أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
عناصر الخطبة:
بنو إسرائيل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
خطورة السكوت عن المنكرات في ضوء نصوص شريعة الإسلام.
من الآثار السيئة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون)
هذه الآية الكريمة هي آية من سورة الأعراف، جاءت ضمن آيات كثيرة تتحدث عن عتوّ بني إسرائيل واستكبارهم على أوامر الله تعالى، وهي من الصفات المتجذّرة فيهم، ولقد حكَت لنا هذه الآيات قصة من تلك القصص، قصة تلك القرية التي مُسخ كثير من أهلها إلى قردة وخنازير… إن الله تعالى شدد على بني إسرائيل في شريعتهم، ووضع عليهم آصارا وأغلالا بسبب عتوهم وتمردهم وعدم استجابتهم لأوامر الله؛ ومن ذلك: أنه حرم صيد الأسماك على أهل تلك القرية يوم السبت عقوبةً لهم، وقد زِيدَ عليهم البلاء بأن جعل الله الأسماكَ تأتيهم يوم السبت بشكل كبير، ولا تأتي في الأيام الأخرى، حتى تمرد بعضهم واحتالوا على أمر الله تعالى بِحِيل، منها: أنهم حفروا الأخاديد على الشاطئ يوم الجمعة، وأخذوا الأسماك يوم الأحد، ثم قالوا: لم نصطد يوم السبت! وقد استوجبوا بهذا الفعل عقوبة الله وغضبه. وأما بقية أهل القرية فكانوا قسمين: قِسم اعتزل، فلم يَعْصِ ولم يتمرد، لكنه سكت ولم ينكر، وقِسم أنكر على أولئك الجناة، ووعظوهم وحذروهم من التمرد على أوامر الله تعالى… وقبل أن يقع العذاب وجه أولئك الساكتون سؤالا إلى المنكرين فقالوا: (لم تعظون قوما الله مهلكم أو معذبهم عذابا شديدا)، لماذا تعظونهم، وتأمرونهم بالمعروف، وهم قد استوجبوا العقوبة، وقد غضب الله عليهم، فأجابهم الفريق المنكر (قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون)، أي ننكر عليهم حتى نُعذَر عند الله تعالى أولا، فإن نزل العذاب فلا يكون شاملا للجميع، ثم إن هناك احتمالا -ولو كان ضعيفا -لاستجابتهم، فلعلهم يتقون ويتركوا ذلك العصيان… فلما لم يستجب أولئك العصاة عوقبوا ومُسخوا قردة وخنازير، ونجا المنكرون، وسكتت الآيات عن ذكر مصير الساكتين المعتزلين، فلسنا ندري يقينا ما حل بهم (فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون).
وهذه قصة فيها عبر وعظات عظيمة، لكن الذين نريده منها في هذا المقام، هو أن نأخذ منها أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن نستفيد منها أنه ليس من شرط العقوبة العامة التي تعم المجتمع= أن يعصي كل أفراد المجتمع، بل يكفي وقوع المنكرات الظاهرة في المجتمع من قبل مجموعة معينة من الناس، من دون نكير من الصالحين… لقد جاءت نصوص الشرع الكثيرة مؤكدة لهذا المعنى، ومبينة أن هذه هي سنة الله في خلقه…
ما حدث في تلك القرية من إنكار للمنكر كان قليلا في بني إسرائيل، وقد أثنى الله على تلك الطائفة القليلة في أكثر من موضع، منها قوله تعالى: (من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون. يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين).
وأما الحالة الغالبة على بني إسرائيل فكانت بخلاف ذلك، لم يكونوا ينكرون المعاصي بينهم، وإن أنكروها فهو إنكار شكلي غير حقيقي، لذلك استحقوا لعنة الله تعالى عليهم حيث قال: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يعلمون)، كانوا لا ينهى بعضهم بعضا عن ارتكاب الكفر والتمرد على أوامر الله تعالى، وإن أنكروا فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم عنهم: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم) إلى قوله: (فاسقون) ثم قال: «كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا - أو تقصرنه على الحق قصرا».
ومصداقا لذلك فقد حذرنا الله من مخالطة العصاة حال عصيانهم مع عدم الإنكار عليهم فقال: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم).
عباد الله! إن هذا المعنى وهذه السنة الربانية تؤكد لنا أن سلامة المجتمع من الآفات والبلايا والمعاصي هي مسؤولية المجتمع كله، فإذا كان الأمر يتعلق بالكفر والإلحاد والكبائر والمعاصي الظاهرة المعلنة فلا مكان للحديث عن الحرية الشخصية، وعدم التدخل في شؤون الآخرين، بل إن الذي يأكل الربا يؤثر علينا جميعا، والتي تتبرج تؤثر علينا جميعا، والذي لا يحكم الشريعة يؤثر علينا جميعا، والذي يدعو إلى الإلحاد أو العلمانية يؤثر علينا جميعا… قال عليه الصلاة والسلام: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعا».
شبه النبي صلى الله عليه وسلم المجتمع في هذا الحديث بالسفينة، وفي أعلاها أناس وفي أسفلها أناس، فقال الذين في أسفلها: نريد أن نحدث فتحة في "نصيبنا" لأجل الماء، فإن تركوهم ليفعلوا ذلك غرقت السفينة وهلكوا جميعا، وإن نهوهم ولم يسمحوا لهم نجوا جميعا. وقال صلى الله عليه وسلم يقول : «إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه، فلا ينكرونه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة».
الثانية
فإن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له آثار سلبية كثيرة على المجتمع، فمنها: أنه سبب لعدم استجابة الدعاء بعد نزول البلاء، قال عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم».
ومن هذه الآثار السيئة: "أنه يجريء العصاة والفسقة على الإكثار من المعاصي إذا لم يردعوا عنها، فيزداد الشر وتعظم المصيبة الدينية والدنيونية، ويكون لهم الشوكة والظهور، ثم بعد ذلك يضعف أهل الخير عن مقاومة أهل الشر، حتى لا يقدرون على ما كانوا يقدرون عليه أولا".
وقد رأينا بأعيننا ونرى جرأة بعض الناس في هذه البلاد على المنكرات، وما ذلك إلا بسبب ضعف الإنكار وقلته، فما نراه من عبث بالمناهج، ومن تغريب تتعرض له المدارس، ومن مهرجانات غنائية هابطة هنا هناك، ومن دعوات إفساد المرأة وغير هذا من المنكرات = فإن ضعف الإنكار من عوامل تقوية شوكة المبطلين.
"ومنها: أن في ترك إنكار المنكر اندراسَ العلمِ وكثرة الجهل، فإن المعصية مع تكررها وصدورها من كثير من الأشخاص وعدمِ إنكار أهل الدين والعلم لها يُظن أنها ليست معصية، وربما ظن الجاهل أنها عبادة مستحسنة، وأي مفسدة أعظم من اعتقاد ماحرم الله حلالا وانقلاب الحقائق على النفوس ورؤية الباطل حقا؟!.
ومنها: أن السكوت على معصية العاصين ربما يزين المعصية في صدور الناس، ويقتدي بعضهم ببعض، فالإنسان مولع بالاقتداء بأضرابه وبني جنسه"…
(ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز. الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور).