الجمعة، 5 مايو 2017

(ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا…)
عناصر الخطبة:
  • ذكر جملة من عتو بني إسرائيل.
  • تقسيم معاصيهم إلى قسمين.
  • التحذير من سلوك طريقتهم

﴿وَلَو أَنَّ أَهلَ الكِتابِ آمَنوا وَاتَّقَوا لَكَفَّرنا عَنهُم سَيِّئَاتِهِم وَلَأَدخَلناهُم جَنّاتِ النَّعيمِ . وَلَو أَنَّهُم أَقامُوا التَّوراةَ وَالإِنجيلَ وَما أُنزِلَ إِلَيهِم مِن رَبِّهِم لَأَكَلوا مِن فَوقِهِم وَمِن تَحتِ أَرجُلِهِم مِنهُم أُمَّةٌ مُقتَصِدَةٌ وَكَثيرٌ مِنهُم ساءَ ما يَعمَلونَ﴾ [المائدة: ٦٥-٦٦]
آيتان كريمان من سورة المائدة، ذكرهما الله سبحانه بعد ذكر جملة من عتو بني إسرائيل وطغيانهم، ومقابلتهم لنعمة الله تعالى عليهم بالكفر، فالله سبحانه وتعالى ذكر عنهم في بداية هذه السورة أنهم نقضوا الميثاق الذي أخذه عليهم من الإيمان برسل الله جميعا ونصرهم، وفي مقدمهم محمد ﷺ قال تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية)، وذكر أنهم حرفوا التوراة والإنجيل   (يحرفون الكلم عن مواضعه)، ثم ذكر سبحانه تحريف النصارى لعقيدة التوحيد التي أوحى الله بها إلى عيسى، وكفّرهم لأجل ذلك: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم )، وذكر كذب اليهود والنصارى لما قالوا (نحن أبناء الله وأحباؤه)، ثم ذكر رفضهم الشديد لدخول بيت المقدس حتى قالوا لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ثم ذكر استكبارهم وتوليهم عن تحكيم شريعة ربهم، وقال  : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، ثم ذكر استهزاءهم بصلاة المؤمنين  (وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا)، وذكر حقدهم على المسلمين لأنهم مسلمون فقط  : (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون)، وذكر مسارعتهم إلى العصيان والإثم وأكل المال الحرام (وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت )، ثم ذكر أن طغيانهم واعتداءهم وصل قمة الطغيان والإجرام، وذلك بالاعتداء على ذات الله سبحانه ووصفه بالنقائص، فذكر عن اليهود قولهم: يد الله مغلولة، وذكر عن النصارى من قبل أنهم قالوا: المسيح ابن الله.
وقد تخلل ذكرَ هذه الجرائم عنهم ذكرُ بعض العقوبات التي عوقبوا بها، وتحذير المسلمين من سلوك طريقهم، ثم قال سبحانه : ﴿وَلَو أَنَّ أَهلَ الكِتابِ آمَنوا وَاتَّقَوا لَكَفَّرنا عَنهُم سَيِّئَاتِهِم وَلَأَدخَلناهُم جَنّاتِ النَّعيمِ . وَلَو أَنَّهُم أَقامُوا التَّوراةَ وَالإِنجيلَ وَما أُنزِلَ إِلَيهِم مِن رَبِّهِم لَأَكَلوا مِن فَوقِهِم وَمِن تَحتِ أَرجُلِهِم مِنهُم أُمَّةٌ مُقتَصِدَةٌ وَكَثيرٌ مِنهُم ساءَ ما يَعمَلونَ﴾، آيايتان لا يملك الإنسان أمامهما إلا أن يقف مذهولا حائرا، كيف جمعت بين فتح باب التوبة للمجرم، وذكر الجزاء العظيم على ذلك في الدنيا والآخرة، مع ذكر الجريمة التي ارتكبها أهل الكتاب، مع ذكر انقسامهم إلى قسمين  : قليل مقتصد ممتثل لأمر الله، وكثير مجرم معرض، مع الإشارة إلى تحذيرنا من سلوك طريقتهم، كل هذا في قالب بديع، يخاطب العاطفة والعقل في وقت واحد. 
… لو آمن أهل الكتاب بمحمد ﷺ، وتركوا التمرد والعصيان، لأدخلناهم جنات النعيم، ولو أنهم امتلثوا ما جاء في كتبهم ولم يحرفوها لنالوا خير الدينا كذلك.
عباد الله! إذا تأملنا هاتين الآيتين نجد أن الله تعالى أشار إلى أن المعاصي والجرائم التي وقع فيها بنو إسرائيل كانت على نوعين: نوع يتعلق بعدم وجود التقوى التي تحمل الإنسان على طاعة الله سبحانه، وتساعده على الانتصار على نفسه وشهواته، وأشار إلى هذا بقوله: (ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا)، فذكر أنهم لم يكن عندهم من الخوف والتقوى ما يتغلبون به على نفوسهم المريضة المتمردة العاتية، فذكر هنا مرض الشهوات.
والنوع الثاني: يتعلق بعدم وجود التسليم القلبي لأوامر الله سبحانه، والمتمثل بتحريفهم لدينهم، وبتحريفهم لنصوص التوراة والإنجيل ومعانيهما، وأشار إلى ذلك بقوله: (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ما أنزل إليهم من ربهم )، فذكر أنهم حرفوا دينهم وزادوا فيه ونقصوا، وهذا هو مرض الشبهات التي تتعلق بالفكر والاعتقاد.
والحقيقة -عباد الله!- أن الإنسان إذا جمع بين هذين المرضين فإنه يكون مزيجا من التمرد والطغيان والإعراض عن ذكر الله سبحانه… فالإنسان قد تغلبه شهوته ويعصي، لكنه قد يتوب ويرجع بعدما ينال ما يريد من شهوة أو مال، ويبقى قريبا من التوبة، لكنه إذا جمع مع هذه الشهوة شبهة ورأيا فكريا يقنعه أن هذه المعصية أمر مطلوب، والله سبحانه يحب هذه المعصية فهذه هي المصيبة الكبرى، ومن كانت هذه حاله كان بعيدا عن التوبة، وإن كان باب التوبة مفتوحا له كذلك إذا تخلص من الفهم المحرف لدينه.
وأهل الكتاب -كغيرهم من أهل الضلال-  قد جمعوا بين الأمرين: فلم يتغلبوا على شهواتهم، وحرفوا دينهم ليوافق هواهم، فمن أمراض الشهوة عندهم   : أكلهم للمال الحرام  بالباطل، وقعودهم عن القتال، وعدم إيمانهم بمحمد ﷺ كبرا وحسدا.
ومن أمراض الشبهات: تحريفهم لنصوص التوراة والإنجيل، وتحليل الحرام، وتحريم الحلال، وعدم الحكم بما أنزل الله، ووصفهم لله تعالى بالنقائص.
فأنتج هذا نفوسا شيطانية عاتية، تقوي شبهاتُها شهواتِها، وتقوي شهواتُها شبهاتِها، في حالة ليست بدعا من الضلال والانحراف، وليس جديدة من الإجرام والاعتساف، فأهل الكفر من كل ملة جمعوا بين الأمرين، وأهل الانحراف في زمان يجمعون بين الطريقتين.
إلا أن الله سبحانه قد أكثر من ذكر حالة أهل الكتاب لنا في القرآن، وأبدأ وأعاد ذكر قصصهم لنا: بسبب سرعة تأثر بعض المسلمين بهم، لكونهم أهل كتاب، وأهل علم… لكن ما نفع العلم إذا كان سببا في الضلال والانحراف؟!
لا توجد قصة في القرآن تكرر ذكر كقصة بني إسرائيل، ولم يذكر لنا القرآن تفاصيل قصة كما ذكر تفاصيل قصة بني إسرائيل، والله سبحانه يحذرنا من سلوك طريقتهم، في أثناء تلك القصص وقبلها وبعدها، وحذرنا نيبنا ﷺ كذلك بقوله: «لتتبعن سنن من كان قلبكم حتى لو دخول جحر ضب لدخلتموه». قالوا: آليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟.

الثانية
بعدما عرفنا -عباد الله- خطورة حال أهل الكتاب، وأن الله تعالى حذرنا من اتبعاعهم… فهل هناك صور واقعية من هذا الاتباع؟ هل هذا واقع نعشيه؟ أم أنه شيء ذهب ومضى قديما؟
كلا، فالذي ينظر في حال المسلمين اليوم يرى صورا لا تعد ولا تحصى في وقت ضيق من تلك الصور.
أما على سبيل الشهوات: فنرى أكل المال بالباطل والغش والتعامل بالربا كثيرا فاشيا بين المسلمين، نرى قلة الالتزام بالحجاب الشرعي وشروطه، نرى التهافت على الدنيا وحبها، وكراهية الموت والجهاد في سبيل الله، وحتى على سبيل المظهر والملابس صرنا نرى كثيرا من شباب المسلمين يحرصون عي التشبه بمظاهر الغرب، من دون أدنى تفكير.. لماذا أفعل هذا؟!
وأما فيما يتعلق بالشبهات: فكثير جدا، وهو الداء العضال، والمصيبة الكبرى، أما تحريف الدين فحدث ولا حرج… حملات يقوم بها كهنة الفساد والفهم الحداثي للإسلام، تهدف لإخراج دين ممسوخ، بعضهم يريد موافقة حاكم، وبعضهم يريد موافقة الغرب، وبعضهم يريد تسويغ شهوة، ويسترون كل هذا التحريف بغطاء الإصلاح والتجديد الديني، كإنكار كون أحاديث النبي ﷺ حجة شرعية، وكقولهم بلزوم فهم القرآن فهما جديدا يتوافق مع العصر.. وكثير من الناس يتأثرون بهم إما بحسن نية، أو سوء قصد وطوية.
ومن ذلك محاولة تحريفهم لثوابت الإسلام التي لم يختلف المسلمون فيها يوما، كقولهم: اليهود والنصارى ليسوا كفارا،  بدعوى التسامح الديني، وكقولهم   لا يجب الحكم بالشريعة،  بدعوى التطور والحداثة، إضافة إلى ما يذكرونه فيما يتعلق بالمرأة: من عدم وجوب الحجاب عليها، وعدم قوامة الرجل عليها، إلى غير ذلك مما يقولونه، من تحليل الخمر، والربا وغير ذلك.
كل ذلك -عباد الله!- بطرق خبيثة وستار ديني، موافقين في ذلك لأهل الكتاب، وهل تظنون أن تحريف الأحبار والرهبان كان بمصادمة نصوص التوراة والإنجيل وادعاء بطلانها، كلا والله ما كان إلا بتحريفها وادعاء أن ما توصلوا إليه بعقولهم وشهواتهم هو مراد الله تعالى.
(فويل للذين يكتبون الكتاب بأيدهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون)