيء آخر، يختلف عن الذل والمهانة والضعف، التي يسمونها بالتسامح، شيء يختلف عن إفساد عقول الشباب والفتيات بحجة التقدم والرقي، يختلف عن نشر ثقافة الغرب بين المسلمين بحجة الانفتاح وقبول الآخر.. (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا).