هنا الأقصى
عناصر الخطبة:
* الفرح بنصر الله تعالى.
* بقاء الأمل في أمة الإسلام.
* أهمية دور العلماء في قضايا الأمة.
* أهمية الرجوع إلى دين الله تعالى لتحقيق النصر.
(ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم. وعد الله حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون)
الانتصار على العدو وشفاء غليل المظلوم من أعظم النعم التي امتن الله تعالى بها على الناس، فكما أن النصر فيه تمكين للحق وأهله، ونشر للخير، ودحض للباطل، فإن فيه معنى نفسيا مهما لنفوس البشر، ألا وهو الفرح بالنصر، وشفاءُ الصدر. ولعظم هذه النعمة، وأهميتها بالنسبة لكل فطرة سليمة، فقد شرع الله تعالى لعباده الفرح بالنصر، وشرع لهم أن يتشفوا بأعدائهم، ولذلك شواهد عديدة في القرآن الكريم، فقوله تعالى: (ويومئذ يفرح المؤمنون) إنما نزل في خبر انتصار الروم على الفرس، وقد نزلت بمكة، لما كان الصحابة فيها مستضعفين، يدخل الحزن والقهر في نفوسهم، فوعدهم الله تعالى بأنهم سيفرحون بنصر الله تعالى بعد بضع سنين.
وتأملوا تلك الآية الكريمة التي عرضت لنا مشهد إغراق فرعون وقومه، حيث يقول الله تعالى فيها: (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون)، لاحظوا قوله تعالى: (وأنتم تنظرون)، قال أهل العلم: إن الله تعالى أغرق فرعون وقومه أمام أعين بني إسرائيل ليكون ذلك أشفى لصدورهم.
وانظروا إلى تلك الآية الكريمة التي وصفت لنا مشهد القتال وجعلت إنزال الهزيمة والعذاب بالعدو وشفاءَ الصدور، جعلتها من الأمور التي تحث النفس على القتال حيث قال تعالى: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيدكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين. ويذهب غيظ قلوبهم).
إن إلحاق الغيظ والهزيمة النفسية بالكفار هو من الأعمال المرضية عند الله سبحانه، كيف لا، وهم قد حادوا الله وكفروا به، وصدوا الناس عن دينهم (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدنا فتربصوا إنا معكم متربصون).
عباد الله! إن الله تعالى رحيم بعباده، ومن تمام رحمته أن يتمم النصر بالفرح وشفاء الصدور، وكيف لا يشفي المظلوم صدره وقد علاه الظالم وقهره، ومنعه من عبادة ربه وإقامة دينه سنين عددا، وأخذ ماله وأرضه واستباح عرضه.. ومن تأمل في هذا المعنى تجلت له عظمة التشريعات الربانية، التي تراعي خفايا الصدور وخلجات النفوس، وتوجهها التوجيه السليم.
عباد الله! لقد عاينا بالأمس مشاهد عظيمة، شفت صدور المؤمنين، وأغاظت الكافرين، مشاهد لطالما تشوقت نفوس المؤمنين لرؤيتها، مشاهد أعادت لنا شيئا من الأمل، جلعتنا نرى شيئا من النور وسط ذلك الركام والظلام، وحق لنا عباد الله أن نقف مع ذلك المشهد التاريخي المهيب الذي دخل فيه المسلمون إلى المسجد الأقصى، بعد صبر ومصابرة، في مشهد أحرق قلوب اليهود وأكبادهم حتى لم يستطعوا أن يقابلوه إلا بالقمع والإجرام.. حق لنا أن نقف معه وقفات.
أما الوقفة الأولى فهي وقفة تبعث الأمل في نفوس الأمة، لقد أخبرنا النبي ﷺ بأن الخير لا ينقطع في هذه الأمة، وأنها أمة تنبض بالحياة ولو تكالب عليها الأعداء.. فمع الهزائم العسكرية التي مني بها المسلمون في هذا الزمان، والذي تبعه موجات من الهزائم النفسية، وموجات من الأفكار التغريبية الدخيلة على هذه الأمة، كالأفكار العلمانية والإلحادية.. هذه الأفكار التي يهدف الكفار من نشرها بيننا إلى إبعادنا عن ديننا، وإبعادنا عن عزتنا وكرامتنا، هذه الأفكار التي تهدف إلى تدجين الشعوب، وتهدف إلى التسوية بين الضحية والجلاد، إلا أن الإسلام يبقى في القلوب لا تخبو جذوته، ولا ينطمس نوره مهما وقع للمسلم من تقصير وتأثر بتلك الأفكار الانهزامية المخالفة لدين الإسلام.. إن نور الإسلام قادر على طمس تلك الظلمات.. لقد علمتنا تلك المشاهد أن الأمل لا ينقطع من هذه الأمة، وأن جنود النصر موجودة في داخلنا لو وجدت من يحسن تحريكها وتوجيهها.
أما الوقفة الثانية فهي أن هذه الأحداث قد أبرزت لنا دور أهل العلم الشرعي في إدارة هذه المعركة، في مشهد مهيب، تقدمت فيه تلك اللحى التي شابت في طاعة الله تعالى، تقدمت فيه تلك العمائم الطاهرة، تقدمت لتأخذ دورها الذي غُيِّبت عنه سنين عددا، لكنها الآن في المقدمة وبين الصفوف، قدمها صدقها، قدمها تضحتها.. شجاعة وإقدام، وحكمة وحزم.. هاهم أهل الدين يقدمون نماذج تعلم السياسيين ما معنى السياسة، وتعلم المتاجرين بقضايا الأمة كيف تكون القيادة.. لقد أبدوا حنكة عظيمة، وقدرة كبيرة على قراءة الواقع، وتقدير المواقف، لقد أبدوا شجاعة عظيمة، لم يخونوا ولم يرضخوا لضغط.. كانوا أحرارا وعلموا الناس معنى الحرية.
وكأني بذلك الذي يحتقر أهل الدين ويلمزهم بأنهم مغفلون سذج، لا يفهمون ولا يفقهون.. كأني به يقف أمام شموخهم فاغرا فاه، محدقا بعينيه.. أهؤلاء الذين كنت ألمزهم بأنهم غير متحضرين وغير مثقفين… فبئست الثقافة تلك التي تزري بالدين وأهله، وتجعل صاحبها يقف على الحياد من نصرة دينه وقضايا أمته.
إن مثل هذا الموقف ليؤكد لنا تلك الحقيقة التي نطقت بها النصوص الشرعية من بقاء من يقول الحق في أمة الإسلام، حتى ولو كثر الدجالون وتجار الدين، ومحرفو الكلم عن مواضعه، فإن تلك الفئة من العلماء المتمسكة بالهدى تبقى كالنجم يبرق ويسطع بين الظلمات، ليهتدي به كل ضال، ويقتدي به كل ناشد للرشاد.
ودور هؤلاء العلماء لا بد أن يكون بارزا قياديا في هذه الأمة، لأنهم ينظرون إلى الواقع ببصيرة الوحي والشريعة، ويخشون ربهم فيما يقولون ويفعلون، وكما أن خشية الله تعالى تعين على اجتناب الحرام، وتنجي يوم الحساب، فإنها كذلك تحمي الأوطان وتصون المقدسات، وصدق الله إذ قال: (إنما يخشى الله من عباده العلماء).
الثانية
إن مشهدا كهذا حري أن يعيد توجيه البوصلة، حري أن يعيدنا إلى فهم السبب الصحيح الذي نقاتل من أجله، ونحيا ونموت في سبيله.. لقد أخبرنا الله تعالى أن النصر بيده، لا يكون إلا من عنده، (وما النصر إلا من عند الله)، (ولينصرن الله من ينصره)، (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله)، فإذا أردنا أن يتم الله علينا نعمته، ويمن علينا بالنصر الأكيد فعيلنا أن ننصر هذا الدين، ونصر هذا الدين يكون بالتمسك به، والاستقامة عليه، نصر هذا الدين يكون بنبذ كل دين سواه، وكل فكر عداه، آن لنا أن نعرف أن معركتنا مع اليهود هي معركة دينية بالمقام الأول، وأن الدفاع عن أرض الإسلام ومقدسات المسلمين ما هو إلا دفاع عن الإسلام.. لقد آن لنا أن نعلم أن التزام طاعة الله تعالى من أهم ما يأتي بالنصر، وهذا الالتزام عام لكل أحكام هذا الدين، لقد أخبرنا النبي ﷺ أن انتشار المعاصي بيننا، والتكالب على الدنيا، وترك الجهاد هو سبب الذل والهوان، قال عليه الصلاة والسلام: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم».
لقد علمتنا هذه الأحداث أمرا يبدو أنه قد غاب عن البعض، وهو أن المظلوم لا يأخذ حقه بالورود والرياحين، ولا بالكلام والاستنكار، بل بالقوة والبأس والمدافعة والجهاد، فواجب علينا عباد الله أن نأخذ بالأسباب الإيمانية والمادية التي تحقق لما ذلك، وإن الله تعالى قد وعد عباده الصالحين بالنصر والتمكين إن هم استقاموا على الدين وأخذوا بالأسباب المادية للنصر (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا).