إن الأرض لله...
عناصر الخطبة:
- قصة بني إسرائيل مع الأرض المقدسة.
- عبر وفوائد.
(قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)
آية جليلة من سورة الأعراف، يعظ فيها نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام بني إسرائيل، ويصبرهم على البلاء الذي كانوا يلقونه من فرعون وملائه، يصبرهم على مر العذاب الذي كانوا يعانونه… لقد كان هذا في أول عهد موسى مع بني إسرائيل، قبل أن يخرجوا من مصر، أراد موسى عليه الصلاة والسلام أن يبني عقيدتهم الصحيحة القائمة على الخضوع لله ﷻ، أراد أن يعلمهم أن تمكين الله سبحانه لعباده الصالحين إنما يمر عبر طريق الصبر والعبادة والخضوع لله عز وجل، أراد أن يعلمهم أن الأرض -كل الأرض- هي ملك لله تعالى ملك الملوك، وأنه الذي يستحق الأرض هو الإنسان الصالح الطائع الخاضع لملك الملوك، الإنسان الذي ينفذ أوامر الله ولا يتمرد عليها، الإنسان الذي لا يتكبر على خالقه… هذه هي خلاصة سنة الله تعالى في الذي يستحق هذه الأرض أو تلك؛ التقي الخاضع لله، الذي يأخذ بأسباب النصر والتمكين هو الذي يعطيه الله تعالى الأرض ويمكنه فيها ليستكمل عليها مسيرة الطاعة والعبادة، ليعمر الأرض في سبيل إصلاح الآخرة…
أرض بيت المقدس هي من أقدس البقاع على هذه الأرض، يعطيها الله سبحانه مكافأة لخيرة عباده، ويجعلها عقابا وامتحانا للمؤمنين إذا غفلوا عن طاعة ربهم، وتنكبوا طريق الحق والخير.. لقد وعدهم الله تعالى بها وعدا مشروطا بخضوعهم وطاعتهم لربهم.. فلنحاول -إذا- أن نقف مع عرض موجز لتاريخ اليهود مع هذه الأرض المباركة.
لقد حمل بنو إسرائيل تلك الكلمة: (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده)، حملوها كما حملوا غيرها من التعاليم الربانية التي لم يستفيدوا منها شيئا، حملوها كالحمير التي تحمل كتب العلم، حتى إذا جاء موعدها كانوا كمن فقد الذاكرة… لقد مرت بهم الأحداث، لكنها أحداث كانت تؤكد كلُّها إجرامَهم وقسوة قلوبهم، فلا غرابة أنه إذا جاء وقت تلك الكلمة أن نسوها! لقد نجوا من فرعون، فطلبوا من موسى أن يجعل لهم آلهة يعبدونها من دون الله، ولما ذهب موسى للقاء ربه ونزلت عليه التوراة عبدوا العجل، ثم تاب الله عليهم… ثم جاء وقت تلك الكلمة، (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده) قد حان وقت التمكين، حان وقت المكافأة، لكن بقليل من التضحية والجهاد، ها هو موسى يقول لهم وهم في صحراء سيناء: (ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين)، فيرفضون القتال، ويريدون أن يدخلوا أرض بيت المقدس وهي خالية من أي أعداء، رفضوا القتال وقالوا: (اذهب أنت وربك فقاتلا إن ها هنا قاعدون)… لقد عاقبهم الله سبحانه، وحكم عليهم بأن يتوهوا في صحراء سيناء أربعين سنة، لعل ذلك الجيل الفاسد أن يتغير، ويأتي بعده جيل آخر يستحق دخول بيت المقدس: (قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين).
انتهت الأربعين عاما، ومات موسى عليه الصلاة والسلام، وبعث الله لهم نبيا آخر، ليدخلوا معه بيت المقدس… لقد أصبحوا في حال إيمانية أفضل من السابق، لذلك استحقوا الأرض المباركة، لقد قاتلوا مع نبي الله يوشع بن نون، ونصرهم الله سبحانه على القوم الكافرين، ومكنهم من الأرض، لكن جينات الفساد والتمرد لا زالت تعمل فيهم عملها، لقد أمرهم الله تعالى أن يدخلوا بيت المقدس خاضعين لله تعالى متذللين له شكرا على نعمته العظيمة عليهم، وأمرهم أن يطلبوا المغفرة لذنوبهم السابقة، فدخلوا متكبرين زاحفين على أدبارهم، وأبوا أن يطلبوا من الله المغفرة، وفي هذا يقول تعالى: ﴿وَإِذ قيلَ لَهُمُ اسكُنوا هذِهِ القَريَةَ وَكُلوا مِنها حَيثُ شِئتُم وَقولوا حِطَّةٌ وَادخُلُوا البابَ سُجَّدًا نَغفِر لَكُم خَطيئَاتِكُم سَنَزيدُ المُحسِنينَ فَبَدَّلَ الَّذينَ ظَلَموا مِنهُم قَولًا غَيرَ الَّذي قيلَ لَهُم فَأَرسَلنا عَلَيهِم رِجزًا مِنَ السَّماءِ بِما كانوا يَظلِمونَ﴾، ومع ذلك فقد استقامت حالهم بعد ذلك، وبعث الله أنبياءه داود وسليمان، فأقاموا لهم دولة قوية، دامت ثمانين سنة، كانوا فيها على الطاعة والخضوع لله عز وجل، كانوا عبادا صالحين، ثم لما مات سليمان عادوا إلى سابق عهدهم، عادوا إلى الكفر والطغيان والتمرد، تنازعوا وقتل بعضهم بعضا، فزالت دولتهم، وسلط الله عليهم من يهدم ما شيدوه، ويبعثر ما عمروه، سلط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب، شردهم في الأرض أُمما مفرقة، وضرب عليهم الذلة والمسكنة، (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب).
هذه خلاصة قصة بني إسرائيل مع هذه الأرض المقدسة، لقد تركوها منذ ذلك الحين، لم يرجعوا إليها بعد ذلك إلا في فترات قليلة، وتحت حكم غير حكمهم، لقد انقطعت صلتهم الدينية بها تماما بسبب كفرهم، ولم تقم لهم علاقة تاريخية معتبرة عليها، إلى أن جاء العصر الحديث، وعلى حين ضعف وحالة تشرذم كبيرة من المسلمين، فتمالأ الغرب ومن والاهم من العرب، وأقاموا على أرض فلسطين كيانا لتلك الشرذمة التي لا تمت إلى هذه الأرض بصلة دينية أو تاريخية.
(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال)
الخطبة الثانية:
إن هذه القصة العظيمة تعلمنا دروسا مهمة، ينبغي لنا أن نستفيد منها في حياتنا، في صراعنا مع ذلك الكيان الغاصب، ينبغي أن نستفيد منها في توجيه البوصلة نحو التفكير الصحيح، والعمل الصحيح:
١- سبب استحقاق الأرض هو التدين بالدين الحق، مع الخضوع والطاعة لله عز وجل.. ولما كان بنو إسرائيل طائعين لله -وهي فترة قليلة- استحقوا هذه الأرض، فلما عتوا وكفروا وتمردوا لم يعودوا مستحقين لها.
وإن هذه الأمة المباركة لما اتبعت محمدا ﷺ، وهو آخر أنبياء الله تعالى للبشرية صارت مستحقة وحدها لهذه الأرض المباركة.. لقد أسرى الله سبحانه بنينا ﷺ إلى بيت المقدس، وصلى فيها إماما بالأنبياء والمرسلين، في إشارة ربانية إلى انتقال مفاتيح هذه الأرض المباركة إلى أهلها الذين يستحقونها، وسوف تبقى هذه الأرض ملكا للمسلمين إلى يوم القيامة.
وإن هذه الأمة المباركة لما اتبعت محمدا ﷺ، وهو آخر أنبياء الله تعالى للبشرية صارت مستحقة وحدها لهذه الأرض المباركة.. لقد أسرى الله سبحانه بنينا ﷺ إلى بيت المقدس، وصلى فيها إماما بالأنبياء والمرسلين، في إشارة ربانية إلى انتقال مفاتيح هذه الأرض المباركة إلى أهلها الذين يستحقونها، وسوف تبقى هذه الأرض ملكا للمسلمين إلى يوم القيامة.
٢- الميزان الذي نقيم به موقفنا من الأمم والحضارات هو مدى التزامها بأوامر الله تعالى، فأي أمة سابقة لنا، إذا كانت مستقيمة موحدة لله، طائعة لنبيها، فهم إخوتنا، ننتمي إليهم وينتمون لنا.. الإسلام ألغى روابط الجاهلية العصبية، وجعل روابط القومية والجنسية تابعة للدين، فمن كان على دين الحق فهو أخ لنا وإن بعُدت داره، أو تقادم زمانه، ومن كان على الباطل فهو عدونا وإن كان أقرب قريب.
٣- النصر لا بد له من تضحية: لقد عاقب الله بني إسرائيل لما رفضوا أن يضحوا وأن يجاهدوا لينالوا الأرض التي كتبت لهم، عاقبهم بحرمانهم منها لأنهم آثروا الدعة والراحة، وهذا يعلمنا أن النصر والتمكين الذي وعد الله به المسلمين لا يأتي على أكف الراحة والسكون، وهذه هي سنة الله تعالى في البشرية جمعاء.. فلماذا -إذا- يصر البعض على أن تحرير فلسطين يمكن أن يكون بالرقص والخلاعة والماراثونات؟!
٤- بنو إسرائيل أمة ذليلة مهينة، حكم الله عليهم بذلك… لا تظنوا أنهم تغلبوا علينا بسبب قوتهم، بل بسبب ضعفنا، هي قوة من غيرهم، لاقت ضعفا من المسلمين، لاقت خيانة من بعضهم، ولو كانوا قد تغلبوا علنا بقوتهم فما بالهم لم يستطيعوا ذلك لما كان المسلمون أقوياء، لما كانت صرخات رجالهم تقلع الجبال قبل أن تخلع قلوب الرجال!